عربة تجرها خيول جامحة، تنهب الأرض بسرعة البرق؛ فيعلو الغبار. حوذي صارم القسمات يطوح طرف سوطه في الهواء، و يلهب ظهور أحصنته الثلاثة الصاهلة. يرى الهدف الذي خرج من أجله؛ فيصرخ صرخة المنتصر، و يكبح جماح الخيول، و يقيد أرجلها الطائرة؛ فتخمش حوافرها الأديم، و تتوقف العربة أمام دار طينية واطئة. يبدأ الحوذي في إطلاق الأبواق. و الكهل داخل الدار يسمع النفير بوجل، و يسارع إلى كوة الباب، و يرمق العربة و الحوذي كاشر الوجه، و يصغي إلى حمحمة الخيل بقلق و اضطراب، و يهرول كالمجنون إلى أوراقه المهملة، و يتعجل تدوين ما تبقى في رأسه من فكر، و إطلاق ما اختزنه قلبه من أمنيات. يكتب عن أسراب حمام حبيسة تشتهي أن تفتح كوى أبراجها الطينية المغلقة. يكتب عن كهل تاهت روحه منذ سنين؛ فراح يفتش عنها في كل مكان. يكتب عن مرآة مهشمة، و هزائم شتى، و وجوه من شوك، و انتصار وحيد لم يكتمل. قد داهمته الأبواق، و الحوذي استشاط غضبا في الخارج، ماذا لو قرر اقتحام الدار عنوة؟! هل سيصمد الباب الخشبي المهترئ أمام شراسة الطلب؟! قد داهمته الأبواق، و الأمنيات بين يديه فسائل ذابلة، ود أن يغرسها في أديم صلد. بتوتر راح يردد بصره بين سطور تتنامى، و عقارب ساعة تهرول. تمنى أن يمهله الحوذي فسحة من الوقت، لكن الأخير راح يطرق الباب بعنف، و راح يدعوه إلى سرعة الخروج؛ فأيقن الكهل أن فرصة البقاء صارت مستحيلة، و أن الرحيل صار أمرا محتوما. في عجلة مسافر أكل رغيفه الأخير، و أشعل سيجارته الأخيرة، ثم لملم أوراقه، و قبَّلَ صورا تذكارية لأطفاله، و تأمل للحظات صور رفاق أكلت الأرضة ملامحهم، و راح يمشط أرجاء الدار التي ماجت بالفوضى؛ جامعا ذكرياته التي بعثرت هنا و هناك، ثم دس ما جمعه في حقيبة صغيرة، حملتها يسراه، بينما قبضت يده اليمنى على نايه القديم.
بوجه متوجس و أقدام مرتعشة خرج؛ فاستقبله الحوذي بنظرات قاسية، و دعاه إلى ركوب العربة دونما إبطاء. و ما هي إلا لحظات، حتى انطلقت الخيول، و مضت تقطع الطريق.
(٢)
تراوحت رحلة الذهاب ما بين شدٌّ و جذب، و ما بين انسياب و ارتطام. توغلت العربة في الصحراء، و عند سفح جبل رمادي توقفت، فجأة؛ فصرخ الحوذي بصرامته المعتادة في وجه الكهل، ودعاه إلى النزول، و سرعان ما انطلقت الخيول؛ فراح الكهل يقتفي ما خطته السنابك و العجلات على صفحة الرمل من آثار، و لكن الأرض باغتته، و أخرجت من رحمها سدا، و صخورا حجبت الخيول و العربة عن ناظريه، و أغلقت أمامه طريق العودة.
(٣)
اعتراه اليأس للحظات، لكنه تذكر نايه، فجأة؛ فقرر أن يطلق نغمات حبيسة؛ لطالما كانت له المخرج و الدواء. و ما إن نفخ قصبة الغاب، حتى ولدت داخله رعشة خافتة، سرعان ما سرت في قلبه؛ فنجحت رغم ضعفها في جمع شتات روحه المبعثرة. نهض من جديد، مستكشفا المكان. علم أن الجبل برزخ يفصل بين دربين يمتد أحدهما يمينا؛ بحيث يفضي إلى نهر، التمعت مياهه التي انعكست عليها أشعة الشمس، و حلقت الطيور فوق صفحتها الرائقة، و اصطفت الأشجار الخضراء على الضفتين، بينما يمتد الدرب الآخر يسارا، بحيث يفضي إلى الجدب؛ فلا شيء أمامه سوى رمال ملتهبة، تتميز غيظا من حرها. لم يكن الاختيار صعبا هذه المرة؛ إذ هفت روحه إلى الماء و الخضرة؛ فجدَّ في السير. و بعد أن باءت جميع محاولاته بالفشل، و يئس من بلوغ النهر، تقهقر إلى الوراء، متحسرا و منكسرا أمام سياج آخر، ضرب من حديد، أعاق مروره؛ فاتجه إلى الدرب الأيسر، و لكن الصهد سرعان ما لفح وجهه؛ فاستبد به الظمأ، و خشى الاحتراق، و هم بالرجوع. عندئذ ظهرت على جانبي الطريق المجدبة خطاطيف، راحت تجذبه إليها، و حيات، راحت تنهش ساقيه. مصيدة محكمة كانت، و شركا جائعا. ركض بكل ما تبقى في جسده من قوة، و عند فم الدرب، وقف دهشا، و أخذ يسأل نفسه بحيرة: كيف كتبت لي النجاة؟! و بعد أن أفاق من ذهوله، اكتشف أنه عاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى، و أن نقطة الصفر تلك لم تكن سوى كتل صخرية هائلة، كونت جبلا رماديا شاهق الارتفاع.
(٤)
طفق يتأمل الدروب المسدودة تارة، و الجبل الرمادي تارة أخرى، و في نهاية المطاف وجد نفسه مضطرا إلى الصعود؛ فحمل أشياءه فوق ظهره المحني، و راح يتسلق الصخور الوعرة. و ما إن وصل إلى ذروة الجبل، حتى استلقي على ظهره، و أسلم عينيه و بدنه المنهك إلى نوم عميق. و لما استيقظ، عجز عن تقدير الوقت الذي مر عليه؛ إذ اكتشف أن مزولة الوقت، قد حطمت، و أن الرمل تسرب من بين ثنايا الزجاج المكسور. و لما أبت الدهشة أن تقف عند حد، رأى نفسه عاريا مجردا من أي كساء، و رأى ملابسه قد نزعت عن جسده؛ و تناثرت قطعها الملونة حوله، و رأى ألوانها الزاهية تتلاشى شيئا فشيئا؛ ليحل محلها لون رمادي قاتم، كان هو نفس اللون الذي اصطبغ به قميص فضفاض و سروال واسع، سترا جسده بشكل مباغت. لقد تضاعفت دهشته عندما لاحظ أن مسام جلده، بدأت تفرز عرقا غليظا؛ أدى إلى تحول بشرته إلى بشرة رمادية داكنة؛ الأمر الذي وضعه بلا هوادة على حافة الجنون.
(٥)
ظل كامنا في مكانه مصعوقا، لا يقوى على الحراك، إلى أن نهش الجوع أحشاءه؛ فراح يحبو على الصخر، باحثا عن زاد أو شراب. و لما لم يجد ما يتقوت به، دب اليأس في قلبه من جديد، و جثا على ركبتيه، و راح يردد بصره في جميع الاتجاهات كمن يبحث عن مخرج. على يمينه كان النهر في مكانه يموج بمائه العذب، و على يساره كانت الحيات في مكانها تفغر أفواهها، و كان الكهل جائعا يحلب أثداء الصخور، و كانت الشمس ملتهبة تطلق أشعتها الحارقة، لدرجة أن الحر أذاب رأسه؛ فاشتهى الماء و الظل و الخلاص. و لما شارف على الهلاك، راودته فكرة، ظن أنها لن تؤتي أكلها أبدا، و لكنه قاوم هذا الشعور، و التقط نايه ، و قرر أن يعزف لحنه الأخير؛ فخرج النغم خافتا ضعيفا كأنين ناسك مبتهل. و بعد لحظات من العزف كون النغم الصاعد ظلة و سحابة، هطلت أمطارها، فجأة على وقع أنفاس الناي المتلاحقة؛ شرب الكهل إلى حد الارتواء، و قرر أن يستأنف العزف من جديد. خرج النغم هذه المرة عفيا، و راحت أصداؤه تتردد في الفضاء؛ فازداد المطر انهمار، و اهتز الجبل بقوة، و مَادَتْ صخوره، و تصدعت. عندئذ خرجوا تباعا برءوس منكسة و أياد فارغة من بين الشقوق، و راحوا يستقبلون المطر بأكفهم، حتى ارتووا بدورهم. رفع الكهل رأسه بعد حين، و راح يتفحص بعينين مشدوهتين ملابسهم الرمادية التي تلونت للتو بألوان أخرى زاهية. ربما حثه هذا التحول على أن تكابد أنفاسه مزيدا من المشقة، و العنت؛ فمضى يعزف، حتى استعادت بشرته لونها المفقود، و حتى تلاشى اللون الرمادي من المكان تماما، و حتى اكتسى الجبل بالخضرة و الحياة.
بوجه متوجس و أقدام مرتعشة خرج؛ فاستقبله الحوذي بنظرات قاسية، و دعاه إلى ركوب العربة دونما إبطاء. و ما هي إلا لحظات، حتى انطلقت الخيول، و مضت تقطع الطريق.
(٢)
تراوحت رحلة الذهاب ما بين شدٌّ و جذب، و ما بين انسياب و ارتطام. توغلت العربة في الصحراء، و عند سفح جبل رمادي توقفت، فجأة؛ فصرخ الحوذي بصرامته المعتادة في وجه الكهل، ودعاه إلى النزول، و سرعان ما انطلقت الخيول؛ فراح الكهل يقتفي ما خطته السنابك و العجلات على صفحة الرمل من آثار، و لكن الأرض باغتته، و أخرجت من رحمها سدا، و صخورا حجبت الخيول و العربة عن ناظريه، و أغلقت أمامه طريق العودة.
(٣)
اعتراه اليأس للحظات، لكنه تذكر نايه، فجأة؛ فقرر أن يطلق نغمات حبيسة؛ لطالما كانت له المخرج و الدواء. و ما إن نفخ قصبة الغاب، حتى ولدت داخله رعشة خافتة، سرعان ما سرت في قلبه؛ فنجحت رغم ضعفها في جمع شتات روحه المبعثرة. نهض من جديد، مستكشفا المكان. علم أن الجبل برزخ يفصل بين دربين يمتد أحدهما يمينا؛ بحيث يفضي إلى نهر، التمعت مياهه التي انعكست عليها أشعة الشمس، و حلقت الطيور فوق صفحتها الرائقة، و اصطفت الأشجار الخضراء على الضفتين، بينما يمتد الدرب الآخر يسارا، بحيث يفضي إلى الجدب؛ فلا شيء أمامه سوى رمال ملتهبة، تتميز غيظا من حرها. لم يكن الاختيار صعبا هذه المرة؛ إذ هفت روحه إلى الماء و الخضرة؛ فجدَّ في السير. و بعد أن باءت جميع محاولاته بالفشل، و يئس من بلوغ النهر، تقهقر إلى الوراء، متحسرا و منكسرا أمام سياج آخر، ضرب من حديد، أعاق مروره؛ فاتجه إلى الدرب الأيسر، و لكن الصهد سرعان ما لفح وجهه؛ فاستبد به الظمأ، و خشى الاحتراق، و هم بالرجوع. عندئذ ظهرت على جانبي الطريق المجدبة خطاطيف، راحت تجذبه إليها، و حيات، راحت تنهش ساقيه. مصيدة محكمة كانت، و شركا جائعا. ركض بكل ما تبقى في جسده من قوة، و عند فم الدرب، وقف دهشا، و أخذ يسأل نفسه بحيرة: كيف كتبت لي النجاة؟! و بعد أن أفاق من ذهوله، اكتشف أنه عاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى، و أن نقطة الصفر تلك لم تكن سوى كتل صخرية هائلة، كونت جبلا رماديا شاهق الارتفاع.
(٤)
طفق يتأمل الدروب المسدودة تارة، و الجبل الرمادي تارة أخرى، و في نهاية المطاف وجد نفسه مضطرا إلى الصعود؛ فحمل أشياءه فوق ظهره المحني، و راح يتسلق الصخور الوعرة. و ما إن وصل إلى ذروة الجبل، حتى استلقي على ظهره، و أسلم عينيه و بدنه المنهك إلى نوم عميق. و لما استيقظ، عجز عن تقدير الوقت الذي مر عليه؛ إذ اكتشف أن مزولة الوقت، قد حطمت، و أن الرمل تسرب من بين ثنايا الزجاج المكسور. و لما أبت الدهشة أن تقف عند حد، رأى نفسه عاريا مجردا من أي كساء، و رأى ملابسه قد نزعت عن جسده؛ و تناثرت قطعها الملونة حوله، و رأى ألوانها الزاهية تتلاشى شيئا فشيئا؛ ليحل محلها لون رمادي قاتم، كان هو نفس اللون الذي اصطبغ به قميص فضفاض و سروال واسع، سترا جسده بشكل مباغت. لقد تضاعفت دهشته عندما لاحظ أن مسام جلده، بدأت تفرز عرقا غليظا؛ أدى إلى تحول بشرته إلى بشرة رمادية داكنة؛ الأمر الذي وضعه بلا هوادة على حافة الجنون.
(٥)
ظل كامنا في مكانه مصعوقا، لا يقوى على الحراك، إلى أن نهش الجوع أحشاءه؛ فراح يحبو على الصخر، باحثا عن زاد أو شراب. و لما لم يجد ما يتقوت به، دب اليأس في قلبه من جديد، و جثا على ركبتيه، و راح يردد بصره في جميع الاتجاهات كمن يبحث عن مخرج. على يمينه كان النهر في مكانه يموج بمائه العذب، و على يساره كانت الحيات في مكانها تفغر أفواهها، و كان الكهل جائعا يحلب أثداء الصخور، و كانت الشمس ملتهبة تطلق أشعتها الحارقة، لدرجة أن الحر أذاب رأسه؛ فاشتهى الماء و الظل و الخلاص. و لما شارف على الهلاك، راودته فكرة، ظن أنها لن تؤتي أكلها أبدا، و لكنه قاوم هذا الشعور، و التقط نايه ، و قرر أن يعزف لحنه الأخير؛ فخرج النغم خافتا ضعيفا كأنين ناسك مبتهل. و بعد لحظات من العزف كون النغم الصاعد ظلة و سحابة، هطلت أمطارها، فجأة على وقع أنفاس الناي المتلاحقة؛ شرب الكهل إلى حد الارتواء، و قرر أن يستأنف العزف من جديد. خرج النغم هذه المرة عفيا، و راحت أصداؤه تتردد في الفضاء؛ فازداد المطر انهمار، و اهتز الجبل بقوة، و مَادَتْ صخوره، و تصدعت. عندئذ خرجوا تباعا برءوس منكسة و أياد فارغة من بين الشقوق، و راحوا يستقبلون المطر بأكفهم، حتى ارتووا بدورهم. رفع الكهل رأسه بعد حين، و راح يتفحص بعينين مشدوهتين ملابسهم الرمادية التي تلونت للتو بألوان أخرى زاهية. ربما حثه هذا التحول على أن تكابد أنفاسه مزيدا من المشقة، و العنت؛ فمضى يعزف، حتى استعادت بشرته لونها المفقود، و حتى تلاشى اللون الرمادي من المكان تماما، و حتى اكتسى الجبل بالخضرة و الحياة.