د. محمد عبدالله القواسمة - مظفر النواب وغالب هلسا

تتشابه حياة الشاعر العراقي مظفر النواب، الذي رحل عن عالمنا في 20 أيار/مايو 2022 وحياة الروائي والأديب الأردني غالب هلسا، الذي توفي في دمشق عام 1989. فكلا الراحلين من مواليد ثلاثينيات القرن الماضي، ومن رواد الأدب العربي بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن كلًا منهما اعتنق الفكر الماركسي، واضطهدا من أجل ذلك من الأنظمة العربية. فمظفر النواب زُج به نهاية عام 1963 في سجن الحلة وسط العراق بسبب قصيدته العامية المشهورة "البراءة"، واستطاع الهرب إلى إيران، ولكن السلطات هناك أعادته إلى العراق، وحكم عليه بالإعدام، لكن الحكم خُفف إلى السجن مدى الحياة، وفي عام 1969 صدر عفو عام عن المعارضين السياسيين فغادر العراق ليتنقل بين العواصم العربية: دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وبين دول أجنبية مثل: إريتريا وفيتنام واليونان، والبرازيل وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها. وظل منفيًا خلال حكم الرئيس السابق صدام حسين، وعاد إلى العراق عام 2011 مع الجيش الأمريكي الذي غزا العراق عام 2003، ثم عاد إلى المنفى من جديد. وفي النهاية يموت في مستشفى الشارقة التعليمي بدولة الإمارات العربية المتحدة.

لقد عاش النواب السنين الطويلة بعيدّا عن وطنه العراق دون أن يقترف جريمة أو يغرق في فساد. كان كل ما قام به أن كتب بالعامية ديوانه "للريل وحمد"، ونظم عدة قصائد غاضبة، مثل: "وتريات ليلية" و"قمم"، و"المساورة أمام الباب الثاني"، تغنى فيها بحبه لوطنه العراق وأمته العربية، وقضيتها الأولى فلسطين، وتمجيد عاصمتها القدس والدعوة إلى تحريرها، والوقوف في خندق الدفاع عنها من الغزاة الصهاينة.

أما غالب هلسا فقد نفي عن وطنه الأردن ليتنقل في منافي الوطن العربي، ويسجن في بيروت والقاهرة، ويطرد من مصر إلى العراق، ومن العراق إلى سوريا، ويستقر في النهاية في دمشق، ويموت فيها، وتسمح له السلطة بأن يعود في كفن إلى وطنه الأردن ليدفن فيه، بعد ثلاثين عامًا من النفي.

وإذا كان مظفر النواب سلاحه القصيدة في مواجهة الواقع العربي والدفاع عن الغلابى والمضطهدين فإن غالب هلسا لم يكن سلاحه غير الفكر والرواية، سلاحه رواياته السبع: "سلطانة"، و"الخماسين"، و"البكاء على الأطلال" و"الروائيون" و"ثلاثة وجوه لبغداد" و"السؤال"، و"الضحك"، وكتبه، مثل: "المكان في الرواية العربية"، و"[ الجهل في معركة الحضارة " و"فصول في النقد".

ما يلفت الانتباه ذلك التشابه الغريب في نهاية الأديبين الشاعر والروائي بأنهما ماتا في المنفى بعيدًا عن وطنهما، ولم يكرما في حياتهما بل كرما بعد الموت. حيث أرسلت طائرة رئاسية لجذب جثمان مظفر من الشارقة ليدفن في بغداد مسقط رأسه. أما غالب هلسا فقد سمحت السلطة بمجيء جثمانه من دمشق ليدفن في عمان، ثم منحته جائزة الدولة التقديرية بعد ثمانية عشر عامًا من وفاته، كما استحدثت رابطة الكتاب جائزة باسمه، ووعدت وزارة الثقافة، وإن لم تف بوعدها، بتحويل منزله في ماعين متحفًا ثقافيًا.

لا شك أن نهاية هذين الأديبين تُنشب في الذهن أسئلة مرة: لماذا لا ينتبه رجال الحكم إلى أن من أبناء جلدتهم من يستحق التكريم لا النفي والسجن والعذاب؟ لماذا هذا الإيذاء لأصحاب العقول النيرة والقلوب الرقيقة النبيلة، التي ليس همها غير التعبير عن عواطف الناس وآمالهم وأحلامهم، وإنارة الدرب أمامهم؟ لماذا هذا الموقف القاسي بالنفي عن الوطن من البداية إزاء أصحاب الفكر والمبدعين؟ لماذا لا يكون التسامح بدلًا من الانتقام والعنف؟ لماذا لا نتقبلهم، ونقترب من عالمهم الجميل، وندرك أن حركة الحياة تقوم على تنوع الفكر واحترام الاختلاف؟ لماذا يأتي تقدير هؤلاء متأخرًا وكان الأجدى أن يكون وهم على قيد الحياة؛ فهم شموع على طريق التنوير والتحرر والتقدم؟

لعل من الدروس التي نتعلمها من تكريم الشاعر مظفر النواب وغالب هلسا بعد وفاتهما أن نلتفت شعوبًا وحكومات إلى من تبقى حولنا من الأدباء والمفكرين، وأن نتسامح مع شطحاتهم الفكرية والخيالية، وحتى شتائمهم كما في حالة مظفر النواب، وأن نحتضنهم كما تحتضن الأم أبناءها، نحتضنهم قبل أن يرحلوا، فربما نقع في الندم على ما فعلناه بهم، والتحسر على فقدهم، ونردد مع الشاعر إيليا أبي ماضي:

وعلمت حين العلم لا يجدي الفتى أن التي ضيعتها كانت معي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى