د. أحمد الحطاب - أيةُ منظومةٍ تربويةٍ نريد؟

من أهمِّ المؤشِّرات التي تدفع الدُّولَ و الحكومات إلى التَّفكير في إصلاح المنظومات التَّربوية، يأتي في المقام الأول البرنامج الدولي لتتبُّعِ مكتسبات التلاميذ Programme international pour le suivi des acquis des élèves PISA.

إن هذا البرنامج يُعدُّ بمثابة أداةٍ لقياس منجزات المنظومات التربوية و المكتسبات الأساسية التي يجب أن يتوفَّرَ عليها التلاميذُ على المستوى المعرفي بعد انتهاء مسارهم الدراسي الإجباري.

فعندما تكون المنجزات و المكتسبات تحت ما هو منتظرٌ، فهذا مؤشِّر إنذارٍ و تنبيهٌ يحثُّ على أن المنظومات التَّربوية تعاني من اختلالات يجب الوقوف عليها لإيجاد حلولٍ لها. و بعبارة أخرى، يجب إعادةُ النظر في خدمات المدرسة، في مهمتها، في كيفية اشتغالِها و بالأخص، في علاقتها مع المجتمع.

بالفعل، إن استعمالَ رائزَ PISA لا يهدف فقط إلى قياس حجمِ المعارف التي اكتسبها المُتعلِّمون و لكن كذلك كيف يتعاملون مع هذه المعارف في حياتهم اليومية. و بعبارة أخرى، كيف يمكن للمعارف المدرسية (النَّظرية) أن تُصبحَ عناصر تُفسِّرُ الأوضاعَ التي يصادفُها المتعلِّمون في حياتهم اليومية. و هذه بعض أهداف برنامج PISA :

-قياس إنجازات التلاميذ.
-دراسة مدى تحضير التلاميذ لحياة الكِبار
-الوقوف على العوامل الخارجية (الظروف الاجتماعية و الاقتصادية) التي تؤثِّر على آنجازات التلاميذ...

غير أن نتائجَ برنامج PISA، رغم أهمِّيتِها في الوقوف على نجاعة و مردودية المنظومات التَّربوية، قد تكون غير كافية لإعادة بناء هذه المنظومات. وهنا، يجب أن لا ننسى أن المنظومةَ التَّربويةَ عبارة عن بِنيةٍ معقَّدة و بالتالي، لا يمكن اختصارُها فيما يجري داخلَ الأقسام، أي حَصرُها في أنشطة التَّعليم و التَّعلُّم.

إن المنظومةَ التَّربوية عبارة عن نظامٍ سياسي-اجتماعي، هي الأخرى جزءٌ من نظام أوسع متمثِّل في الدولة. سياسي لأنه جزءٌ من السياسة العامة لهذه الدولة في مجال التَّنمية. اجتماعي لأنه أًنشِيءَ من طرف، في و من أجل المجتمع. إنه إذن نظامٌ منبثقٌ من مجتمعٍ ينتظر من المدرسة أن تضمنَ استمرارِيتَه و تطوُّرَه.

و لهذا، فإن بناءَ أو إعادةُ النظر في منظومةٍ تربويةٍ ما يجب أن ينطلقَ/تنطلقَ من ضرورة اعتبار هذه المنظومة ككُلٍّ متكاملٍ الأجزاء علما أن الهدفَ الأساسي هو تجديدُ هذه الأخيرة.

فما هي الشُّروطُ التي ستقود إلى هذا التَّجديد؟

فيما يلي، هذه بعض الشروط التي أعتبرُها شخصيا حاسِمة :

1.الشرط الأول: القطع نهائيا مع ممارسات و أساليب المنظومة السابقة لا من حيث أنشطة التَّعليم و التَّعلُّم و لا من حيث الحكامة. و هذا يعني تبنِّي مدرسة جديدة لها مكانتُها في المجتمع علما أنه، بدون هذا التَّبنِّي، قد تعود الممارسات و الأساليب القديمة للميدان، الشيء الذي قد يُعيقُ، كليا أو جزئيا، جدوى محاولات البناء و التَّجديد.

و هنا، لا بدَّ من الإشارة أن العديدَ من البلدان عرفت مثلَ هذا الوضعَ من جراء المواجهة بين المتمسِّكين بما هو تقليدي traditionalisme و مَن ينادون بالحداثة modernisme.

2.الشرط الثاني: ما هي المكانة التي يجب أن تحتلَّها المدرسة في المجتمع؟
أو بعبارة أخرى، ما هي المدرسة التي نريد؟ هل نريد مدرسةَ التَّحرُّرِ و التَّفتُّح الفكريين و الاجتماعيين و الثقافيين و تكافؤٍ فعلي للفُرص أم مدرسةً تُنتِج أشخاصاً منمَّطين مع انعدامٍ لتكافؤ هذه الفرص؟ مدرسة تتفاعل مع المجتمع و بالأخص، مع التَّغييرات التي تحدث به، أحيانا بسرعة فائقة؟ مدرسة منفتِحة على محيطها القريب و البعيد تنهل منه سرَّ وجودها؟ مدرسة يتساكن فيها، بنجاعةٍ، التعليم و التربية و التَّعلُّم و التَّكوين؟ مدرسة تساهم في التنشئة الاجتماعية و في تعلُّم المواطنة و حب الوطن؟

3.الشرطُ الثالث: أي مجنمع نريد؟
إذا افترضنا أن المجتمعات المتطوِّرة و المتقدّمة تتوفَّر على منظومات تربوية جيِّدة الأداء، الدول الأسكندينافية كمثال، يمكن أن نقولَ أن هذه المجتمعات نِتاجٌ لهذه المنظومات. كما يمكن أن نقولَ أيضا أن المنظومةَ التربويةَ صورةٌ للمجتمع الذي يحتضنها.

و لهذا، ليس بإمكاننا أن نُقارنَ بلدا نسبةُ الأمية فيه مرتفعة ببلد آخر نسبة المتعلِّمين فيه تقارب 100%! و هذا يجرُّنا إلى القول بأن المنظومة التربوية لها تأثيرٌ على تطوُّر (حضارة، تقدُّم) المجتمع. فبناءُ أو تجديدُ منظومةٍ تربويةٍ يقتضي أن بندمجَ المجتمعُ في هذه المنظومة و العكس. لكن مجتمع متوازن، مُنصف، متسامح، متضامن، متماسِك، مُتعلِّم، مثقف، مُتربِّي، ينقل قيماً إسانيةً، يُنتِج الثروةَ و القيمات المضافة، الخ. و باختصار، لبناء أو تجديدِ منظومة تربوية ما، يجب، بكل بساطةٍ، التَّوفُّرُ على مشروع مجتمع بما للعبارة من معنى.

4.الشرط الرابع: أي مواطن نريد؟
هنا حجر الزاوية لأن المواطنين الذين تُنتِجُهم المدرسة هم مَن يبنون المجتمعَ. فعلى المدرسة أن يتجسَّدَ فيها المجتمعَ كما يريده الجميع. تجسيدٌ يشمل محاسنَها و قيَمَها و قدراتِها بتنشئتها للمُتعلِّمين الذين هم مواطنو المستقبل. فما هي إذن مواصفات profil التي يجب تبنِّيها أو، بعبارة أخرى، على أية مواصفات يجب أن تُركِّزَ المدرسةُ لبناء مجتمع كما تمَّ وصفُه أعلاه؟

في نظري، مواصفات المواطن الذي نريد يجب أن تتمحورً، على سبيل المثال، على الاعتبارات التالية :

-تكوين مُتعلِّمٍ يتعامل مع المعرفة التي يتلقَّاها ليس كحقائق مطلقة و لكن كتفسيرٍ للواقع réalité و للظواهر المحيطة به.
-اعتبارُ المتعلِّم كفاعِلٌ/رافعةٌ للتنمية مستقبلاً و كأمل لمجتمعٍ نشيط.
-تكوين شخص حرٌّ، مُحترِمٍ نفسَه و الغيرَ و يتحلَّى بروح المسئولية.
-شخص يتمتَّع بحقوقه و يؤدي واجباتِه (مواطنة، حب الوطن و الصالح العام).
-شخص متعلِّم، مثقف، متربي، متحرِّر، مُتفتِّح و يتوفَّر على فكر نقدي.
-شخصْ حاملٌ لقيمٍ اجتماعيةٍ كالتسامح و يميل إلى العمل الجماعي و التضامن.
-شخص مُنتِجٌ للقيمات المضافة، للثروة، للتَّقدُّم…

5.الشرط الخامس: أي نوعٍ من الممارسة التعليمية/التربوية نريد؟
انطلاقاً من نوع المجتمع و المواطن اللذان نريد، نحن ملزمون بتبنِّي ممارسة تعليمية/تربوية :

-تجمع، بامتياز، بين التعليم و التربية و التَّعلُّم و التّكوين.
-تكون منصِفة و تُقلِّص أو تقضي على تفاوتات التَّعلُّم و بالتالي، تضمن نجاحَ الجميع.
-مُسخَّرة للمتعلِّمين و ليس العكس.
-تكون فيها المعرفة متفتِّحةً ليس فقط على الحياة و لكن كذلك وسيلة لتطوُّرِ و نموِّ المَلَكات الفكرية للمتعلِّمين.
-تُحفِّزُ على الفضول و أخذ المبادرة و على الاكتشاف…
-يكون فيها المتعلِّمُ شخصا نشيطاً، جريء و لِما لا قوة اقتراحية.
-تسود فيها ثقةٌ متبادلةٌ بين المُدرِّس و المُتعلِّم.
-فيها نفعٌ للمدرسة، للمدرسين، للمتعلِّمين، لمجتمع، للبلاد…

لكن الممارسة التعليمية/التربوية تكون أكثرَ نفعاً إذا بدأ تفتُّحُ المتعلّمين و تحرُّرُهم منذ الصِّغر و بالضبط، أثناء مرورهم من مرحلة التعليم الأولي الذي يسبق مرحلةَ التَّمدرس الإجباري. في هذه المرحلة، فضلاً عن النمو النفسي الحركي، فإن الطفلَ يبني، من خلال اللعب، عاداتٍ تسير في اتجاه تنشئته الاجتماعية المقبلة كتطلُّعِه للاستقلال و قَبول الآخر و قَبول الاقتسام و الاندماج في مجموعات و التَّعوُّد على الإبداع و اكتساب العناصر الأولى للغة (التواصل)...

و لهذا، فآن المنظومةَ التربوية ستكون مُربِحةً إذا ما جعلت من مرحلة التعليم الأولي جزأً لا يتجزَّأُ من التَّمدرس الإجباري. في هذه الحالة، فإن الطفلَ، عندما يصل إلى المرحلة الابتدائية، يكون قد خطا خطواتٍ نحو تنشئتِه الاجتماعية و يكون له الاستعدادُ ليخطوَ نحو آفاقٍ جديدة من المعرفة و التَّعلُّم و التربية و بالأخص، نحو تقوية شخصيتِه.

6.الشرط السادس: أية مواصفات مُدرِّسٍ نريد؟
المدرِّسُ هو حجر الزاوية في بناء أو تجديد المنظومة التّربوية. فعندما نقول : "أية مدرسة نريد؟" و "أي مجتمعٍ نريد؟" و "أي مواطن نريد؟" و أية ممارسة تعليمية/تربوية نريد؟"، فهذه اعتباراتٌ يجب أن تتجسَّدَ في المدرِّس من خلال تدخُّلاتِه في القسم و من خلال علاقاته بالمتعلِّمين.

المدرِّس هو الجزء الأساسي الذي يمكِّن المدرسةَ من أداء مهمَّتِها على أحسن وجهٍ. إنه هو الذي يضع اللبنات الأولى لمجتمعٍ منصِفٍ، عادلٍ، متسامحٍ… من خلال ممارستِه التعليمية/التربوية و ما تحملُه و تنقله من قِيمٍ. إنه هو الذي يسهر على تهييء المتعلمين ليكونوا مواطني الغد. إنه هو الذي يجعل الممارسة التعليمية/التربوية جذابةً، مفيدةً و ذات نفعٍ. و في هذا الصدد، لم يعد المدرس مجردَّ وسيلة لنقل المعرفة لكن كذلك باني حقيقي للمتعلِّم، لشخصيته، لمستقبلِه و اندماجِه في المجتمع. و توفيراً لما يتطلَّبُه بناءُ أو تجديدُ المنظومة التربوية، المدرس هو ذلك الشخص الذي :

-يحمل التَّغيير و يؤمن بأهمِّبته.
-يتصرَّف في مدرسةٍ مواطنة كمواطنٍ تتخلَّلُه نبرةُ حب الوطن و الصالح العام، أي يتصرَّف كمثالٍ يُحتدى أو كقُدوةٍ بالنسبة للمتعلِّمين.
-يكون واعياً بأن دورَه لا يمكن أن يًختَصرَ في نقل المعارف. إنه، أولا و قبل كل شيء، مربِّي و ناقلٌ للثقافة و القِيم.
-يكون على اطلاعٍ بالوظيفة الاجتماعية، الاقتصادية و الثقافية للتعليم و التربية.
-يعتبر نفسَه كواحدة من الرافعات التي تساهم في التّنمية.
-له درايةٌ بخيوطِ مهنتِه من خلال تكوينٍ رفيع المستوى و بالأخصِّ، على درايةٍ بعلاقة هذه المهنة بالمجتمع، بالمنظومة التربوية، بمؤسسة انتمائه، بالأسرة، بالأخلاقيات، بالمسئولية…
-يتخلَّصُ من وضعِه المُعتاد الذي يجعل منه مالِكا للمعرفة، أي الشخص الذي يعرف و ينطق بالحقيقة، الشيء الذي يساعِد على بَسطِ مناخ تسود فيه الثقة و الحوارُ بينه و بين المتعلِّمين.
-يتقمَّصُ دورَ المنشِّط و المنسِّق و المًحفِّز و المسهِّل…
-يجعل من الجودة الخيطَ الناظمَ لممارستِه التعليمية التربوية.
-يأخذ مسافةً إزاء مهنتِه، تعليمِه و تدخُّلاتِه داخل القسم (تقويم ذاتي).
-يسعى دائما إلى تحسين تعليمِه و صورتِه بتَحيين ممارستِه معرفيا و تربويا.
-يتعوَّد على استعمال تكنولوجيات الإعلام و التواصل و بالأخص تلك التي تقوِّي جودةَ و نجاعةَ ممارسته التعليمية التربوية…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى