دائما ما يأخذ جانب الطرقات، متحاشيا ألا يعترضه أحد، فهو يريد لروحه والجسد أن ينفردا بفضاءات بلا ضجيج ومزاحمة،سالكا الدروب الخالية كمسارات يقطعها على غير هدى، فطالما هناك أمتدادا في الشوارع يكون
حيز رحلته اليومية، التي تنتهي مساءً عند حائط جامع أو جذع شجرة وارفة يُتكئ ظهره لحين
أنبلاج الفجر، مستيقظا والعصافير في وقت واحد، مؤديا صلاة أبتكرها لنفسه، هي مزيج
من صلوات الاديان السماوية الثلاثة، متخذا كل
يوم قبلة يولي وجهه شطرها، ليبدأ رحلة جديدة،
ممسكا بعصا طويلة أَعصبَ أعلاها بأسمال من خرق سود بدت وكأنها رأس انسان يسير معه،
يُؤنسهُ في وحشةِ الاعتزالِ، وفي الليل تمسي سلاحا يدرء بها الخطر،
لكن المأرب الأهم هو حديثه وأياها، مفضفضا
عن إرهاصات لايُعرف معها هل هذا كلام عاقل
من رأس مجنون، أم كلام مجنون من رأس عاقل،
وعلى هذا الاختلاط بين حابله بنابله، يغبطه الآخرون على عيشة بها طلق الحياة بالثلاث، متخلصا من منغصات هم يكابدونها، فهو لا عين
ترى ولا قلب يحترق، تاركا الأمور على غاربها،لكن
ما كان له أن يعاود المدينة بعدما قضى وطرا
في عرزال على مشارفها، لولا حاجته إلى أن يسمع ويرى ويحس الاخرين، فطرة جُبلَ عليها
الإنسان حتى وإن فقد عقله،
ولفطرته النقية أمتلك مجسا لمعرفة سرائر الاخرين، لذا يعايشهم عن بُعد ملتزما بالصمت
غير آبه بتعليقات من يمر بهم، لكنه بين الحين والاخر، يكسر حاجز الصمت ،وكأنه أستجمع من الحديث ما لم يستطع كتمانه، فيتخذ من دكة
مرتفعةعلى قارعة طريق يعج بالمارة منبرا، ليصعد خطيبا بجمهورٍ يأخذه الفضول بالأستماع ،وما أن ينهي يودع بالتصفيق والصفير،
ويبقى في المكان صدى قهقهاتهم على خطبة مزج جدها بهزلها ،وأفسد عسل مقدمتها بخل الخاتمة، هكذا اعتادوه، لكن هذه المرة كان الوضع
مختلفا، بهلولان في نفس المكان! ! أمر غير معتاد، فما أن صعد عباس برفقة عصاه الدكة ليبدأ خطبته.
أيها الناس خذوا من عباس... كلام فيه صالحكم
حدثني نفر ممن مات قبلنا، إن في الموت راحة
وما الحياة الا معبر لضفة أخرى وما بين الضفتين نهر... فأمشوا دهرا ولا تعبروا نهرا...
لكن صوتا قطع عليه إكمال خطبته.. مباغةً...
ياااااجاهل..
أن الحياة صحراء أطرافها متراميه.. والناس نيام
بلا خيام والشمس حارقة..
كيف لك أن تقول إنها نهر!!
التفت الناس..
أنه رجل خمسيني، أشعث مغبر، كث اللحية
كأن الماء لم يمر على جلده من قبل، وسوف لن يمره من بعد..
ذُهلَ عباس، إذ لم يعتد المقاطعة، واغتاظ ولم
يأخذ بحسن سريرته الأمر لايعدو كونه نقاشا،
فجاء جوابه...
الجاااااهل،
من يرى الحياة صحراء.. وما هي إلا نهر بكل مايحمله من غدر وأسرار وغموض وغضب...
لكنه جميل رغم مساوئه.
لقوة حجة عباس..
جاء التصفيق والصفير على أشده... لينتهي الجدل
ويغادران كلاهما المكان و العيون تقتفيهما..
فعلق رجل كان يتابع الحديث بشغف.. بعدما هز رأسه وابتسم...
خذوا الحكمة من أفواه المجانين.
قحطان عدنان السوداني
العراق/ بغداد
حيز رحلته اليومية، التي تنتهي مساءً عند حائط جامع أو جذع شجرة وارفة يُتكئ ظهره لحين
أنبلاج الفجر، مستيقظا والعصافير في وقت واحد، مؤديا صلاة أبتكرها لنفسه، هي مزيج
من صلوات الاديان السماوية الثلاثة، متخذا كل
يوم قبلة يولي وجهه شطرها، ليبدأ رحلة جديدة،
ممسكا بعصا طويلة أَعصبَ أعلاها بأسمال من خرق سود بدت وكأنها رأس انسان يسير معه،
يُؤنسهُ في وحشةِ الاعتزالِ، وفي الليل تمسي سلاحا يدرء بها الخطر،
لكن المأرب الأهم هو حديثه وأياها، مفضفضا
عن إرهاصات لايُعرف معها هل هذا كلام عاقل
من رأس مجنون، أم كلام مجنون من رأس عاقل،
وعلى هذا الاختلاط بين حابله بنابله، يغبطه الآخرون على عيشة بها طلق الحياة بالثلاث، متخلصا من منغصات هم يكابدونها، فهو لا عين
ترى ولا قلب يحترق، تاركا الأمور على غاربها،لكن
ما كان له أن يعاود المدينة بعدما قضى وطرا
في عرزال على مشارفها، لولا حاجته إلى أن يسمع ويرى ويحس الاخرين، فطرة جُبلَ عليها
الإنسان حتى وإن فقد عقله،
ولفطرته النقية أمتلك مجسا لمعرفة سرائر الاخرين، لذا يعايشهم عن بُعد ملتزما بالصمت
غير آبه بتعليقات من يمر بهم، لكنه بين الحين والاخر، يكسر حاجز الصمت ،وكأنه أستجمع من الحديث ما لم يستطع كتمانه، فيتخذ من دكة
مرتفعةعلى قارعة طريق يعج بالمارة منبرا، ليصعد خطيبا بجمهورٍ يأخذه الفضول بالأستماع ،وما أن ينهي يودع بالتصفيق والصفير،
ويبقى في المكان صدى قهقهاتهم على خطبة مزج جدها بهزلها ،وأفسد عسل مقدمتها بخل الخاتمة، هكذا اعتادوه، لكن هذه المرة كان الوضع
مختلفا، بهلولان في نفس المكان! ! أمر غير معتاد، فما أن صعد عباس برفقة عصاه الدكة ليبدأ خطبته.
أيها الناس خذوا من عباس... كلام فيه صالحكم
حدثني نفر ممن مات قبلنا، إن في الموت راحة
وما الحياة الا معبر لضفة أخرى وما بين الضفتين نهر... فأمشوا دهرا ولا تعبروا نهرا...
لكن صوتا قطع عليه إكمال خطبته.. مباغةً...
ياااااجاهل..
أن الحياة صحراء أطرافها متراميه.. والناس نيام
بلا خيام والشمس حارقة..
كيف لك أن تقول إنها نهر!!
التفت الناس..
أنه رجل خمسيني، أشعث مغبر، كث اللحية
كأن الماء لم يمر على جلده من قبل، وسوف لن يمره من بعد..
ذُهلَ عباس، إذ لم يعتد المقاطعة، واغتاظ ولم
يأخذ بحسن سريرته الأمر لايعدو كونه نقاشا،
فجاء جوابه...
الجاااااهل،
من يرى الحياة صحراء.. وما هي إلا نهر بكل مايحمله من غدر وأسرار وغموض وغضب...
لكنه جميل رغم مساوئه.
لقوة حجة عباس..
جاء التصفيق والصفير على أشده... لينتهي الجدل
ويغادران كلاهما المكان و العيون تقتفيهما..
فعلق رجل كان يتابع الحديث بشغف.. بعدما هز رأسه وابتسم...
خذوا الحكمة من أفواه المجانين.
قحطان عدنان السوداني
العراق/ بغداد