فجأة، أنتبه مذعورا. أحاول طرد بقية نعاس عالق عن عيني. لا أكاد أرى كفي، أجدني غائصا في لجة معتمة، يحاصرني الظلام من كل جانب، يطبق شيء هلامي ثقيل على صدري. أحاول إزاحته؛ فترتد أصابعي دون أن تصيب شيئا سوى لفح الصهد. أشم رائحة راكدة. أدرك أنني ممدد فوق تربة رخوة بلا فراش، و أن ما يشبه الجلباب الفضفاض يستر جسدي الواهن. أنفض التراب عن وجهي البارد و شفتي المتيبستين؛ فيتسرب طعم الملح إلى لساني. تتوارد الأسئلة تباعا على رأسي المشوش، و لكن العتمة سرعان ما تطيح بجميع التخمينات. هو الضوء، كل ما يلزمني قليل من الضوء... تتحسس يداي الأرض، أجهد باحثا عن شمعة أو مصباح أو حتى عود ثقاب. أحاول النهوض، أشعر بآلام مبرحة، أنهض بعد عناء، أقطع الغرفة ذهابا و إيابا بخطوات وئيدة حذرة، أحاول تمزيق حبال العتمة؛ فتزداد التفافا حول عنقي. أكتشف أن الغرفة خالية من أي متاع أو أثاث؛ إذ لم يرتطم بدني بشيء سوى الحر الغليظ. ينز العرق من مسام جلدي بغزارة، تنتابني رغبة ملحة في الخروج؛ أتحسس الحيطان التي اتخذت شكلا دائريا؛ بحثا عن باب أو نافذة. أستنتج أن أحدهم أحكم إغلاق الدائرة، فلم يدع لمن أراد الخروج منفذا. لقد كان وقحا عندما برع في سد الفرج؛ فلم يترك أية فرجة تسمح بمرور الهواء. أنا رهين محبسين إذن: ظلام دامس، و بناية مصمتة، لم يزد جوفها الخانق صدري إلا انقباضا و توترا. لقد كان أمرا مثيرا للشفقة أن أدور كالمجنون، و أن أخمش اللبنات بأظفاري المتكسرة رغم يقيني التام بعجزي عن الخروج.
(٢)
بهدوء تام تسللوا إلى الداخل. بعينين مصعوقتين، تطلعت إلى وجوههم الجامدة و ملامحهم الصارمة، و أعينهم التي انبعث منها ضوء أصفر شاحب بالكاد أنار الغرفة. عادت الأسئلة الحائرة تنهش رأسي من جديد، لكنني سرعان ما اقتنصت الفرصة. بنظرات مرتبكة حاولت التعرف على معالم غرفتي التي تبددت عتمتها للتو. طلاء داكن كئيب، حيطان دائرية، سقف اتخذ شكلا مقوسا كقبة محدبة. عيناي تقرآن في عجلة، و وجوه صارمة ترقبني كنمور تأهبت للافتراس. يبدو أن لحظات الهدنة المصطنعة قد انتهت؛ فسرعان ما انتزعتني أيديهم الخشنة، و طرحتني أرضا. راحوا يفتشون ملابسي و فروة رأسي و أظفاري و أجفاني، حتى مسام جلدي لم تسلم منهم؛ إذ نفذت أعينهم من خلالها إلى أسفل جلدي؛ عندئذ أضأت الحيطان الداكنة بضوء فضي. أسندني أحدهم؛ كي أتمكن من رؤية المشاهد المتلاحقة، ها هي الصور تمر أمامي كبرق خاطف. هل كنت ذلك الطفل الراكض كعصفور طليق؟! غزالة كانت، و أنا المفتون بوجهها المرمري تحت ظلال شجرة زيتون أينعت في البراح. تمضي المشاهد؛ فيكتسي وجهي بغبرة و مسحة حزن تجتر خلفها الخيبات و الهزائم. الطفل يتوقف عن الركض، و شجرة الزيتون صارت عقيمة ما عادت تثمر، و الغزالة صارت أما لثلاثة، لم أ كن أباهم على أية حال. البراح تأكله البيوت الجائعة، و الذكريات تقبرها قواعد الخرسانة دونما اكتراث. الصور تنعكس على الحيطان.. أرى كهلا لون الشيب شعره ضاق براحه؛ فانزوى في غرفة أشد ضيقا بين دوامة من دخان السجائر. من وقت إلى الآخر كانوا يقتحمون غرفته، فيبادرهم بنظراته الحانية، مبتسما بمرارة تليق بمن سيورثهم عما قريب تلا من كتب عتيقة لن يكفي ثمنها جلب بضعة عبوات من حليب ولده الرضيع. تستعيد الحيطان لونها الداكن، و أستعيد الوعي؛ فألمح وجوههم البلاستيكية التي خلت جميعها من الود عدا وجه واحد ذي ملامح أشعت بالطيبة، راح يراقبني بعينيه الحزينتين؛ فسرى في قلبي خيط رفيع من الطمأنينة. بلا مقدمات غمسوا أسنة الريش في مسام جلدي، و انهمكوا في تسويد الصحائف بمداد دمي المتدفق. امتلأت الأوراق عن آخرها؛ فوكزني أحدهم في صدري، و قبل انسحابهم المفاجئ، ألقى إلى صاحبي الطيب خلسة عددا من البذور المختلطة بالدم، ثم تلاشى كسائر رفاقه؛ فتلاشى الضوء، و عادت العتمة تعربد في المكان.
(٣)
بمرور الوقت تدرب قلبي جيدا على تلقي طعنات العزلة. لم أعد أصرخ؛ حنينا إلى الخروج، بل تعايشت مع العتمة؛ فصارت أناملي عينين أرى بهما بذوري التي نبتت بعد أيام من غرسها في مسام جلدي التي تفتحت كنوافذ صغيرة منذ غزو عيونهم. كان من الطبيعي بعد تحولي إلى شجرة أن تتسلق فروعي الحيطان، و أن تخترق جذوري تربة الغرفة الرخوة، و أن تمتد تحت القواعد الخرسانية؛ كي ترتوي من ذكرياتي القديمة المطمورة هناك.
(٢)
بهدوء تام تسللوا إلى الداخل. بعينين مصعوقتين، تطلعت إلى وجوههم الجامدة و ملامحهم الصارمة، و أعينهم التي انبعث منها ضوء أصفر شاحب بالكاد أنار الغرفة. عادت الأسئلة الحائرة تنهش رأسي من جديد، لكنني سرعان ما اقتنصت الفرصة. بنظرات مرتبكة حاولت التعرف على معالم غرفتي التي تبددت عتمتها للتو. طلاء داكن كئيب، حيطان دائرية، سقف اتخذ شكلا مقوسا كقبة محدبة. عيناي تقرآن في عجلة، و وجوه صارمة ترقبني كنمور تأهبت للافتراس. يبدو أن لحظات الهدنة المصطنعة قد انتهت؛ فسرعان ما انتزعتني أيديهم الخشنة، و طرحتني أرضا. راحوا يفتشون ملابسي و فروة رأسي و أظفاري و أجفاني، حتى مسام جلدي لم تسلم منهم؛ إذ نفذت أعينهم من خلالها إلى أسفل جلدي؛ عندئذ أضأت الحيطان الداكنة بضوء فضي. أسندني أحدهم؛ كي أتمكن من رؤية المشاهد المتلاحقة، ها هي الصور تمر أمامي كبرق خاطف. هل كنت ذلك الطفل الراكض كعصفور طليق؟! غزالة كانت، و أنا المفتون بوجهها المرمري تحت ظلال شجرة زيتون أينعت في البراح. تمضي المشاهد؛ فيكتسي وجهي بغبرة و مسحة حزن تجتر خلفها الخيبات و الهزائم. الطفل يتوقف عن الركض، و شجرة الزيتون صارت عقيمة ما عادت تثمر، و الغزالة صارت أما لثلاثة، لم أ كن أباهم على أية حال. البراح تأكله البيوت الجائعة، و الذكريات تقبرها قواعد الخرسانة دونما اكتراث. الصور تنعكس على الحيطان.. أرى كهلا لون الشيب شعره ضاق براحه؛ فانزوى في غرفة أشد ضيقا بين دوامة من دخان السجائر. من وقت إلى الآخر كانوا يقتحمون غرفته، فيبادرهم بنظراته الحانية، مبتسما بمرارة تليق بمن سيورثهم عما قريب تلا من كتب عتيقة لن يكفي ثمنها جلب بضعة عبوات من حليب ولده الرضيع. تستعيد الحيطان لونها الداكن، و أستعيد الوعي؛ فألمح وجوههم البلاستيكية التي خلت جميعها من الود عدا وجه واحد ذي ملامح أشعت بالطيبة، راح يراقبني بعينيه الحزينتين؛ فسرى في قلبي خيط رفيع من الطمأنينة. بلا مقدمات غمسوا أسنة الريش في مسام جلدي، و انهمكوا في تسويد الصحائف بمداد دمي المتدفق. امتلأت الأوراق عن آخرها؛ فوكزني أحدهم في صدري، و قبل انسحابهم المفاجئ، ألقى إلى صاحبي الطيب خلسة عددا من البذور المختلطة بالدم، ثم تلاشى كسائر رفاقه؛ فتلاشى الضوء، و عادت العتمة تعربد في المكان.
(٣)
بمرور الوقت تدرب قلبي جيدا على تلقي طعنات العزلة. لم أعد أصرخ؛ حنينا إلى الخروج، بل تعايشت مع العتمة؛ فصارت أناملي عينين أرى بهما بذوري التي نبتت بعد أيام من غرسها في مسام جلدي التي تفتحت كنوافذ صغيرة منذ غزو عيونهم. كان من الطبيعي بعد تحولي إلى شجرة أن تتسلق فروعي الحيطان، و أن تخترق جذوري تربة الغرفة الرخوة، و أن تمتد تحت القواعد الخرسانية؛ كي ترتوي من ذكرياتي القديمة المطمورة هناك.