د. أحمد الحطاب - من أغرب ما رأت عيناي

في نهاية السبعينيات، أَقَمْتُ كأستاذ زائر لمدة شهر بإحدى البلدان الأفريقية جنوب الصحراء لأعطي بعض الدروس بمؤسسة تهتم بتكوين الأساتذة. ما رأيتُه بأم أعيني قد يقول البعض أنه من ضرب الخيال لكنه حقيقة شاهدتُها و عاينتُها بكل استغراب و دهشة. إليكم البعضَ من هذه الغرائب :

1.لما وصلتُ إلى مطار هذه البلاد، كان في استقبالي مدير المؤسسة و ناظِرُها الذي هو مغربي و صديق لي. كم كانت دهشتي قويةً لما لاحظتُ الفوضى العارمة التي تسود داخل المطار حيث المسافرون و غير المسافرين يعبرون نحو الطائرة أو العكس بدون مراقبة لا من طرف الشرطة و لا من طرف الجمارك.

2.و أنا أُغادر المطار، رأيت ناسا، رجالاً و نساءً، نائمين داخل بهو هذا الأخير إما مباشرة فوق الأرض و إما فوق مِنضدات بعض المكاتب أو حتى أمام مدخلها.

3.قبل أن أُُلقيَ أول درسٍ أمام الطلبة الأساتذة، قدّمتُ لهم نفسي و أعطيتهم نبدة عن الدروس التي سألقيها و استخبرتُ عن معلوماتهم في هذا الصدد ثم بدأت التدريس إلى أن حان موعد الاستراحة. و أنا في طريقي إلى مكتب الناظر الذي، كما قلت سابقا، إنه مغربي و صديق لي، أثار انتباهي منظرٌ اعتبرتُه أنا شخصيا غير عادي : موظف يستقبل بمكتبه زائرا. الأول واضع رجليه فوق المكتب و الثاني واضع رجليه فوق الكرسي الذي أمامه. أخبرتُ الناظر بما رأيتُ و قال لي : لا تُعِرْ أي اهتمام لهذه الأمور لأنك سوف ترى ما هو أكثر منها غرابةً و أخطر. ما كاد أن يُتمِم كلامَه حتى خُيِّلَ لي أني أسمع كلاما وراء ظهري لصوتٍ يطلب صدقة. لا أُخْفي أنني ظننتُ أني تَهلْوَسْتُ لولا قول الناظر : "الله يسهّل". التفتتُ، فإذا به متسوِّل. لم يخطرْ ببالي أن اللامبالاة ستصل إلى حد أن يخترق المُتسوِّلُ البابَ الرئيسي للمؤسسة ثم البابَ الثاني و يتجول بين المكاتب دون أن يُزعج أحدا. فال لي الناظر : لقد أنذرتك.

4.انتهت مُهلة الاستراحة و التحقتُ بالقسم. فإذا بي لم أجد و لو طالبا واحدا بداخله. بحثتُ عنهم في الساحة فلم أجدهم. التجأتُ إلى الناظر الذي قال لي : "ستجدهم وراء الأقسام". بالفعل، وجدتُهم مستلقين على الرمل جانبا أو على ظهورهم. أغلبهم يدخنون تبغا محليا بواسطة أنابيب محلية الصنع. لما التحقوا بالقسم، قلتُ لهم بكل صرامة : ابتداء من الغد، بعد انتهاء الاستراحة، سأذهب إلى القسم، و بمجرد ما يأتي أول طالب، سأستأنف درسي. فعلا، الصرامةُ أتت أكلَها.

5.بعد الظهر، قمتُ أنا و صديقي الناظر بجولة بالمدينة و بالضبط بأكبر شوارعها. و كان هذا الأخير كلما احتجتُ لمعلومة، يمدُّني بها. غير أن ذهولي كان شديدا لغرابة ما رأيت : نساء يَبِعْنَ بعض الأشياء على الرصيف و من بينهن اثنتان أو ثلاثة يجلسُ قِرْدٌ صغير فوق كتف كل منهن. و من حين لآخر، يبحث كل قِرد في شعر صاحبته عن القمل و يأكله. فالتفتتُ إلى صديقي راجيا منه تفسيرا. قال : إن هؤلاء النساء يسمين هذه القردة "الفَلَّايْ" و يقمن بتربيته مند الصغر لأجل هذا الغرض.

6.تابعنا جولتَنا فإذا بي أرى عجباً آخر لم يسبق لي أن شاهدتُه أو حتى سمعتُ عنه. ماعِزٌ يأكل أكياس بلاستيك و قطعَ الورق و الكارتون و قطعَ الثوب القديم. طلبت تفسيرا من صديقي : ماذا تريد أن يأكل الماعز في هذه البلاد القاحلة؟ إنه محظوظ بوجود هذه الأشياء. و لعلمِكَ، ليس هناك منزل إلا و يُرَبِّي صاحبُه معزةً أو معزتين من أجل الحليب.

7.في اليوم الموالي، قمنا بزيارة للسوق البلدي. و نحن نتجول بالسوق، أثارت انتباهي بعض الدكاكين الصغيرة كانت بعيدة منا بحوالي 30 إلى 40 مترا. و كان أمام كل دكان طاولةٌ صغيرةٌ موضوع عليها شيء أسود. فقلت لصديقي ماذا تبيع هذه الدكاكين؟ قال : لنقتربْ لتكتشفَ بنفسك ماذا تبيع. فإذا بأصحاب الدكاكين جزارون وضعوا أمامهم قطعا كبيرة من اللحم من حين لآخر يُغطِّيها حشدٌ كبير من الذباب مما يجعلها تظهر سوداء. من حين لآخر، يَنُشُّ صاحبُ الدكان الذبابَ لكنه يعود ويغطيه مرة تلو الأخرى. قلت لصديقي : أي لحم هذا و قد نفث فيه الذبابُ كل أنواع الجراثيم. قال : لا تندهش و رغم ذلك، فإن الناس تشتريه و تأكله.

8.ودَّعنا السوقَ البلدي و رجعنا للشارع الرئيسي حيث أثارت انتباهي سياراتٌ تنقل الناس داخل المدينة بكيفية مثيرة للعجب لا من حيث عدد الراكبين و لا من حيث هيئة و وضع هذه السيارات. إنها قديمة جدا و غالبا ما ينقصها باب أو بابان و محركاتها تُصْدِرُ صوتاً قويا و تنبعث منها أدخنة سوداء. حينها، أخبرني صديقي أن هذه السيارات لا يتوفر أصحابها لا على رخصة سياقة و لا على بطلقات رمادية و لا على تأمين. كل من أراد أن يصبح سائقا ما عليه إلا أن يشتريَ سيارةً و يغامر بسياقتها. و لهذا، فحوادث السير كثيرة و إذا أردتَ أن ترى بأم عينك حادثة سير، تعالى نقف بعض الوقت في ملتقى طرق. بالفعل، وقعت حادثة بين سيارتين لم يستطع سائقاها توقيفَ سيارتيهما في الوقت المناسب.

9.في اليوم الموالي، تمت دعوتي من طرف مسئول من وزارة التربية الوطنية لمأدبة غذاء أنا و الناظر. لما انتهَتْ الضيافة و أنا خارجٌ من بيت (فيلا) المسئول، أثارتْ انتباهي غرفةٌ مفروشةٌ بالرمل لم أجد لها في التو تفسيرا. التجأتُ كالعادة لصديقي الذي قال : جل البيوت في المدينة و خصوصا تلك التي يمتلكها الميسورون تجد فيها غرفةً مفروشةً بالرمل لأن هؤلاء أصلهم بَدوٌ يعيشون في الصحراء فوق الرمال. فهم لم يقطعوا مع أصلهم و بالتالي، من حين لآخر، يستلقون فوق الرمل داخل هذه الغرف.

10.تمت دعوتي أنا و الناظر و مدير المؤسسة لحفل زفاف بمنزلٍ يقع في مكان ضائع وسط الصحراء. تم استقبالنا ثم جلسنا مع الحاضرين بخيمة كبيرة تَقِنا من الحر الذي كان شديدا ذلك اليوم. و صدفة، اتضح أن الشخص الذي كان يجلس بجانبي مهندس إحصائي تابع دراستَه بالرباط بالمعهد الوطني للإحصاء و الاقتصاد التطبيقي (INSEA). و نحن نتجاذبُ أطرافَ الحديث وُضِعَتْ أمامنا طاولةٌ سُرعان ما وُضِعَ عليها طبق بوسطه إناء مملوء بشحم الإبل و يحيط به تمر كثير. لا أخفي أنني لا أعرف كيف تؤكل هذه الأشياء. انتظرتُ حتى يبدأ المهندسُ لأرى ماذا أفعل. أخذ تمرةً و غمسها في الشحم و التهمها. قررتُ أن لا أقربَ الشحمَ و أخذتُ تمرةً و وضعتها في فمي، فإذا بها مليئة بحبَّات رملٍ أزعجتني لكني كنتُ مضطرا لابتلاعها. و كانت هي التمرة الأولى و الأخيرة التي أُرْغِمْتُ على أكلها. ما هي إلا لحظات حتى وزعوا على الحاضرين غُرَّافَاتٍ سعتها أكثر من لتر واحد. تساءلتُ مع نفسي لماذا ستصلح هذه الغرافات؟ و أنا أتساءل مع نفسي، وضعوا أمامنا قِنينات كبيرة من مشروب "كوكاكولا" غير بارد. ملأ المهندسُ غرافتَه عن آخرها و بجرعة واحدة، التهم نصفَها. أما أنا، بالكاد شربتُ ما مقداره ملعقةٌ كبيرةٌ و تركتُ الغرافة جانبا. ما هي إلا دقائق حتى أحضروا لنا قنينات كبيرة أخرى لكن هذه المرة من مشروب "فانتا" هو الآخر غير بارد. التهم المهندس ما بقي في غرافته من مشروب "كوكا"و ملأها بمشروب "فانتا" و أتى على نصفها. و ما هي إلا دقائق حتى أحضروا غرافات أخرى من نفس الحجم لكن هذه المرة مملوءة بحليب الناقة لا يزال يتطاير منه البخار. كما هي العادة، تناول المهندسُ نصفَ غرافته من الحليب و طرحها أرضا علما أن الغرافة الأولى لا يزال نصفُها مملوءا بمشروب"فانتا". أما أنا، منذ التمرة الأولى و الجرعة الصغيرة من"كوكا"، لم أتناول أي شيء. تابعنا أطرافَ الحديث، فإذا بالمهندس ينظر إلى غُرَّافَتَيْهِ، الأولى بها "فانتا" و الثانية بها حليب الناقة. صَبَّ "فانتا" على الحليب و خلطهما و أتى على الخليط جرعةً واحدةً. و كان آخر ما جاد علينا به صاحب الزفاف هو خروفٌ كبيرٌ مطبوخٌ في الماء و البصل و الملح. أنا المتعوِّدُ على الشواء أو المشوي، لم يخطر ببالي يوما أنه يمكن طبخ خروف بأكمله في الماء و البصل و الملح. ما هو حجم الإناء الذي تم فيه الطبخ؟ ما هي كمية الماء التي يحتاحها الطبخ؟ و كم من الوقت يستغرق الطبخ؟ أسئلة جعلتني آخذ الحذرَ من هذه الوجبة الغذائية الغريبة! أما صاحبُنا المهندس، بحكم تعوُّده على هذه الأشياء، لم يدع الفرصة تفوته ليزور جميع مناحي الخروف، الظاهرة منها و الخفيّة. أما أنا، فتظاهرتُ بالأكل إلى أن أطلق الله سراحي مع انتهاء حفل الزفاف في ساعة متأخرة من الليل محاولا ما أمكن إخفاء تضَوُّرِي جوعاً و عطشاً.

11.اقترح علي صديقي الناظر أن أرافقه إلى المطار لاستقبال أحد أصدقائه قادما من بلاد مجاورة. دخلنا إلى منطقة الطائرات بدون صعوبة. في انتظار الطائرة التي سيأتي فيها صديق الناظر، حطّت بالمطار طائرة قبلها. ما رأيته بأم عيني لا يُصَدَّقْ : بعد فتح باب الطائرة، بدأ المسافرون ينزلون. أغلبهم يحملون معهم معزةً أو معزتين. بل منهم من يحمل على ظهره كيسا كبيرا بداخله خيمة و ركائزها. لا أُخفي أني بقيت مشدوها أمام ما رأيتُ لأني لم أصدّق أن طائرة يمكن أن تحمل بداخلها في نفس الوقت بشرا و حيوانات و أمتعة. لقد صدق الناظر حين قال لي أني سأرى العجبَ العُجابَ.

12.تمت استضافتنا من طرف عَامِلِ مدينة أخرى لمأدبة غذاء بمنزله. و نحن في الطريق إلى هذه المدينة، أخبرنا السيد مدير المؤسسة أن السيد العامل سيستقبلنا رفقة أحد البرلمانيين قبل الوصول إلى منزله. توقّفت السيارة عند وصولنا إلى مكان الاستقبال، الذي هو عبارة عن خلاء شاسع يكسوه الرمل و شُيِّدَتْ بوسطه خيمةٌ سوداء كبيرة. أطلقتُ العنان لبصري باحثاً عن العامل و البرلماني اللذان من المقرر أن يستقبلونا، فلم أجد إلا شخصين عاديين يمشيان على الرمل حافيين في اتجاهنا. قلتُ في نفسي : لا شك أن العامل و البرلماني بقيا في الخيمة و بعثا بهذين الشخصين لاستقبالنا. كم كانت دهشتي و استغرابي قويين لما قدَّم لنا السيدَ المدير الشخصين، الأول هو العامل و الثاني هو البرلماني. كنت أنتظر بروتوكولا، فإذا بي أجد نفسي أمام تواضع لا مثيل له و خصوصا أن السيدين العامل و البرلماني يتكلّمان فرنسية راقية و لهما من الثقافة ما يُشفي الغليل. هذا هو أحسن منظر عايشتُه مند إقامتي بهذا البلد. بعد شُرب الشاي بالخيمة، توجهنا إلى منزل السيد العامل. دخلنا بغرفة الضيافة و بدأنا بشرب الشاي. ثم بدأت أطباق الأكل تتوالى. و في لحظة و نحن منهمكون في الأكل، أشار العامل إلى أحد الخَدَم إشارة مضبوطة. فإذا بأربعة أشخاص يدخلون الغرفةَ عاريةٌ أجسامهم إلا العورة مغطاة بسروال قصير مُحاطٍ بريش. و يحمل كلٌّ منهم عصا طويلة مكلَّلة في الرأس بريش على شكل مِروحة. أحاطوا بنا و أخذوا يحركون العصا فوق رؤوسنا لإرسال هواء بارد في اتجاهنا. و كلما سها أحد الأشخاص عن تحريك العصا، ينهره العامل بقوة ليتابع مهمتَه. إنه في الحقيقة مشهدٌ لم أُفكِّر يوما ما أنني سأعيشه حيث لا وجود له في مخيلتي إلا في الأفلام أو في قصص ألف ليلة و ليلة.

كيفما كان الحال، إذا كانت هذه المناظرُ و الوقائع غريبةً بالنسبة لي، فإنها جدُّ عادية بالنسبة لناس هذا البلد و تنسجم مع ثقافتهم التي يطغى عليها الطابَعُ البدوي. و الانتقال من البداوة إلى التَّمدُّن لا يمكن أن يتمَّ بين عشيةٍ و ضُحاها. و خصوصا عندما يتمُّ هذا التَّحوُّلُ بدون فترة انتقالية تسمح بالّتَّأقلُمِ مع الوسط الحضري و ما يتطلَّبُه من تغييرٍ في العقليات و بالتالي، في السلوكات و الأعمال. و بما أن الثقافةَ هي مجموعُ المعارف و المعتقدات و أنماطُ العيش و القيم… التي يتميَّز بها مجتمع أو بلدٌ بأكملِه عن غيره من المجتمعات و البلدان، فليس من السهل تغييرُ هذه الثقافة بمجرَّدِ الانتقال من وضعٍ اجتماعي إلى آخر. و خصوصا أن هذه الثقافة مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقا بالزمان و المكان. فانتقالُ ناس هذا البلد من البداوة إلى التَّمدُّن، بدون فترة انتقالية، لا يسمحُ بتغيير العقليات و التقاليد على الفور. يلزم وقتُ طويل لحصول التغيير. و هو ما لاحظتُه لاحِقا بعد زيارات مُتعدِّدة لنفس البلد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى