خالد جهاد - مملكة الصقيع

برد.. الشعور بالبرد لا يكاد يوصف.. إنه ليلٌ طويل لا يعبأ بالزمان أو المكان.. حتى الأزهار وأحمر الشفاه وأعمدة الإضاءة يرتعشون من الداخل، زاد شحوب الأطفال، اختفت النساء، أكمل البجع سباحته في صمت.. بلا شغف، واستقالت العصافير من نقابة الطيور معلنةً تمردها على عضويةٍ تمنح لها فور خروجها من البيضة لمجرد امتلاكها لجناحين، وقالت أنها تغار من النباتات والأشجار التي يتغنى بها الشعراء دون أن تبرح مكانها فيما يترتب عليها الكثير لتلفت انتباهم بعد أن تعيش عمرها رحالةً كرمزٍ للأمنيات الضائعة والمواسم المنقضية..

تنفذ اللحظات المشبعة بالخوف إلى الروح عقب كل غروبٍ لتعصرها، وتكسو الأجفان بحلةٍ رمادية تبسط سيطرتها على بقية الألوان، فتبدد موجات النعاس المتلاطمة بين العيون لتبدلها بأرقٍ يتحسس خطاه تحت جنح الظلام، وتتسرب منها ذكرياتها كذرات الرمال من بين الأصابع ذكرىً بعد أخرى في ذهولٍ ويأس، فقد تعب القلب من رتق الذاكرة كل ليلة بخيوطٍ من الصبر والأمل الذي نفذ من الأسواق، وخبأه التجار في مخازنهم ليبيعوه لاحقاً بأضعاف سعره في سوق الأحلام المفقودة خارج حدود مدينتنا بعد أن أمنوا العقوبة..

ورأى الجميع من خلف نوافذهم السمكة تخرج في وقتٍ متأخر بفستانٍ مكشوف وزينةٍ صارخة بعد أن خدعتهم بإرتباطها بالماء وخوفها من الصياد الذي كان ينتظرها متأنقاً في سيارةٍ فارهة يقودها الهر الذي سيقلهم إلى حفلٍ باذخ يمتد حتى ساعات الصباح الأولى بحضور الكثير من وجوه المجتمع في قاعةٍ حضروا فيها بالأمس ندوةً للدفاع عن المهمشين الذين يفترسهم الحزن والبرد والنسيان والهامش الذي عاشوا عليه لسنوات ثم ضاق بألمهم أيضاً..

فلم يعد التعاطف أو الحب كافياً أو باعثاً على الشعور بالأمان، ولم يعد العناق الدافىء دليلاً دامغاً على صدق المشاعر.. هناك.. في بلاد العجائب حيث لهيب الشمس يحرق كل المخلوقات لازلنا نتجمد من البرد، نعيش متأرجحين بين الأمس والغد فنذكر أننا عشنا ونخاف ألا نعيش وننسى أن نفكر كيف لنا أن نعيش.. وسط فوضى اللحظات التي لا ندري كيف نجمعها لنصنع صورةً تختصر الحياة، وصوتًا ينطق بإسم الكائنات ليجيب عن أسئلة التاريخ ويخرج من بين قلاعه المهجورة وسط السكون حاملاً قنديله الذي لا ينطفىء..

وكأن اللحظة التي تقرب بين الخيال والواقع باتت وشيكة حيث سيصبح الجنون كلمةً بلا معنى، وأعراضه مجرد (وجهة نظر) يمكننا محوها كأي رسالةٍ نرسلها قبل أن يقرأها الآخرون.. وسيزداد الطقس برودة رغم تعرقنا بغزارةٍ تجعلنا نرتعش أمام المدفأة، عندما ينفصل القلب عن الجسد فتعود الأحرف إلى الوراء وتخطو الأرقام إلى الأمام، في معادلةٍ لا مكان فيها لطقسٍ ربيعي عندما سيولد فصل جديد من الصقيع، يختصر كل الفصول والأحاسيس آخذاً معه الأرواح إلى حضن الضباب..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى