(١)
حمل ربابته منكسرا، و سار شاردا غير منتبه إلى أولئك الجالسين في الظل؛ فغمزوه، و لمزوه كما لم يلمزوه من قبل. لقد ظل لسنوات محل حسدهم بعد أن ظفر بها، و لكنه مع مرور الوقت صار مثار حديث آخر؛ إذ ظلت شجرته بائرة، لا تطرح ثمرا؛ فأمسى في نظرهم مجرد سبع من ورق، عجز عن الزئير في وجه غزالة. و لما طالت الأيام العجاف، تجنب مجالسهم، متحاشيا نظراتهم الموجعة.
(٢)
تخطى الدور و النخيل، و وصل إلى دار مهجورة تقع خارج حدود النجع؛ فألقى جسده فوق مسطبة مكتسية بأكداس الغبار. لقد قاد الرجاء الزوجين إلى تجريب جميع وصفات العطارين. و لما ازدادت الشجرة بوارا، هان عليه الخاتم الذي ورثه عن أبيه؛ فذهب بقلب منقبض إلى غريمه القديم. كم كان اللقاء ثقيلا على نفسه! لم ينس أبدا أن ذلك التاجر الجلف قد أبلى نعليه، ركضا وراءها، لكنها ردته حافيا، حينما فضلت عليه راويا لا يملك سوى أشعاره و ربابته العتيقة. بزهو و شماتة قبض التاجر على الخاتم؛ ففر ما به من عبق و رائحة، بينما التقط الراوي أوراق النقد بحسرة تليق بمن فقد جزءا من روحه. فما كان منه إلا أن توجه مباشرة إلى مدينة كمتاهة لا تقيم وزنا للغرباء، تصبب عرقا وسط الزحام، و انخلع قلبه مرات أثناء عبوره الشوارع الواسعة؛ إذ زعقت أبواق السيارات، و سبه السائقون؛ فدمعت عيناه كغريب مرتبك. بعد كد وصل إلى بناية شاهقة، و حينما رفض العامل أن يستخدم رجل زري الهيئة المصعد، وجد نفسه مضطرا إلى صعود سلم ممتد إلى ما لانهاية. شعر بأن رجاءه يزداد مع كل خطوة يخطوها فوق الدرج؛ فجد رغم مشقة الصعود، حتى وصل إلى عيادة الطبيب الأشهر الذي رفع نظارته الطبية، و أنزلها، ثم قضب جبينه طويلا أثناء تفحص التحاليل. بنظرة مفعمة بالشفقة و الرثاء طوى الطبيب الأوراق، مومئا برأسه يمينا و يسارا؛ فحول زائره الغائص في مقعده الوثير بصره صوب النافذة؛ فرأى حبلا متدليا من السماء. و لما أضافت نظرة الطبيب إلى ارتباك الراوي شعورا عميقا بالحسرة، لم يستطع الجزم بأن هذا الحبل المتأرجح يد ممتدة إلى غريق أم مشنقة تشتهي اغتيال ما تبقى في قلبه من رجاء.
( ٣)
طاف على النجوع مرددا أغنيات و حكايات حفظها الناس عن ظهر قلب. تحت النخلة العجوز ظل يضرب أوتار ربابته، و يشد الأناشيد شدا من حنجرته، لكنه اضطر إلى التوقف، فجأة بعد تمزق الأوتار. كاد عقد الأطفال ينفرط؛ فاحتال بجميع الحيل؛ كي يقنعهم بالبقاء. و لما كان الصغار لا يصفحون بسهولة عمن أفسد بهجتهم، أعطوا ظهورهم سريعا لصوت ذبحه الحزن و لربابة أتلفت أوتارها الأيام. هكذا صار الراوي وحيدا؛ فاستتر بجذوع النخل، و راح يتطلع إلى صغار وجدوا ضالتهم، حينما انطلقوا في البراح كهرر خمشت قلبه بلهوها و موائها الرنان.
( ٤)
في طريق العودة، تذكرها، فجأة؛ فرق لحالها، و أحس أنه قد آن الأوان لاخضرار شجرتها بعد جدب، حتى لو ارتوت بعد العتق بماء جلف شامت. ثارت خواطره، ها هو يركض وسط النجع عاريا، و ها هي الأصابع تشير إليه في سخرية. جثمت صخرة ثقيلة فوق صدره؛ فأحجم عن الاسترسال في التخيل، و قرر أن يقتلع من قلبه جذور الشفقة؛ إذ رأى فضيحة الإقرار بالعجز أكثر فداحة من أي شعور بالندم. لم يكن يدري أن الأمور ستنقلب رأسا على عقب بمجرد دخول الدار. يبدو أنها لم تستطع الانتظار ريثما يلتقط أنفاسه؛ فبادرته بإلقاء قميص البشرى على وجهه؛ فأرتد مذهولا أسيرا لعاصفة هوجاء، أطاحت به ريحها في كل الاتجاهات؛ فعجزت قدماه عن حمله. و لما كان السقف الخشبي يرتكز على رافعة تقع في منتصف الدار، لاذ المترنح بعمود السقف المنخور، و بعد أن استجمع قواه الخائرة، حدق إليها مليا بعينيه المرتابتين؛ فرأى شمسا عادت إلى إشراقها القديم، و رأى ابتسامة عريضة تزين وجهها؛ فخيل إليه أنه يرى تلك المرأة المبتهجة لأول مرة في حياته، و خيل إليه أنها أخرى تشبه فقط تلك الشاحبة التي تركها غارقة في العبوس عند خروجه في الصباح.
( ٥)
باتت ساهرة يراودها طيف رضيعها، بينما ظل الراوي التعس يتقلب على الجمر. لقد رغب في رج جسدها بعنف، و عصر لحمها، و صب الأسئلة المحمومة فوق رأسها، لكنه خشي ردة فعلها؛ فخنس، رغم أن ناره لم تخنس طوال الليل. ربما خرجت هذه النطفة من ظهري المنخور حقا. لو كان الأمر كذلك، لحق لي أن أركض فرحا بين أرجاء النجع كالمجنون، و لحق لي أيضا أن أطوف على بيوت الشامتين بيتا بيتا، و أن أرفع رأسي وسط النجع، و أن ألقي السلام على الصغير و الكبير بملء فمي، و بصوت جهور لا يعرف التلعثم أو الهمس. تملكته هذه الخواطر؛ فانتشى، لكنه سرعان ما تقلب على الجمر مرة أخرى؛ فعاد يسأل نفسه: أتكون هذه اللبؤة استبضعت نطفتها من سبع آخر؟! أيكون صياد مخاتل غرس سهمه في تين غزالتي، ثم مضى غير آبه؟! استشاط غضبا؛ فزفر، و نفر، و هجر مضجعه. بينما ظلت هي على حالها غارقة في أحلامها غير منتبهة بالمرة إلى ذلك المحترق فوق جمر الظنون.
(٦)
ضرب الطلق رحمها، و اعتصرها الألم؛ فراحت تتلوى في ركن بارد. رمقها بفتور، بينما تظاهر بمحاولة وصل أوتار ربابته المقطوعة. و لما ازداد الطلق حرارة، صرخت في وجهه؛ فوجد نفسه مضطرا إلى الخروج و العودة بقابلة عجوز شدت حول وسطها حزاما أحمر من الصوف. بصرامة أمرته أن يحضر الماء الساخن، و بذات النبرة أمرته أن يغادر الغرفة بعدما انتزعت في عجلة طست النحاس من بين يديه. لقد وقف للحظات أمام الباب حائرا، ود أن يطلق لقلبه عنان الفرحة، لكن هواجسه نهرته. ملأت صرخات الوليد الدار؛ فلفته القابلة في خرقة بيضاء، ثم حملته في حذر إلي الخارج، لكنها سرعان ما رجعت خائبة متحيرة؛ إذ وجدت الراوي قد غادر الدار قبل أن تبصر عيناه ذلك الوليد الذي تاهت ملامحه وسط نوبات التشنج و البكاء. لجأ إلى الدار المهجورة كعادته، و أسند ظهره إلى جدار متصدع، و راح يلتهم سجائره الواحدة تلو الأخرى، بينما تعلقت عيناه الجاحظتان بثمالة ضوء أرسلها الهلال المرتعش. و لما شدت الوساوس عقالها حول رأسه المشوش، مثلت أمامه منتحبة صارخة، بينما راحت أظفارها الحادة تحفر الرمل في لهفة؛ بحثا عن وليدها الموءود. تلاشى الضوء، شيئا فشيئا، و أحكم الظلام حصاره، و سرت النار في عروقه. عندئذ قرر الإسراع إلى داره، كي يضرم النار في قلبها. و لكنه ما إن حاول النهوض، حتى هوت فوق رأسه اللبنات، و نزف جسده بغزارة تحت الأنقاض، و بينما تحلقت ذئاب شرسة اشتمت رائحة الدماء الجدار المتهدم، انهمكت هي في إرضاع وليدها؛ الذي هدأ للتو، و بعينين حانيتين راحت تحدق إليه؛ فارتسمت على ثغرها ابتسامة خافتة؛ إذ أبصرت في وجه الوليد الوادع ملامح أب أكله الغياب.
حمل ربابته منكسرا، و سار شاردا غير منتبه إلى أولئك الجالسين في الظل؛ فغمزوه، و لمزوه كما لم يلمزوه من قبل. لقد ظل لسنوات محل حسدهم بعد أن ظفر بها، و لكنه مع مرور الوقت صار مثار حديث آخر؛ إذ ظلت شجرته بائرة، لا تطرح ثمرا؛ فأمسى في نظرهم مجرد سبع من ورق، عجز عن الزئير في وجه غزالة. و لما طالت الأيام العجاف، تجنب مجالسهم، متحاشيا نظراتهم الموجعة.
(٢)
تخطى الدور و النخيل، و وصل إلى دار مهجورة تقع خارج حدود النجع؛ فألقى جسده فوق مسطبة مكتسية بأكداس الغبار. لقد قاد الرجاء الزوجين إلى تجريب جميع وصفات العطارين. و لما ازدادت الشجرة بوارا، هان عليه الخاتم الذي ورثه عن أبيه؛ فذهب بقلب منقبض إلى غريمه القديم. كم كان اللقاء ثقيلا على نفسه! لم ينس أبدا أن ذلك التاجر الجلف قد أبلى نعليه، ركضا وراءها، لكنها ردته حافيا، حينما فضلت عليه راويا لا يملك سوى أشعاره و ربابته العتيقة. بزهو و شماتة قبض التاجر على الخاتم؛ ففر ما به من عبق و رائحة، بينما التقط الراوي أوراق النقد بحسرة تليق بمن فقد جزءا من روحه. فما كان منه إلا أن توجه مباشرة إلى مدينة كمتاهة لا تقيم وزنا للغرباء، تصبب عرقا وسط الزحام، و انخلع قلبه مرات أثناء عبوره الشوارع الواسعة؛ إذ زعقت أبواق السيارات، و سبه السائقون؛ فدمعت عيناه كغريب مرتبك. بعد كد وصل إلى بناية شاهقة، و حينما رفض العامل أن يستخدم رجل زري الهيئة المصعد، وجد نفسه مضطرا إلى صعود سلم ممتد إلى ما لانهاية. شعر بأن رجاءه يزداد مع كل خطوة يخطوها فوق الدرج؛ فجد رغم مشقة الصعود، حتى وصل إلى عيادة الطبيب الأشهر الذي رفع نظارته الطبية، و أنزلها، ثم قضب جبينه طويلا أثناء تفحص التحاليل. بنظرة مفعمة بالشفقة و الرثاء طوى الطبيب الأوراق، مومئا برأسه يمينا و يسارا؛ فحول زائره الغائص في مقعده الوثير بصره صوب النافذة؛ فرأى حبلا متدليا من السماء. و لما أضافت نظرة الطبيب إلى ارتباك الراوي شعورا عميقا بالحسرة، لم يستطع الجزم بأن هذا الحبل المتأرجح يد ممتدة إلى غريق أم مشنقة تشتهي اغتيال ما تبقى في قلبه من رجاء.
( ٣)
طاف على النجوع مرددا أغنيات و حكايات حفظها الناس عن ظهر قلب. تحت النخلة العجوز ظل يضرب أوتار ربابته، و يشد الأناشيد شدا من حنجرته، لكنه اضطر إلى التوقف، فجأة بعد تمزق الأوتار. كاد عقد الأطفال ينفرط؛ فاحتال بجميع الحيل؛ كي يقنعهم بالبقاء. و لما كان الصغار لا يصفحون بسهولة عمن أفسد بهجتهم، أعطوا ظهورهم سريعا لصوت ذبحه الحزن و لربابة أتلفت أوتارها الأيام. هكذا صار الراوي وحيدا؛ فاستتر بجذوع النخل، و راح يتطلع إلى صغار وجدوا ضالتهم، حينما انطلقوا في البراح كهرر خمشت قلبه بلهوها و موائها الرنان.
( ٤)
في طريق العودة، تذكرها، فجأة؛ فرق لحالها، و أحس أنه قد آن الأوان لاخضرار شجرتها بعد جدب، حتى لو ارتوت بعد العتق بماء جلف شامت. ثارت خواطره، ها هو يركض وسط النجع عاريا، و ها هي الأصابع تشير إليه في سخرية. جثمت صخرة ثقيلة فوق صدره؛ فأحجم عن الاسترسال في التخيل، و قرر أن يقتلع من قلبه جذور الشفقة؛ إذ رأى فضيحة الإقرار بالعجز أكثر فداحة من أي شعور بالندم. لم يكن يدري أن الأمور ستنقلب رأسا على عقب بمجرد دخول الدار. يبدو أنها لم تستطع الانتظار ريثما يلتقط أنفاسه؛ فبادرته بإلقاء قميص البشرى على وجهه؛ فأرتد مذهولا أسيرا لعاصفة هوجاء، أطاحت به ريحها في كل الاتجاهات؛ فعجزت قدماه عن حمله. و لما كان السقف الخشبي يرتكز على رافعة تقع في منتصف الدار، لاذ المترنح بعمود السقف المنخور، و بعد أن استجمع قواه الخائرة، حدق إليها مليا بعينيه المرتابتين؛ فرأى شمسا عادت إلى إشراقها القديم، و رأى ابتسامة عريضة تزين وجهها؛ فخيل إليه أنه يرى تلك المرأة المبتهجة لأول مرة في حياته، و خيل إليه أنها أخرى تشبه فقط تلك الشاحبة التي تركها غارقة في العبوس عند خروجه في الصباح.
( ٥)
باتت ساهرة يراودها طيف رضيعها، بينما ظل الراوي التعس يتقلب على الجمر. لقد رغب في رج جسدها بعنف، و عصر لحمها، و صب الأسئلة المحمومة فوق رأسها، لكنه خشي ردة فعلها؛ فخنس، رغم أن ناره لم تخنس طوال الليل. ربما خرجت هذه النطفة من ظهري المنخور حقا. لو كان الأمر كذلك، لحق لي أن أركض فرحا بين أرجاء النجع كالمجنون، و لحق لي أيضا أن أطوف على بيوت الشامتين بيتا بيتا، و أن أرفع رأسي وسط النجع، و أن ألقي السلام على الصغير و الكبير بملء فمي، و بصوت جهور لا يعرف التلعثم أو الهمس. تملكته هذه الخواطر؛ فانتشى، لكنه سرعان ما تقلب على الجمر مرة أخرى؛ فعاد يسأل نفسه: أتكون هذه اللبؤة استبضعت نطفتها من سبع آخر؟! أيكون صياد مخاتل غرس سهمه في تين غزالتي، ثم مضى غير آبه؟! استشاط غضبا؛ فزفر، و نفر، و هجر مضجعه. بينما ظلت هي على حالها غارقة في أحلامها غير منتبهة بالمرة إلى ذلك المحترق فوق جمر الظنون.
(٦)
ضرب الطلق رحمها، و اعتصرها الألم؛ فراحت تتلوى في ركن بارد. رمقها بفتور، بينما تظاهر بمحاولة وصل أوتار ربابته المقطوعة. و لما ازداد الطلق حرارة، صرخت في وجهه؛ فوجد نفسه مضطرا إلى الخروج و العودة بقابلة عجوز شدت حول وسطها حزاما أحمر من الصوف. بصرامة أمرته أن يحضر الماء الساخن، و بذات النبرة أمرته أن يغادر الغرفة بعدما انتزعت في عجلة طست النحاس من بين يديه. لقد وقف للحظات أمام الباب حائرا، ود أن يطلق لقلبه عنان الفرحة، لكن هواجسه نهرته. ملأت صرخات الوليد الدار؛ فلفته القابلة في خرقة بيضاء، ثم حملته في حذر إلي الخارج، لكنها سرعان ما رجعت خائبة متحيرة؛ إذ وجدت الراوي قد غادر الدار قبل أن تبصر عيناه ذلك الوليد الذي تاهت ملامحه وسط نوبات التشنج و البكاء. لجأ إلى الدار المهجورة كعادته، و أسند ظهره إلى جدار متصدع، و راح يلتهم سجائره الواحدة تلو الأخرى، بينما تعلقت عيناه الجاحظتان بثمالة ضوء أرسلها الهلال المرتعش. و لما شدت الوساوس عقالها حول رأسه المشوش، مثلت أمامه منتحبة صارخة، بينما راحت أظفارها الحادة تحفر الرمل في لهفة؛ بحثا عن وليدها الموءود. تلاشى الضوء، شيئا فشيئا، و أحكم الظلام حصاره، و سرت النار في عروقه. عندئذ قرر الإسراع إلى داره، كي يضرم النار في قلبها. و لكنه ما إن حاول النهوض، حتى هوت فوق رأسه اللبنات، و نزف جسده بغزارة تحت الأنقاض، و بينما تحلقت ذئاب شرسة اشتمت رائحة الدماء الجدار المتهدم، انهمكت هي في إرضاع وليدها؛ الذي هدأ للتو، و بعينين حانيتين راحت تحدق إليه؛ فارتسمت على ثغرها ابتسامة خافتة؛ إذ أبصرت في وجه الوليد الوادع ملامح أب أكله الغياب.