ماءالعينين بوية - الصبي المريد

في غابة متناثرة الأشجار صاح الطير: هو هو هو ….
قال المقتفي أثر الصوت: هو هو هو……ثم انطلق سريعا نحو التلة، حيث الشيخ يرقد على فراء من جلد متآكل و بجنبه قصعة من خشب عليها بعض العصيد البائت، قال الفتى بلهفة واصل:
"الطير ناداني بالوِرد خاطبني، سمعته فأشجاني و رميت عليه أحزاني، فهمت منطقه في الذكر فأبكاني، رميت نعلي و جئت أزف لكم فرحتي….."
تمغط العجوز و مد يديه نحو الصبي، اذهب فما وصلت بعد، ذاك هديل حمام، أو نعاق غراب….ليس إلا….
طأطأ الفتى رأسه و خرج منكسرا، ما الوصول؟
حمل سبحته و عاد للغابة، بين كل شجرة و شجرة، يلف بالذكر:
يا حي يا حي يا حي……سبوح قدوس سبوح قدوس….
هو….هو…..هو….
حتى إن طال به الجذب، يجلس تحت ظل كومة أحجار، يتناول عودا ليكتب كيف أنت يا سمنون:
أنا راض بطول صدك عني ليس إلا لأن ذاك هواكا
فامتحن بالجفا صبري على الود ودعني معلقا برجاكا

سمنون من كبار المتصوفة في العهد العباسي الأول، عرف بطريقة أساسها المحبة و العشق، فسموه سمنون المحب، وسمى نفسه الكذاب،يتذكر الفتى كيف انتهج هذا الصوفي طريقه في التقرب إلى الله، ويتذكر مأثورة الطير…يجد نفسه إن سلك طريقه فذاك أقرب، تنهكه كثرة العبادات و دوام الفرائض، يعجز عن بعضها، غير أنه يريد المقام، يريد أن يصدره شيخه دون عناء….يظن أن ما فعله سمنون و غيره من كبارالصوفية سهلا…
بينما يرفع رأسه إلى السماء، غيم يسبح في بساط أزرق، تتوسطه كرة لهيب حمراء، تتوهج كما يتوهج قلبه، يرسم الفتى هذه الصور، حصى و فتات أوراق، دبيب حشرات، عالم فوقي عظيم بصنعته، وعالم سفلي دقيق في حبكته، الكل يهيم في حلقة واحدة، لبها الواحد، يسير الفتى بأفكار، حتى يستجمعها في بوتقة واحدة، يتذكر ابن عربي….إنه عابد قارئ…
يعيش هذا الفتى الصغير مع شيخه قرابة العام، تركه والده لمربيه، وارتحل بماشيته و أنعامه سالكا دروب الماء، رغم أن الفتى و شيخه على مقربة من غابة وفيرة الأشجار، كثيرة الأحراش، إلا أن الأب أراد لغنمه أرضا أخرى…كما أراد لابنه هذا الشيخ، فالتربية لا تقتصر على الوفرة، بقدر ما تحتاج النوعية….هكذا الأب….جعله ابنه الصغير في كنف الشيخ يربيه كما علمه هو…
قرابة العام، كان كلام الشيخ مع الفتى نادرا، يوقظه الفجر، يقرأ حزبه،ثم يرسله للغابة بسبحة صغيرة، طلب منه أن يسبح و يذكر ما شاء، حتى الظهر فيعود، فكانت هذه هي حياته، يخرج صباحا حيث الغابة، يلهو ينام يسبح….حتى الوقت المعلوم، ليعود فيجد أمامه كسرات خبز و بعضا من الحليب، ينام أمام الكوخ ثم يعاود الخروج عصرا إلى غروب الشمس فيعود للنوم…
ظل الفنى صابرا، أيامه الأولى، بات الضجر و الملل يصيبه، شبخ لا يتكلم، لا راتب لا سلوك، ذهاب نحو الغابة و إياب، تتكرر الأيام، الأول كالثاني كالثالث، كلها في الواحد، شمس ترتفع ثم تدنو، شجر يعاتب شجر، طير يبيض، يرفرف، يسقط….هكذا ظل الفتى، فقط في ليلة مظلمة، حمل شمعته و دخل الكوخ، رفع الشيخ أصبعه نحو صندوق كبير، ثم قال افتحه كل يوم و خذ ورقة……أحس الفتى أنها درجة صعدها، هكذا بعض الفراغ سيكتنز، يحمل ورقته، ليقرأها، ورقة تلو الأخرى، لاحظ أنها نقلات من كتب شتى، صفحات مبتورة، شذرات من فنون و علوم، هنالك وقف على شخصيات سمنون، السهروردي، ابن عىربي، ابن مسرة….. كان يقرأ بشغف، حتى التاريخ، ااسياسة الأدب….يطالع الورق حتى الحفظ ليعيده صياغة حين يلج الغابة…
ربما كان هدف الشيخ أن يراكم الفتى معرفته الخاصة، و إن شكل عشوائي، ثم تصقل من بعد بالعبادة، و أي عبادة و عمل يرغب فيه، الفتى أتعبه القليل، وقد لا يقوى على الكثير، فرأى في التأمل و المحبة رياضة غير مكلفة، يصنع بها طريقه نحو الخالق….أعجب الفتى بمذهب الزهاد و رقائقهم و قصصهم و أخبارهم، و انطلق يؤلف في أحلامهم و رؤاهم، كيف بلغوا و كيف وصلوا، و جعل من حكاياتهم نصوصا في غابة كثيفة الأشجار تكاد الشمس لا تخترق وسطها…الذي جال في ظلمته حتى حفظ سواده متى يزداد قتامة و متى ينجلي…هكذا سيرته على نحو عام…
بعد أن صلى الشيخ عصره…وقف على رأس الفتى مغشيا على ظهره يغط في نومه، لكزه بقدمه، انظر إلى السحب كيف تناديك إلى الصلاة، وانظر إلى العشب ينتظر ناصيتك، انظر إلى الفضاء كم يتسع لذكرك، وأنت تبخل على نفسك بلحظات فناء، قم و ردد " ألم نشرح لك صدرك"، ثم خرج يجري بكل قوته نحو الأحراش، وهو يصرخ بكل صوته: " الله الله الله…..
اختزل الفتى دهشته، هل هذا شيخي من يعبث بقدميه في الهواء كالطفل، كيف له أن يجري بلا وقار كهكذا…توارى عن النظر، ولج الصبي الغرفة، جلس على فراش الشيخ أخذ سبحته وأتمم نومه.
غابت الشمس ولاح الظلام في الأفق، ولم يعد الشيخ بعد، كنت أبحث عن طريقي، فإذا بي سأبحث عن معلمي و مرشدي لطريقي…غير أنه الليل، و الغابة بوحوشها قد تقتلني بعد قتله، هذا شر الوساويس….
حزم الفتى كل شجاعته و طمس جبنه و خوفه، ورفع سراجه و صار ينادي:
"شيخي و مرشدي…شيخي و مرشدي…."
خطوات و خطوات، دخل الفتى غابته، هي له في النهار صديقة يعرفها أشد المعرفة،خاصة جانبها المشرق، غير أنه لا يعرفها كما هي في الليل، ففي الليل تتساوى مقاماتها و أحوالها لترتقي مقام السواد القاتم الحابس للأنفاس…
هو هو هو هو هو ….
يتكرر صوت من بعيد
إنه الطير و الحيوان…تتشاكل الأصوات
صوت واحد أميزه، هو صوت شيخي….
نطقت بلا وعي هو هو هو هو هو …..هل هو الخوف…..سقطت يمامة من عليائها، صوتك شجي كما صوت جار الأيك…
من هو جار الأيك؟؟؟
أطلت الخطى و تذكرت ألم نشرح، رفعت رأسي و حملت ذاتي حتى جلست على كرسي الانشاد، و تيقنت أن صدري انشرح، فقلت ألم نشرح……تهادت الأشجار نحو السماء بعد انكبابها و رأت صغار الحشائش أنجم الليل و قد منعتها كثافة الأغصان و سواد سماء ما تحت الأشجار، من رؤية السماء الكبرى…..
هنالك صاح الشيخ تعالى بني، إنها عطايا الرحمان تأتي حين يشاء المنان…
وجد الفتى شيخه جالسا على هيئة مهيبة، يتوهج نورا، جلس القرفصاء عند ركبته، قال:
"خلتك يا شيخ تأخرت على غير عادتك فخرجت أبحث عنك".
أجابه الشيخ:
" وهل خرجت تبحث عنه كما خرجت تبحث عني؟
تخرج كل يوم تبحث عن " الهو"، ولم تجده…أرأيت حجم الخوف، وتلك الطاقة التي انبجست من دواخلك….لو أنك تركتها ليوم آخر…قم بنا للدار، فالفجر بات يدنو."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى