علي الشدوي - عن إدريس عيسى .. وعن الشعر وعن أشياء أخرى.

غزال يصحو من غفوة فلاة
وكان يرتع تحت السنط
فلم يجد ظله
ولا الشجر الذي آواه
ولم ير الفلاة.

هذا المقطع الرهيب من دبوان إدريس عيسى (باب يواربه الضوء: مرثيات: م).

لنبدأ بما قبل هذا المشهد.
في البداية كل شيء هادئ. يمكنك أن تقول تحت شجرة الطلْح أو القرَظ أو الأكاسيا. الغزال يغفو. تحيط به الفلاة. هذا هو إدريس عيسى الدقيق إلى حد الهوس في اختيار الكلمة. غفوة الغزال ليست غفوة صحراء؛ إنما غفوة فلاة. هناك حيوانات كثيرة تعيش في الصحراء، لكن الغزال يعيش في فلاة. يمكنك أن تشرح بكلمة (صحراء) وصفاتها كـ (مقفرة، وواسعة، جرداء، قليلة الماء). كل هذا ممكن لكي تشرح كلمة (فلاة) ، لكن الشاعر بألـ العهدية لا يمكنه أن يقول في قصيدة عن غفوة الغزال إنها (غفوة صحراء).

مرة أخرى هذا هو إدريس عيسى الذي أعرفه. القارئ الدقيق جدا، العارف بأسرار اللغة؛ الذي لا يكتب في قصيدة مثلا (نظر بطرف عينه) لأنه يعرف أنها هناك كلمة هي (شزرا). وقل مثل هذا وأكثر مما لا يحصى من تراكيب لغوية لا يمكن أن تكون في شعر شاعر عربي.

إذن كل شيء هادئ: الغزال يغفو، والشجرة مكانها، والظل موجود بالقوة، والفلاة تحيط بكل هذا. الأشياء تحتل مكانها الصحيح. ثم فجأة تحدث الفوضى. الغزال ينتبه. لم يعد له ظل. الشجرة التي آوته غير موجودة وكذلك الفلاة. لكن ما تشتت وصل إلى حالة السمو في الشعر. الأشياء التي تشتت في لغز الحياة (كأن يموت صديقك) تداخلت في الشعر لتكون ما له معنى، لتبين لك معنى لغز الحياة الغامض.

... يتبع أسبوعيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى