د. سيد شعبان - جدتي والداية

يبدو أن أحدا لم يسأل نفسه: من يكون ذلك الذى جاء قريتنا منذ زمن بعيد والتي تنتشر أقاويل حوله أن بظهره خاتم الولاية؟
الروايات تمنحنا فرصة للهروب وتقتلعنا من حياة لم تكن تمنحنا أي إحساس بالرضا.
هذه جملة نسيت أين قرأتها؛ فالعته يضرب ذاكرتي؛ علي أن أدون تلك المفردات التي تتناثر كل يوم كما حبات رمل في ساعة الحر وعند هبوب الريح، خرجت من شق الأرض حية تسعى، أثارت رعبا تماوج.
ما الذى حدث؟
سؤال لا تخفى إجابته؛ تمعن في الهروب بعيدا.
يقول المواوي: جن سليمان حفروا البحر بملاعق من حديد. تلاقت الجن بغيلان قادمة من عالم الأشباح؛ حوائط خراسانية تسد الطريق إلى بوابة المحروسة، كل واحد من سكان البلدة القديمة التي تجاوزت من عمرها سنوات في مأتم ممتد.
لم يعد مبرر لتلك التوهمات التي قضينا أعمارنا ونحن نبنى لها مدن الأحلام، كم كانت جدتي ممتلئة بالحكمة حين أطلقت سراح الحمام الذي ظل في برجه الطيني؛ لم تعد تملك حبات القمح؛ بلغت من العمر سنين تقارب قرنا.
كانت تمتلك قلبا طيبا؛ ربما هذا يفسره أن نسبها والذي كثيرا ما ذكرتنا به؛ السيدة أم هاشم لا تترك بناتها؛ تهبهن حلاوة في اللسان وملاحة في الوجه.
لم تنس حارتنا ما فعلت؛ تحلب الشياه وتوزع لبنها على بيوت اليتامى.
مؤكد أنكم لن تصدقوا هذا الخبر!
حالة نادرة؛ أخبرتها بها الداية انطلقت موجات الإذاعة تبث هذا النبأ: امرأة في الكفر المخفي ولدت طفلا بإصبع واحد في كفيه وقدميه؛ أهل الطريق يرون هذا فألا غير حسن.
ملل
يحلو له أن يفعل نفس الأشياء التي تعود عليها، الحياة تمضي رتيبة كأنما هي عقارب الساعة في ليلة من شتاء يضرب البيت بألف وجه من ريح عاتية، جمع اﻷوراق التي تمثل له نافذة ينظر من خلالها إلى العالم من حوله، تتود أن يهرب من السأم، يندفع إلى زاوية من البيت، يغلق عليه الباب، يسترخي فوق أريكته، ربما تتداعى إليه بعض الذكريات، يحب أطياف عمره المتسرب رغما عنه.
هذه المرة حجم معاناته أثقل من ذي قبل، نظر في المرآة وجد وجهه بدت به تعاريج الزمن، الشعر الأبيض ملك يرفع شارة النصر!
امتدت ساعة وراء أخرى، يضرب الليل بمتوالية الظلام، يزداد وجيب قلبه تسارعا، أحقا كان ما حدث هو الخيار الأمثل؟
يحدث نفسه:ما نتيجة كل هذا غير نزيف الحياة دونما توقف؟
تتداخل الخواطر مع الأفكار، إنه القهر الذي تغلل مستعينا بالجهل، إخوته انتهبوا حقه، ما عاد له بعدها من حبيب، تعجلت الرحيل، ليتها انتظرت حتى يتزوج !
سخر من نفسه؛ ومن ترضى به؟
متعطل لا يملك من دنيا الناس غير حجرتين وقد جدلت فوق حزمة كبيرة من البردى والغاب!
حرم من لثغة طفل، أن يجعله يمتطي جواده العربي.
العبث أن يبقى هكذا، عليه أن يبقي على الأمل مستعر الجذوة، فما قيمة الدنيا لو لم تكن هناك آخرة !
الإذاعة تشدو بابتهالات طوبار، نسمة هواء حانية تتهادى مع اقتراب ساعة الإفطار، هناك حيث العيون تتلاقى، والقلوب تتصافى، خلا البيت من أهله، أخذ يبجث في أوراقه المكدسة كيفما اتفق له.
هل كتب عليه أن يلوك حروف كلماته سأما؟
ربما حدث هذا كثيرا، لا أحد في العالم يشاركه همه، وحدها كانت رغم اعتلال صحتها تجلس معه، تشاركه ألمه، تبسط له فسحة الرجاء، يفتقدها الآن ما يزال الطفل الذي بداخله يتمنى أن تحمله كما كان في المهد.
اعتدل في جلسته، صوت المذياع يتتابع عبر أثير تتداخل موجاته؛ تعكس حالة القلق والترقب، إنه عالم يمور بكل الموبقات، اعتقد في هذا ليتخلص من أوهامه، حيلة دفاعية، كانت الجامعة باب المعرفة.
نشرة الأخبار لا تذكر لنا كم عدد الذين سافروا إلى العالم الآخر، فقدت ذاكرتها.
متى ينتهي هؤلاء من هوايتهم المحبرة بدماء الصغار؟
استدار عبر النافذة تربض دار المسنيين، على أية حال؛ إنه الموت الواقف قبالة البيت ؛ ليقنص صيده، متواضع، يرضى بأقل الرغبات.
أدار مؤشر الإذاعة صوت راعف أصابه الوهن ، منذ فترة لم يستمع أحد إليه؛ زيارة لمكتبة فلان مع نادية صالح!
حاول أن يلتقط الحديث، محاوﻻته باءت بالفشل، صوت مثل وابور الزلط تناهى إلى أذنه، مهرجان محسن يضرب في غير هوادة عبر "توكتوك"مثل ضفدعة تصدر نقيقا!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى