مناف كاظم محسن - الرقم 7

لقد مررت بيوم عصيب، وليلة مروّعة، أدعية امّي التي تجعلني أشعر بالراحة والاطمئنان دائماً لم تعد تنفعني. أنا لا أنتظر أحد. ولكن كلّما ارتفع هبوب الريح وانغلقت الأبواب والنوافذ بقوة أثار في مخيلتي خوفاً عميقاً، لا أستطيع التخلّص منه مهما حييت، يأخذني الخيال الى أماكن مجهولة لكنّها جميلة جداً، خضراء يغسلها الندى، فأجد نفسي ممسكاً بالفرشاة وأرسم صورة امرأة جميلة حد البكاء تشق قميص خادمها من دبر وتقول له هيت لك. وكلّما حاولت أن أبعد عني شياطيني التي تسبح في فضاء وجودي مثل نسور مفترسة، أفشل في أول محاولة لي ثم أجد نفسي جالساً على ركبتي استدعي سِّرْباً من الملائكة يدخلون من نافذتي المفتوحة لهم دائماً. أنشد لهم اشعاري المفضّلة. لأنه عندما أنكسر أوّ لا أستطيع أن أتحمل المزيد من الألم والمشاعر الإنسانية الفياضة من قلبي، فأن الملائكة تحمل مخاوفي الى السماء حيث يشتتها الرب ثم يمطر على الكثير الكثير من الايحاءات التي لا يفهمها أحدٌ غيري، ثم تتحول بعد ذلك لقصائد أوّ أناشيد يرددها الأطفال في المدارس.
عندما أتوا بي لهذا المكان الموحش، الذي لا أذكر منه غير الأفكار المحبطة، زارتني امّي في المنام وطمأنتني كثيراً. مسحت على قلبي بيدها الدافئة التي تشبه نسيم الصباح الربيعي ثم قالت: -
- لا تخف يا بني فأنا والرب بجانبك دائما مهما سيطرت عليك المخاوف ومهما جثمت على قلبك مخالب الشيطان. وكلّما غلبك الضعف اترك النوافذ مشرعة واستدعي ملائكة الرحمن.
كلّما ركّبوا الأسلاك على رأسي وسرى التيار الكهربائي في جسمي أشعر بهشاشة وجودي وضعف بدني، وأرى نفسي في رحلة مؤلمة نحو المجهول المطلق. تتراكم الذكريات الحزينة كزخات مطر في يوم بارد. في كل مرة أنظر فيها من نافذة ذاكرتي المشتتة أرى امّي ممسكة بيدي اليمنى عندما كنت لا أزال صغيراً، وأرى العالم من حولي كبيراً. لكنّها رغم ذلك قد أخبرتني أنّه مهما حدث لي فيجب أنْ أكون مطمئنّاً، لأنها لن تتركني اوّاجه بشاعة الحياة لوحدي، حتى لو أخذها الردى. ينقبض قلبي كثيراً ويأخذني غثيان كريه ثم تتشنج عضلات جسمي عندما أتذكّر تلك اللّحظات المخيفة جداً حينما كانوا ينقلوني من معتقل أسرى الى آخر ويبتكرون طرقاً لم يستخدمها أحد في تعذيبي معتقدين إنني جاسوس، ولكن كيف توصلوا لاعتقادهم هذا لا أدري! نسيت اسمي وأهلي وأصحابي ولم يبق الّا تداعيات الألم والرهبة والخوف من كل شيء. وعندما أعادوني للبلاد لم يستلمني أحد، ولم أستطع أنْ أخبرهم من أنا ولا أيّة معلومة ترشدهم عني. أخيراً وجدت نفسي هنا. في هذه المصحة المشؤومة. في آخر طابق حيث الحالات التي لا يرجى منها الشفاء. يحاولون معرفة أيّ شيءٍ عني إلا أنني كنت أخذلهم في كل جلسة كهربائية. وكتب على ملفي التعريفي الرقم (7) لماذا هذا الرقم بالذات، لا أعرف، ربما الصدفة هي من أرشدتهم له فهو يأخذني لروح امّي الهائمة في السبع سماوات.
لم أعرف من أين أتت لي هذه الفكرة، ربما أمس عندما حلمت بأمي وأكدت لي انها قد أوصت كبير الملائكة الذين يأتون لزيارتي كلّما اشتدت معاناتي أنْ يأخذني اليها حيث تسكن، في إحدى السماوات السبع. طلبت من الممرض المسؤول ذي الصوت الخشن أنْ يُعطيني أوراقاً وقلماً، علّني أكتب فيها بعض ما فكرت فيه طيلة الفترة التي أمضيتها في هذا المكان المشبع برائحة الكحول وصراخ المجانين. ترددت كثيراً قبل أنْ أطلب منه ذلك، لعدم تأكّدي من انني أعرف أنْ أكتب أم لا. لكنني - وهذا ما جعلني مندهشاً من نفسي- ما أنْ أمسكت القلم وبدأت في كتابة أوّل كلمة حتى رأيت نفسي غارقاً في بحر من الذكريات والصور التي ربما لن أستطع أنْ أكتبها كلّها.
رأيت نفسي طفلاً لابساً ملابس العيد، حولي الكثير من الأشخاص الذين لا أتذكر أنى أعرفهم، يرحبون بي ويعطوني نقوداً أو حلوةً ويحتضنوني تغمرهم الفرحة والاحتفال بوجودي. ورأيت نفسي عائداً من المدرسة فرحاً بتفوقي ونجاحي. ثم رأيت نفسي شاباً يافعاً بملابس عسكرية أمسك كفيّ بنت يكاد جمالها المشع أن يذيبني أمامها. ربما كانت تودعني قبل أنْ التحق الى وحدتي العسكرية. ورأيت نفسي في صور أخرى لكن لم تكن مفرحة وانما جعلتني أبكي رغم انني لم أنقطع عن الكتابة. وأخيراً بعد ان هدأتُ وأصبحتْ ضربات قلبي أكثر استقراراً، جلست على ركبتي وهيئتُ نفسي لكبير الملائكة الذي طمأنني ومسح على رأسي مزيلاً عني كل الجراح التي كانت تؤلمني سواء تذكرتها أم لم أتذكرها. رأيته يخرج عصاه الشفّافة التي تشبه لون الهواء العليل الذي يدخل من نافذة غرفتي العالية فيملأ قلبي بالهدوء والسكينة. وضعها على ظهري بعد أنْ طأطأتُ له رأسي فنبتت لي جناحان تشبه أجنحة الملائكة المحلقين حولي. ابتسم لي ابتسامة انساب تأثيرها داخل نفسي كالسحر، ثم أشار اليّ أن أتّبع سِرْب الملائكة وهم يخرجون من النافذة محلقين في أعالي السماء حيث زرقتها الرائعة الجمال. لم أعرف هذا الشعور الرائع الّا بعد أنْ عشتهُ وأنا أحلّق عالياً معهم مرفرفاً بجناحي مثل فراشة ملونة تراقص ذرات الهواء الباردة، فصرختُ مبتهجا بالحرية التي افتقدتها طيلة سنين حياتي الماضية، مكسراً القيود التي كانت تشدني وتخنق وجودي.
رفع الدكتور رأسه عن الأوراق التي كان يقرأها بعد أنْ وضعها على مكتبه. لم يجد ما يعبر به عن انفعالاته ولا تسارع ضربات قلبه. فتح الدرج الأول ثم الثاني ثم الثالث، أغلقهم دون أنْ يجد ما يريد. نظر أمامه فوجد علبة السجائر أخيراً، أخرج سيجارة، أشعلها، بعد أنْ أحس بالدخان قد تغلل في صدره نظر الى مسؤول الممرضين الواقف كالتمثال منذ أنْ بدأ هو بقراءة الأوراق.
- كيف اكتشفتم ما حدث.
- فجر اليوم.. أفزعنا صوت ارتطام جسم على الأرض، ركضت أنا واثنان من الممرضين فرأيناه مرميا على وجهه وحوله بركة دم. وعندما نظرنا الى الطابق العلوي حيث غرفته وجدنا النافذة مشرعة. ثم وجدنا هذه الأوراق فوق سريره.
- هل قرأتها.
- قرأت نصف صفحة أو أكثر ولم أفهم شيئاً.
- ومن أين لك أنْ تفهم.

مناف كاظم محسن
العراق - البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى