د. محمد سعيد شحاتة - جدلية الحبيبة والبحر وتشكُّل الرؤية الفكرية.. قراءة في قصيدة (حبيبتي والبحر) للدكتور إبراهيم محمد علي (الجزء الثاني)

تحدثنا في الجزء الأول من الدراسة عن ثلاثة نقاط، الأولى الشاعر من حيث كونه ابن جيله معبرا عن هذا الجيل وقضاياه وهمومه وطموحاته، والثانية عنوان النص من حيث كونه مفتاحا تأويليا، مرتبطا بعالم النص، والنقطة الثالثة هي حركة المعنى في النص من حيث كونها كاشفة عن تطور الدلالة وتشكُّل الرؤية الفكرية عبر مراحل تعبر كل مرحلة في النص عن ملمح من ملامح تلك الرؤية، وفي هذا الجزء سوف ننتقل للحديث عن التشكيل البلاغي للنص من حيث كونه الوجه الآخر للتعبير عن الرؤية.

التشكيل البلاغي وإنتاج الدلالة:
إن التشكيل البلاغي للنص يمثل شبكة من العلاقات توازي تماما شبكة العلاقات اللغوية في دورها في إنتاج الدلالة؛ إذ تمتد ناسجة خيوط النص طولا وعرضا، ومشكِّلة بذلك تفاعلا ديناميكيا بين النص والقارئ، ومخفية وراء ألفاظها المختارة الرؤية الفكرية التي تشكَّلت في الذهن الإبداعي لحظة إنتاج النص، واحتفظت بملامح تلك الرؤية حيَّة متفاعلة من خلال ألفاظ دالة، بينها علاقاتٌ متشابكة؛ لتؤدي في النهاية الدلالة المنوطة بها؛ فالأسلوب البلاغي يتشكل من مجموعة من الإمكانات تغذي وتتغذى بإمكانات أخرى، وتترابط مع بعضها البعض، ويأتي السياق الذي وردت فيه الجملة البلاغية؛ ليكشف عن كل ذلك، وينقل ما دار في الذهن الإبداعي لحظة إنتاج النص، وبذلك يعيد تشكيل الروح الإبداعية وما كان يحكمها ويتحكم في انفعالاتها لحظة الإبداع، وسوف نتوقف في هذا الجزء من التحليل عند التشكيل البلاغي ومدى قدرته على المساهمة في إنتاج الدلالة في النص، فنتحدث أولا عن النص بين الخبرية والإنشائية في محاولة لفهم ما يخفيه بين أنسجته من خبايا، وقدرته على الكشف عن التجربة بكل تفاصيلها، وتشابكات عناصرها، وتداخل خيوطها، ثم نتحدث ثانيا عن التشكيل الصوري، فنتلمس بعض الصور الفنية، ومدى قدرتها على استكناه عالم النص، والكشف عن مخبوءاته، ونتحدث بعد ذلك عن التشكيل البديعي من حيث كونه أحد ملامح التشكيل البلاغي، وأخيرا نتحدث عن النص بين الاسمية والفعلية في محاولة لاكتشاف عناصر الديناميكية الفاعلة في النص.
النص بين الخبرية والإنشائية:
يرى بعض الباحثين أن أسلوب الخبر والإنشاء "لا يكتفي بأنه يجسم ظلال الجمال الأخَّاذ، ويمتح من فضاء النور رونقه، ويأخذ من وسط العقد جوهرته ودرته وخريدته فقط، وإنما يحقق للفكر عطشه إلى المعرفة، وإدراك أسرارها" (1) وهذا يعني أن أسلوب الخبر والإنشاء ليس مجرد أسلوب يبحث عن التجميل والتزيين؛ كي يأتي النص بارع الجمال أو أخَّاذا فقط، ولكنه يكشف إلى جانب ذلك عن تحولات الدلالة داخل النص، وكيف يمكن أن يتحرك المعنى من خلال إيراد الأسلوب خبريا أو إنشائيا، ومن ثم فإن اختيار الشاعر لأسلوبه هو اختيار واعٍ قائم على إخفاء الدلالة خلف ستائر شفافة من الأساليب، ومراوغة المتلقي؛ كي يصبح شريكا في إنتاج الدلالة، واكتشاف المعنى، ومن ثم التوصل إلى الرؤية الفكرية المتخفية خلف شبكة العلاقات البلاغية واللغوية.
الأساليب الخبرية وعلاقتها بإنتاج الدلالة:
من الملاحظ أن الأسلوب الخبري يتوزع على خارطة النص توزُّعا متقنا؛ إذ تتخلله الأساليب الإنشائية محدثة نوعا من الديناميكية الناشئة عن الانتقال بين الأساليب بحيث تنفي عن النص الملل والجمود، وتدفعه نحو الحركة الدائمة والدائبة التي تتناسب مع حركة البحر وحركة النفس المبدعة الموَّارة بالتساؤلات والرغبات، وإذا كان الغرض الأساسي للأسلوب الخبري هو الإفادة، أي إفادة المُخاطب بمعلومة ربما لم يكن يعرفها من قبل فإن هذا الأسلوب يخرج عن معناه الحقيقي/الإفادة إلى معنى غير حقيقي وهو المعنى البلاغي، وإذا كان الأسلوب الخبري أسلوبا بلاغيا يعطي للكلام الذي يقع فيه احتمالية الصدق والكذب في ذاته مع إشارته إلى دلالة معينة دون التصريح بها فإن لجوء الشاعر إلى استخدام هذا الأسلوب يوحي بأنه يؤمن أن كلامه لن يجمع عليه المتلقون؛ إذ إنه يحتمل أن يصدقه البعض ويكذبه البعض، ولكنه منذ البداية لا يعنى بذلك؛ بل عنايته الكبرى هي نقل المشهد الذي يريد التعبير عنه نقلا كاملا مع تصوير ما يتحكم في النفس الإبداعية لحظة الإبداع، وإعادة تشكيل تلك الروح الإبداعية؛ لتكون ماثلة من خلال الألفاظ أمام المتلقي، موَّارة بالمشاعر الحية المتفاعلة، ومن ثم قد يُنزِل النص المتلقي الخالي الذهن منزلة المتردد أو الشاك، والعكس صحيح؛ ذلك أن الأغراض الخاصة بـالأسلوب الخبري يتعلق أساسها اللغوي بالمتكلم والمخاطَب معا، ومن ثم فقد قسَّم البلاغيون أنواع المتكلم مع المخاطب إلى ثلاثة أنواع يستوجب كلٌّ منهما غرضا مُحددا، فقد يكون المخاطَب خالي الذهن، ومن ثم فإن المتكلم يسوق له الخبر خاليا من أي توكيد، فحين نرى الجملة الخبرية خالية من التوكيد نعلم أن المخاطَب خالي الذهن، وإذا كان الموقف والسياق يقتضيان أن يكون المخاطَب شاكا نتيجة طبيعة المعنى ولم يرد في الجملة ما يدل على كون المخاطَب شاكا فإننا نعلم في هذه الحالة أن الشاعر قد أنزل المخاطَب الشاك منزلة الخالي الذهن، وحين يكون المخاطَب شاكا فإن النص يأتي بما يدل على ذلك من أدوات التوكيد، وقد يزداد شك المخاطَب فيصل على مرحلة الإنكار، وهنا نجد النص يحتوي على مؤكِّدات تتناسب مع درجة الإنكار، وهذا يعني أن النص هو مرآة الأنا الشاعرة التي تتجلى فيها حالة المخاطَب في النص، ونلاحظ أن الجمل الخبرية تنوعت فجاءت بعضها موكدة، وجاءت بعضها خالية من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعر اعتبر المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي يسوقها، وكأنه اعتبر هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد؛ فهي تعبر عن واقع لا يحتاج أدلة عليه. لقد عبَّرت خبرية الجمل في النص عن فكر الشاعر الذي تشكَّل في ذهنه قبل صياغة القصيدة، وتحرَّك منسربا بين ألفاظها وجملها، وشكَّل شبكة من العلاقات المنسوجة، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية.
ومن الأساليب الخبرية الواردة في النص (المدينة تنتظر القادمين على ناقة الفجر – مريمُ تبحثُ عن نخلةٍ – الوليدُ/الخلاصُ تشكَّل) ومن الملاحظ أن الغرض من هذه الأساليب الخبرية هو الحنين؛ لأن الدائرة الدلالية لهذه الجمل الخبرية تدور حول الرغبة في الخلاص، وقد جاء التعبير عن هذا الخلاص على المستويين اللفظي والمعنوي، فعلى المستوى اللفظي جاء لفظ الخلاص في قوله (الوليدُ/الخلاصُ تشكَّل) فقد صرَّح النص بلفظ الخلاص بدلالته الحاملة لمعنى الحنين الجارف، أما على المستوى المعنوي فقد جاء في النص (المدينة تنتظر القادمين على ناقة الفجر) فالانتظار الوارد في الجملة الخبرية يعبر عن الرغبة الشديدة في لقاء الذين تنتظرهم المدينة وهم القادمون على ناقة الفجر، ثم يأتي لفظ (تبحث) مسندا إلى مريم بكل ما تحمله من دلالة؛ ليأخذنا إلى الغرض نفسه/ الحنين؛ فالبحث يدل على رغبة الباحث في الحصول على المبحوث عنه، وإذا كان الفعل مضارعا فإنه يدل على التجدد والاستمرار مما يوحي باستمرار البحث، وهو ما يعبر عن الحنين للوصول إلى المبحوث عنه، ومن هنا قلنا إن الغرض من الأسلوب الخبري في الجمل الثلاثة هو الحنين، ومن الجمل الخبرية كذلك قوله (وبايعتُ عينكِ سلطانةً فوق عرشِ الفؤاد) وهو أسلوب خبري الغرض منه التعظيم، أي تعظيم الحبيبة، وقد ورد ما يدل على هذا التعظيم على المستويين اللفظي والمعنوي، فعلى المستوى اللفظي ورد قوله (سلطانة – عرش) وهما لفظان يدلان على المكانة الكبيرة التي تحتلها الحبيبة في نفس الأنا الشاعرة، أما على المستوى المعنوي فقد ورد لفظ (بايعت) والمبايعة مرتبطة معنويا باللفظين الواردين سابقا (سلطانة – عرش) والبيعة شكل من أشكال الاتباع، ثم أتى لفظ (الفؤاد) ليدل على أن هذا الاتباع والمبايعة إنما هما عن رضا، وهو ما يحمل معنى الإكبار لمن تمت مبايعته، ومن ثم قلنا إن الغرض البلاغي لهذا الأسلوب الخبري (وبايعتُ عينكِ سلطانةً فوق عرشِ الفؤاد) هو التعظيم، ومن الجمل الخبرية في النص (هو البحر يبعث فينا السؤال) وهو أسلوب خبري الغرض منه الحيرة؛ ذلك أن البحر ورد في النص حاملا معنى من معاني الغموض، ومن ثم كان السؤال أحد علامات هذا الغموض؛ فالغموض يستدعي السؤال عما غمض، ومن ثم قلنا إن الغرض من الأسلوب الخبري الوارد هو الحيرة؛ لأن البحر لم يبح بسرٍّ لمن يبحرون فيه، وقد ورد ذلك صراحة في قول الشاعر (يا بحر يا سرنا الأبدي) إن البحر كان وما زال رمزا للغموض واللانهائية، ومن ثم فإن معرفة أسرار المبحرين فيه تبقى من الألغاز التي تحيِّر الأنا الشاعرة، ولذلك وجدنا الرفاق يقولون (انطلق واسأل البحر عنها) وهو ما يعبر عن حيرة الأنا الشاعرة ورغبتها في المعرفة، ومن الجمل الخبرية كذلك قوله (فقد تتغيَّرُ فيه الملوحةُ/ أو تتنهَّرُ صفحتُه الجامدةْ) والغرض من هذا الخبر هو الاستبعاد، والاستبعاد ناشئ من كون المعنى قائما على الاستحالة؛ ذلك أن تحقيق هذه الأمنية يؤدي تلقائيا إلى تغير كينونة البحر، وهي الملوحة، وهذا شيء مستحيل، وقد يرى البعض أن الشاعر أنزل المستحيل منزلة الممكن من خلال استخدام الحرف (قد) الدال على الاحتمال، ولكن هذا الحرف (قد) خفَّف فقط من درجة الاستحالة، وإن كان الخبر يحمل في طياته رغية الأنا الشاعرة في تحقيق المستحيل، ولكنها تدرك أن ذلك مستحيل وهو ما دعا إلى قول البعض بأنه من الممكن تنزيل الاستحالة منزلة الإمكان، وقد أشرنا – في موضعه من الدراسة – إلى استخدام الجمل المؤكدة الدالة على الاستبعاد، من مثل (إنه الوهمُ – إنه الحلمُ – إنه الجرح – إنه الشعرُ) فالوهم والحلم والشعر والجرح كلها ألفاظ تدل على استبعاد تحقيق الأمنية، وقد شرحنا ذلك في موضعه من الدراسة، ثم يأتي أخيرا الأسلوب الخبري (قد تعلمين بأني مددت اليدين إليك) ليدل على الاحتمال، وعدم اليقين؛ فالأنا الشاعرة متأكدة أنها قد مدَّت اليد، وذلك من خلال التأكيد الوارد في الجملة الخبرية (أني مددتُ) ولكنها في الوقت الذي نسبت إلى نفسها التأكيد نسبت إلى الحبيبة الاحتمال من خلال استخدام اللفظ (قد) الدال على الاحتمال، أو الشك مع استخدام الفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار (تعلمين) فلا تستطيع الأنا الشاعرة الوصول إلى يقين بأن الحبيبة علمت أن الأنا الشاعرة مدَّت إليها اليدين في إشارة إلى محاولات الوصول إلى الخلاص المنشود، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، وإلى جانب هذه الأساليب الخبرية التي أوردناها اشتمل النص على أساليب خبرية أخرى، ولكننا اكتفينا بما أوردنا مع الوضع في الاعتبار قدرة المتلقي على اكتشاف ما لم نشر إليه استنادا إلى ما أشرنا إليه.
الأساليب الإنشائية وعلاقتها بإنتاج الدلالة:
يقوم الإنشاء على أساس الطلب الذي يطلبه المتكلم من المخاطَب، ومعنى ذلك أن الكلام الإنشائي مرتبط بتصورات المتكلم ورؤاه ومشاعره، وكاشف عن تلك الرؤى والتصورات والمشاعر، وسوف نتناول الأساليب الإنشائية في النص من زاوية كونها معبرة عن رؤى الشاعر وتصوراته ومشاعره، محللين ذلك تحليلا يربطه بالدلالة الكلية للنص، وقد وردت الأساليب الإنشائية في النص اثنتي عشرة مرة، موزعة على ثلاثة أنواع من الأساليب؛ فقد ورد أسلوب الاستفهام أربع مرات، وأسلوب النداء أربع مرات، وأسلوب الأمر أربع مرات، وبذلك تتساوى الساليب الثلاثة من حيث ورودها في النص؛ لتشكل توازيا دلاليا سوف نتحدث عنه، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الإنشائية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي للدلالة من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (2) من الأساليب الإنشائية الواردة في النص أسلوب الاستفهام، وقد تحدثنا عنه في أثناء حديثنا عن حركة المعنى في النص، ولكن حديثنا هناك ورد بما يتناسب مع تلك المرحلة من التأويل، وهنا نستطيع التفصيل بما يتناسب مع التشكيل البلاغي وأثره في إنتاج الدلالة، وقد ورد أسلوب الاستفهام في النص أربع مرات، من أساليب الاستفهام في الواردة في النص (أخلْفَكَ يا بحرُ شطٌّ؟) وقد تكرر ثلاث مرات، ويمكن القول بأن هذا الاستفهام يدور حول غرضين، الأول هو الحيرة، أي أنه استفهام الغرض منه إظهار الحيرة، فالسؤال هنا سؤال الحائر الباحث عن إجابة ولذلك تكرَّر السؤال (أخلفك يا بحر شط) دون تغيير من الناحية اللفظية، ولكنه حمل مع هذا التكرار ملامح النفس الحائرة الخائفة من رحلة شاقة غير مأمونة العواقب، وفي الوقت نفسه غير مضمونة النتائج، وتكرار السؤال يعبر بدلالته الكامنة فيه عن احتلاله مكانا مركزيا في يؤرة النفس الشاعرة، أما الغرض الثاني لهذا الاستفهام فهو الاستبعاد؛ فالشاعر يستبعد أن يكون هناك شط خلف هذا البحر المترامي الأطراف، وقد استنتج الشاعر هذه النتيجة انطلاقا من تجارب متعددة ونتائج متنوعة، ولكنها تصبُّ جميعها في استبعاد أن يكون هناك شط خلف هذا البحر المترامي، وإذا أخذنا التأويلُ في وضوح أكثر فإن الشاعر يستبعد أن تكون هناك نهاية لهذه المعاناة التي تحكم المجتمع وتتحكم في أحداثه، أو يكون هناك تغيير حقيقي لمنظومة القيم التي تحكم المجتمع بعناصره المختلفة، تلك المنظومة التي أخذت المجتمع لدائرة من الصراع العنيف، دفعت إليه اختلاف الانحيازات الفكرية والقيمية، ولم يكن لدى المختلفين قابلية لقبول كل منهما للآخر، مما أدى إلى دائرة من الصراع دفعت الشاعر إلى استبعاد النهاية لهذا الصراع، وقد أكَّد الشاعر المعنى من خلال تكرار الجملة بألفاظها دون تغيير؛ ليعبر بذلك عن تأكيد الفكرة/ الاستبعاد، مما يؤدي بالضرورة إلى طول فترة الصراع، وإنهاك القوى المتصارعة، وإذا تأملنا الجملة الاستفهامية فسوف نجد أن الشاعر قدَّم ما يدل على نهاية الرحلة (خلفك) وأخَّر ماهية هذا المكان الذي يسأل عنه (شط) كأنه يريد أن يشير إلى أن الصراع لابد أن ينتهي لأي نهاية ويرسو على أي شط، المهم أن يكون هناك شط مهما كانت ملامح هذا الشط، ولذلك وجدنا لفظ (شط) قد جاء نكرة، وهي تدل على العموم والشمول، ويتكرر هذا الاستفهام بدلالته في ثلاثة أجراء من المقطع الثالث؛ ليؤكد على الفكرة، ويلحّ عليها، مما يدل على أنها تحتل مكانا مركزيا في ذهن الشاعر، فبدا ذلك واضحا في النص، ويزداد غرض الاستبعاد تأكُّدا من خلال استحضار الجزء الثاني من الجملة الاستفهامية (أم إنه ...) فمرة يقول (أم إنه الوهمُ صوَّر فوق البحار شطوطا خرافيَّةَ الرسمِ والاسم والخارطةْ؟!) ومرة ثانية يقول (أم إنه الحلمُ صوَّر فوق الغيوم شطوطا سرابية الرسم والاسم والخارطةْ؟!) ومرة ثالثة يقول (أم إنه الجرحُ صوَّر فوق الضلوعِ شطوطا مجازية الرسم والاسم والخارطةْ؟!) ومعنى ذلك أن هذا السؤال تكرر ثلاث مرات، وفي كل مرة يكون المسؤول عنه (شط) ثابتا، ولكن الطرف الآخر/ الدافع للسؤال متغيِّر، فمرة يكون الوهم، وثانية يكون الحلم، وثالثة يكون الجرح، ومع كل تغيُّر تتغير ملحقات الدافع للسؤال، فمع الوهم تكون الملحقات شطوطا خرافية؛ لأنها تتناسب مع الوهم، فقد جاء في المعجم (الوهم: (مصطلحات) بفتح فسكون مصدر وَهَمَ، جمع أوهام، ما يقع في القلب من الخاطر. (فقهية( وهم النقود: (مصطلحات( الاعتقاد الخاطئ بأن للنقود قوّة شرائية ثابتة وغير متغيّرة، وَهِمَ في الحساب وغيره: غَلِطَ فيه وسَهَا، وهَم في الصَّلاة: غلط فيها وسها، وهم، تَخَيَّلَ، تَصَوَّرَ، وَهَمَ الشيءُ: دار في خاطره) ولذلك ربط الشاعر بين الوهم والشطوط الخرافية، أي غير الحقيقية، فالشط هنا خرافي في الرسم والاسم والخارطة، فهو خرافي في الرسم أي أن تصور هذا الشط خرافي في ملامحه، أي أنه من تصوير الوهم ولا يوجد له ما يؤيده في الواقع، وهو خرافي في الاسم، أي أن الأسماء التي تطلق عليه لا وجود لها في الواقع العملي، وكذلك هو خرافي في الخارطة، وسوف نوضح ذلك لاحقا؛ لأن هذه الخارطة قد تكون مرتبطة بتصورات البعض، ويريد الشاعر أن يشير إليها ويصفها بالخرافية؛ لأنها غير قابلة للتحقيق الفعلي، وقد يكون ذلك مرتبطا بفكرة عودة العرب والمسلمين وحدة واحدة كما كانت في السنين الأولى، وقد أشار الشاعر إلى أن ذلك خرافي؛ لأنه غير قابل للتحقيق الفعلي، وقد استخدم من الألفاظ ما يدل على ذلك (صوَّر فوق البحار شطوطا) فإذا عرفنا أن الوهم هو من صوَّر الشطوط فإن ذلك يوحي بخرافية هذه الشطوط، وإذا ربطنا ذلك بأن هذه الشطوط صُوِّرت فوق البحار، أي تم تخيلها فوق مياه البحر، ونعلم أن مياه البحر لا تستقر، وإذا ربطنا ذلك بقولنا في المثل الشعبي (بنى قصورا فوق المياه) عرفنا ما يدل عليه استخدام الشطوط المصوَّرة فوق البحار، أي فوق مياه البحار؛ لتدل على استحالة تواجدها في الواقع الفعلي، وإذا وُجِدت – وذلك مستحيل – فإنها لا تبقى ولكنها تزول؛ لأنها وُجِدت فوق متحرك زائل، ومعنى ذلك أننا أمام واقع فعلي، وتصور للخروج من هذا الواقع، أما الواقع الفعلي فهو المعاناة وغياب منظومات مختلفة حاكمة للمجتمع ومتحكمة في حياته، منها منظومة القيم، وغيرها، وأما التصور لهذا الخروج فهو مختلف ومتعدد، وقد أشرنا فيما سبق إلى ما هو خرافي مرتبط بالوهم، وفي الاستفهام الثاني ربط الشاعر بين الحلم والسراب (أم إنه الحلمُ صوَّر فوق الغيوم شطوطا سرابية الرسم والاسم والخارطةْ؟!) ومن ثم فإن الطرف الثاني في هذا الاستفهام/ الدافع للسؤال سرابيٌّ مرتبطٌ بالحلم (أم إنه الحلمُ صوَّر فوق الغيوم شطوطا سرابية ...؟!) وهو نوع من التخيل أيضا؛ فقد جاء في المعجم (يَحْلُمُ أَحْلاماً بَعِيدَةً عَنِ الوَاقِعِ : يَتَصَوَّرُ، يَتَخَيَّلُ اُحْلُمْ مَا بَدا لَكَ حَلَمَ بِهِ وعَنْهُ : رأى لَهُ رُؤْيا، حُلْم اليقظة: (علوم النفس) تأمُّل خياليّ واسترسال في رُؤى أثناء اليقظة، يعدّ وسيلة نفسيّة لتحقيق الأمانيّ والرَّغبات غير المُشْبَعة وكأنَّها قد تحقَّقت) ومن شدة تشوق الناس إلى وجود هذا الشط فإنه يداعب أخيلتهم في كل طريق، فيرونه من بعيد، ويسرعون إليه يروون ظمأهم، ولكنهم يكتشفون أنه لا شيء/سراب، وقد لاحظنا أن الشاعر أورد ما يتناسب مع فكرة السراب فذكر لفظ (الغيوم) فالغيوم تؤذن بالمطر أي الحياة/ الخلاص من الحيرة/ الوصول إلى شطٍّ، ولكنهم يكتشفون أن هذه الغيوم لا تأتي بما يروي غليلهم، ومن ثم تصبح سرابا ناتجا عن أحلامهم بالخلاص، وأما الطرف الثاني في الاستفهام الثالث/ الدافع للسؤال فهو مرتبط بالجرح (أم إنه الجرحُ صوَّر فوق الضلوعِ شطوطا مجازية الرسم والاسم والخارطةْ؟!) فهذا التصور مجازي، والمجاز كما نعلم غير الحقيقة، وتأتي مجازيته من أنه مرتبط بالجرح والمعاناة الإنسانية، وفي جميع الأحوال يعرض الشاعر التصورات المختلفة لملامح هذا الشط/الخلاص بأمانة واضحة، وهذا يعني – كما قلنا سابقا – أننا أمام واقع فعلي واحد/ غياب الشط/ الخلاص، وتصورات مختلفة للخروج من هذا الواقع، وهذه التصورات مرتبطة بما يؤدي إلى استبعاد تحققها؛ لأنها تصورات سلبية في أساسها (الوهم – الحلم - الجرح) لقد لاحظنا أن الاستفهام ساهم بشكل كبير في إنتاج الدلالة فكشف عن المعنى المتخفي وراءه، فهو إما الحيرة نتيجة الرحلات المتكررة من الرفاق، والتي لم تصل إلى نتيجة، فأصبحت الرحلة غير مأمونة نتيجة ضياع الأشرعة (فاقدات الشراع) أو غير مضمونة النتائج، وإما الغرض منه الاستبعاد، أي استبعاد الوصول إلى شط نتيجة الأسباب السابقة أيضا، ومن ثم فإن الغرضين/ الحيرة والاستبعاد يمثلان وجهين لملامح الأنا الشاعرة.
أما الاستفهام الرابع فهو (أما حان وقت خروج البشارةِ من تحت أنسجةِ العنكبوت على غارنا؟!) استفهام الغرض منه التمني؛ قالشاعر يتمنى انتهاء الحالة التي يعيشها المجتمع، والذهاب إلى حالة جديدة، ومن الملاحظ عناصر الاستفهام المكونة من ثلاثة عناصر (البشارة – أنسجة العنكبوت – غارنا) ونحن لن نتعرض للتناص الوارد في هذه العناصر؛ فذلك له مكان آخر من هذه الدراسة، ولكننا نلاحظ البشارة المختبئة خلف أنسجة العنكبوت، مما يدل على هشاشة الحاجب لهذه البشارة، وأنه مجرد أنسجة للعنكبوت، وهنا بد من استدعاء الآية الكريمة (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) ومن ثم فإن تلك الأنسجة الحاجبة للبشارة هشة ويمكن تحطيمها، فما الذي يمنع من ذلك؟ ولذلك يتمنى الشاعر سقوط هذه الأنسجة الهشة، ثم يأتي العنصر الثالث في الاستفهام (غارنا) ويوحي بالاختباء، أي أن الحاملين للبشارة يختبئون في الغار، ولا يخفى ما للفظ الغار من دلالة تاريخية، ثم يأتي الجزء الثاني من الاستفهام (أم إنه الشعرُ صوَّر فوق الصحاري شطوطا حجازية الرسم والاسم والخارطة؟!) ومن الملاحظ أن الطرف الثاني في هذا الاستفهام/ الدافع للسؤال قد اشتمل على ما يدل على استبعاد حدوث ذلك/ خروج البشارة؛ فقد استخدم لفظي الصحاري والشعر، وكلاهما لفظان دالان على الاستبعاد؛ فالشعر كلام يستند إلى الخيال والتعبير المجازي، وإن عبَّر عن الواقع، ولكنه تعبير لا يصف هذا الواقع بألفاظ حقيقية، أي أنه لا يستخدم اللغة الوظيفية، وهو ما يدفع إلى تأولات متعددة للمعنى المقصود، وأما اللفظ الثاني فهو الصحاري، وهو لفظ دال على الجدب فلا زرع ولا ماء، ومن ثم لا حياة، ومن الملاحظ ارتباط هذا الاستفهام بما هو ديني مرتبط بالمشاعر المتأصلة في الذهن الإنساني، ويعبر عنه الشعر الناطق باسم الضمير الجمعي(أم إنه الشعرُ صوَّر فوق الصحاري شطوطا حجازية الرسم والاسم والخارطة؟!) وكذلك نلاحظ ورود هذا الاستفهام بين تكرار الاستفهام السابق (أخلفك يا بحر شط؟) بما يدل على ارتباط الاستفهامين في الدلالة.
أما أسلوب النداء فقد استخدم أربع مرات في النص (أيا بحرُ/ يا سرَّنا الأبديّ/ ويا ليلنا السرمديّ/ ومن أبحرتْ عبر درب التخوُّفِ فيه مراكبُ أحلامنا فاقدات الشراع) ومن الملاحظ في البداية التدرج في استخدام أداة النداء؛ ففي البداية استخدم أداة النداء الدالة على البعيد في النداء الأول (أيا) ثم انتقل إلى استخدام أداة النداء الدالة على القريب والبعيد في النداءين الثاني والثالث، ثم حذف أداة النداء في الأسلوب الرابع (ومن أبحرت) والمقصود (ويا من أبحرت) وإذا ربطنا في البداية هذا النداء بما قاله الرفاق (اذهب واسأل البحر) فهذا يعني أن البحر لم يكن موجودا – سواء مكانيا أو معنويا – لحظة النداء، ومن ثم استخدم الشاعر أداة النداء الدالة على البعيد، ثم بدأ تشكل ملامح البحر في ذهن الشاعر، ولكنه بعيد مكانيا، ومن ثم استخدم أداة النداء الدالة على القريب والبعيد؛ ليدل على أن البحر قريب معنويا من خلال حديث الرفاق عنه، ولكنه بعيد مكانيا؛ فلم يبدأ الشاعر رحلة الرحلة بعد، وبالتالي فإن المناسب لذلك استخدام أداة النداء الدالة على القريب والبعيد، ومع تكرار النداء تألف الأنا الشاعرة وجود البحر حقيقة فعلية لا يمكن تجاهلها، ومن ثم حذف الشاعر أداة النداء (ومن أبحرت ...) والمقصود (ويا من أبحرت) فإذا كان الشاعر قد تحدث عن البحر في النداءين الأولين بأنه السر الأبدي فقد أصبح قريبا منه ثم يزداد ذلك القرب حين يصفه الشاعر بأنه السرمدي، ومع ازدياد قرب البحر من الأنا الشاعرة تذوب المسافة في استخدام أداة النداء فكانت في الجملة الأخيرة ضرورة الحذف، وإذا لاحظنا أساليب النداء فسوف نجد أن لفظ البحر في النداء الأول جاء نكرة دالا بذلك على العموم والشمول مستمدا ذلك من دلالة النكرة في اللغة، أما النداءان الثاني والثالث فقد أضاف الشاعر إلى لفظ البحر ما يدل على الأنا الشاعرة، وهو الضمير (نا) الدال على المتكلم (سرنا – ليلنا) ومن ثم فقد جاء البحر هنا معرفة نتيجة إضافته إلى الضمير، ولذلك فقد استخدم النص أداة النداء الدالة على القريب والبعيد؛ فقد بدأ البحر في انكشاف ملامحه، وأنه قريب من الأنا الشاعرة، أما النداء الرابع فقد استخدم فيه الشاعر الاسم الموصول الدال على العاقل (من) وإذا كان عاقلا فإن التحدث إليه مباح ومقبول، ومعنى ذلك أن أسلوب النداء قد عبَّر عن المعنى الذي أراده النص، وهو التدرج في العلاقة مع البحر؛ إذ بدأت عامة (أيا بحر) من خلال النكرة، ثم تدرجت العلاقة فأصبحت أكثر قربا، وقد عبَّر النص عن ذلك من خلال أداة النداء، ومن خلال الأوصاف التي خلعها على البحر؛ إذ في البداية كان مجرد بحر، ثم ما لبث أن أصبح سر المبحرين الأبدي وليلهم السرمدي، ثم أصبح المكان الذي أبحرت فيه مراكب الأحلام باحثة عن الشط، ولكنها فاقدات الشراع.
وأما أسلوب الأمر فقد ورد أربع مرات (انطلقْ – واسأل البحر عنها – وجازفْ كما فعل الواصلون – وبعثرْ على الريحِ –إن شئتَ وصلا– هدايا حبيبتك الغائبةْ) ورد مرتين باستخدام فعل لازم (انطلق – جازف) ومرتين باستخدام فعل متعدٍّ (وجازفْ كما فعل الواصلون – وبعثرْ على الريحِ –إن شئتَ وصلا– هدايا حبيبتك الغائبةْ) والفعل اللازم يقتصر على وجود الفاعل دون وجود مفعول به، ومعنى ذلك أن الفعل هنا مقتصر على الفاعل فقط، أي لا وجود لأي مفعول به، أي لا وجود لأي ناتج من نواتج الفعل، فالفاعل لم يقم بأي شيء، فالرفاق يطلبون منه الانطلاق إلى البحر، والمجازفة، وكلاهما فعلان قائمان على قدرة الأنا الشاعرة على الفعل، أي قدرتها على الانطلاق والمجازفة، أما الانطلاق فهي قدرة كامنة في الأنا الشاعرة، أي تعتمد على قوتها الكامنة فيها، وأما المجازفة فإنها تعتمد على خبرات اكتسبتها، ولذلك وجدنا النص يستخدم الفعل (انطلق) كجملة مكتملة بنفسها، أي هي فعل وفاعل دون أن يلحق بها أي معنى مكمل للجملة؛ لأن فعلا الانطلاق يعتمد كما قلنا على الفعل الكامن في النفس، أما الفعل الثاني (جازف) فإن قد النص قد أورد تكملة لجملته (كما فعل الواصلون) على الرغم من أنه فعل لازم كسابقه/انطلق، ولكن المجازفة تحتاج إلى قوة كامنة في الشخص القائم بها إلى جانب خبرات مكتسبة من تجارب سابقة، ومن ثم فإنها مجازفة محسوبة من خلال قراءة التجارب السابقة، وقد يكون الغرض من الأمر هنا النصح والإرشاد؛ فالرفاق ينصحون الأنا الشاعرة بسؤال البحر مباشرة واكتساب الخبرات والحصول على الإجابات من مصادرها الحقيقية، ومن ثم ستكون إجابات واضحة جلية قائمة على التجربة الشخصية، وليست على تجارب الآخرين الذين قد يختلفون في قدرتهم على الصبر على الأهوال والمجازفة، أما الأمران الثالث والرابع (واسأل البحر عنها– وبعثرْ على الريحِ –إن شئتَ وصلا– هدايا حبيبتك الغائبةْ) فقد جاء الفعل فيهما متعديا؛ ففي الجملة الاستفهامية الأولى كان الفعل (اسأل) والمفعول به (البحر) وفي الجملة الاستفهامية الثانية كان الفعل (بعثرْ) والمفعول به (هدايا) والأمران الغرض منهما النصح والإرشاد؛ فالرفاق ينصحون الشاعر أن يسأل البحر بنفسه؛ حتى يكون الجواب مقنعا، وسؤال البحر هنا سؤال مجازي، أي أنهم يطلبون منه أن يخوض تجربة البحث عن الحبيبة بنفسه؛ حتى يصل إلى نتيجة مقنعة سواء أكانت سلبية أم إيجابية، ففي جميع الأحوال سيكون هو صاحب التجربة والاستنتاج للإجابة الصحيحة كما رآها ماثلة أمامه من خلال إبحاره بحثا عن الحبيبة، وفي الأمر الثاني ينصحونه بالتضحية؛ فالرحلة لن تكون سهلة فإن هبَّت الرياح عاتية فإن عليه التضحية بأغلى ما يملك وهو الهدايا التي كان يحملها إلى الحبيبة، وقد يرى البعض أن الغرض من الأمر في الجملة الأولى هو الإعراض والشفقة، أي أن الرفاق أعرضوا عن الإجابة وأشفقوا على الأنا الشاعرة من هول الإجابة فطلبوا أن تكون التجربة هي التي تجيب عن السؤال، أما الأمر الثاني فإنه يشتمل على جملة اعتراضية (إن شئت وصلا) ووجود الجملة الاعتراضية قد يجعل الغرض من الأمر الشك، أي شك الرفاق في قدرة الأنا الشاعرة على تحمل مشقات الرحلة، وتزداد احتمالية الشك غرضا للأمر مع وجود أداة الشرط (إن) في بداية الجملة الاعتراضية، ونعلم أن (إن) تستخدم عندما يكون الأمر محتملا للشكّ، وبعيدًا عن اليقين، وأن (إذا) تستخدم عندما يكون الأمر مؤكّداً لا شكّ في حصوله، وإذا نظرنا إلى القرآن نجده يستخدم الأداتين بهذه الدلالة لكل منهما، قال تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم تُرحمون) فإننا نجد أن الاستماع يتحقّق بتحقّق القراءة، والقراءة هي فعل الشرط والاستماع جوابه، وأما قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا) فإن استخدام (إن) هنا يدل على الاحتمال أو الشك، ومن ثم فإن الغرض من الأمر في الأسلوب الرابع يحتمل الشك أكثر من احتماله النصح والإرشاد وإن كان البعض يرى أنه يدل على النصح والإرشاد، أي أن الرفاق يشكون في أن يبعثر الشاعر هدايا حبيبته، فربطوا بين مشيئة الوصول وبعثرة الهدايا.
أما أساليب النهي فقد وردت ثلاث مرات (ولا تطمعنْ في الجواب اليسير – ولا تقنعنْ بالوقوف على هامش المدهشات – فإن أظلم البحرُ لا تخشَ موجًا) وكلها تدل على النصح والإرشاد، فالرفاق ينصحون الأنا الشاعرة ويرشدونها انطلاقا من خبرتهم في رحلة البحر التي خاضوها. لقد نجحت الأساليب الإنشائية بدلالاتها المختلفة في الكشف عن المعنى المراد، كما ساعدت في إنتاج الدلالة.
حبيبتي والبحر
د. إبراهيم محمد علي
وأبحثُ عنكِ
وما زلتِ ساكنة في عيون الرفاق
وما زلتِ باسمة في جباه الأهلة
والأنجم الصامتة
وأقسمُ إني أحبكِ
قد تعلمين بأني مددت اليدين إليك
وبايعتُ عينكِ سلطانةً فوق عرشِ الفؤاد
وكنتُ إذا ما اشتهيتكِ في لحظات العبوسِ
رحلتُ على صهوة الوهم
والحلم
والشعر
والجرح
عبر دروبِ التوجُّسِ
من أعين البحر
والملح
والأنجم الشامتة
وساءلتُ بعضَ الرفاق
الذين أتوا أمسِ من رحلة البحر عنكِ
فقالوا:
هو البحر يبعث فينا السؤال
انطلقْ
واسأل البحر عنها
ولا تطمعنْ في الجواب اليسير
ولا تقنعنْ بالوقوف على هامش المدهشات
ولا حافة المفردات
وجازفْ
كما فعل الواصلون
فإن أظلم البحرُ لا تخشَ موجًا
وبعثرْ على الريحِ –إن شئتَ وصلا– هدايا حبيبتك الغائبةْ
فقد تتغيَّرُ فيه الملوحةُ
أو تتنهَّرُ صفحتُه الجامدةْ
وساءلتُهُ:
أيا بحرُ
يا سرَّنا الأبديّ
ويا ليلنا السرمديّ
ومن أبحرتْ عبر درب التخوُّفِ فيه
مراكبُ أحلامنا فاقدات الشراع
فضاعت شطوطك عنها زمانا
وأسلمتَها للرياحِ الغريبة
أخلْفَكَ يا بحرُ شطٌّ؟
أخلْفَكَ يا بحرُ شطٌّ؟
فنُلْقيَ أثقالَ مركبنا الحائرةْ
على متنها من عهودِ التشوُّقِ
مئذنة عانقتها المصاحفُ
هاربةً من عهودِ المتاحفِ
أم إنه الوهمُ
صوَّر فوق البحار
شطوطا خرافيَّةَ الرسمِ
والاسم
والخارطةْ؟!
أخلْفَكَ يا بحرُ شطٌّ؟
تقيمُ عليه الحبيبةُ
في موكب الحسنِ سلطانةً
تاجُها زيَّنته الجواهرُ
من رمل مكة
من زهر قرطبةٍ
من رمالٍ تلاقت عليها:
دماءُ الفوارسِ في ساحة الحربِ
بالدمعِ يسكبه القلبُ في واحة الربِّ
في مدن الأمنيات الطويلةِ
أم إنه الحلمُ
صوَّر فوق الغيوم
شطوطا سرابية الرسم
والاسم
والخارطةْ
أخلْفَكَ يا بحرُ شطٌّ؟
فيسكنه القادمونالأساليب
أما حان وقت خروج البشارةِ
من تحت أنسجةِ العنكبوت
على غارنا؟!
المدينة تنتظر القادمين
على ناقة الفجر
مريمُ تبحثُ عن نخلةٍ
والوليدُ/الخلاصُ تشكَّل
أم إنه الشعرُ
صوَّر فوق الصحاري
شطوطا حجازية الرسم
والاسم
والخارطة؟!
أخلْفَكَ يا بحرُ شطٌّ؟
يعشِّشُ فيه اليمامُ
ويرتاحُ فيه الكلامُ
من الرحلاتِ الصعيبةِ
أم إنه الجرحُ
صوَّر فوق الضلوعِ
شطوطا مجازية الرسم
والاسم
والخارطةْ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى