رغم اتساع الطريق، وقلة الازدحام فيها، كانت سيارة "KIA" الكُحليّة تسير على مهل، كأن سائقَها لا يستعجل الوصول إلى مكانٍ محدد، أو كأن لديه ما يشغل باله ويجب أن يقلّبه في خلوةٍ مع نفسه.
تَشي "الذبلةُ" في بنصُرِهِ الأيسر بأنه متزوج، ليس هذا فحسب، فالمقعد الخلفي تتوزّع فوقه أكياس مشتريات، من بينها مما يستهويه الأطفال. فلَه، "نضال عبدالله"، الأربعيني الذي التحقَ برَكْب العرسان متأخراً، بنتٌ في السادسة، وولدٌ ما زال يحبو، تُظهرُ فاتورةُ المشتريات الملقاةُ على المقعد المجاور مدى اهتمامه بهما وحرصه على توفير ما يتطلبه عُمراهُما من غذاء وألعاب.
كانت الساعة في يمناه تقترب من السابعة، حين داهمته بقايا زوبعةٍ، واجَهَها بإغلاق النوافذ، والبحث عن بخّاخ "الربو" في جيوبه، قبل أن يكبس زرّ الغمّاز اليمين الذي تَكْتَكَ بانتظام، ويدوس على الكوابح بتدرُّج حتى أوشكت السيارةُ أن تتوقف، شاغلاً كلتا يديه في سحْب نَفَسٍ عميق من الأنبوبة.
بدا أن مزاجه تعكَّرَ مما حدث، إذ يتجنّب "البخاخ" قدْرَ مستطاعِه، كأنما ليقنع نفسه بأن ما حَلَّ بقصباتهِ الهوائية قبل عامَين، عارِضٌ ويزول، لا أنه مرضٌ يتطلب تدابير للشفاء منه.
على الزاوية اليمنى لـ"التابلو" الأمامي، استقرّ ملفٌّ أخضر، كُتب على غلافه بخطّ بارز: "الثقة للاستثمار". فقد دأب "نضال"، الذي يحمل الماجستير في المحاسبة، على حمل ما يتعلق بالمعاملات الصعبة إلى البيت، ليدرسها "على رَواق". وقد غادر مكتبه اليومَ بعد الخامسة، وقت انتهاء الدوام، بعشرين دقيقة قضاها في ترتيبِ هذا الملف.
ضغطَ على زرّ المكيِّف، وخفّف من عقدة ربطة عنقه، وهو ينتبه إلى حُمرَة شمسِ ما قبل المغيب التي انعكست على زجاج السيارة، كأنما يراها للمرة الأولى! وبحركةٍ لا إرادية أطفأ دردشةً على إذاعة "إف أم" فطنَ أنها تتواصَل منذ زمنٍ من دون أن يلتقط كلمةً مما دار فيها.
راعَه أن يمرّ وقتٌ زاد على الساعة وهو على هذه السجية. إذ سهمَ بما يكفي ليعتقدَ المرءُ أنه ضلَّ طريقه، وليس أدلّ على ذلك من مواصلة التكتكة الرتيبة للغماز اليمين، رغم أن السيارة اتخذت أحياناً المسرب الأيسر المخصص للمركبات السريعة.
نفضَ شيئاً من هواجسَ دارت في خلدهِ، بحركةٍ من رأسه يمنةً ويساراً، وكبسَ على زر "المكيّف" يطفئه بعدما كدّره صوته الخشن. ثم ألقى نظرةً جانبية على المقعد المجاور، وإذْ راوده تساؤل عن عدم اتصال أحد به منذ أكثر من ساعة -فهذا مما لم يَعْتَد عليه- تذكّر أنه أغلق هاتفه فور أن صعد السيارة، راغباً عن الحديث مع أحد.
عاودَ الاصطفاف على يمين الشارع العريض الذي يصلُ غربَ المدينة بشرقها، وتسنّى للسيارات القليلة التي مرت بالـ"KIA" الكحليّة، أن تلحظَ سائقاً تنمّ هيئتُه عن حالٍ مزْريَة، فقد انحنى "نضال" مغطّياً وجهه بباطن كفّيه اللتين استقرّتا على المقود.
تنبّه إلى ما هو فيه، وكانَ قد طابتْ له غفوةٌ قصيرة، ففرَك وجهه محاولاً التخلص من بقايا إجهادٍ انتابَه، هو الذي أمضى نهارَهُ في أعمال ذهنية شاقة، وكان سيجد في البيت لو أنه وصلَ إليه، ملاذَه وراحته.
هنا تحديداً لاح "البيت" له كاكتشاف! وأرّقَهُ أن يمر وقتٌ كهذا الذي نَزَفَه في السيارة من دون أن يستحضرَ صورةَ أيٍّ من طفليَه؛ بل وأن لا يذكر، يا للعيب، أن زوجةً بانتظاره؛ هي التي كثيراً ما أحجمت عن تناول الطعام وحدها، لِتُحَسِّسَه بتأنيب ضمير إن تأخّر. لذلك، ظلّ يبدي حرصاً على الاتصال بها إن عاقَه أمرٌ عن البيت، وهو ما لم يفعله اليوم، فكيف يكون حالُها وهاتفه مغلَق!
أضاء مؤشرُ الوقود بالأحمر، فقرأ على الشاشة رقماً هالَه أن يبلغ هذا الحد. فهو يصفّر العدّادَ كلما أدار محرّك السيارة حُبّاً في احتساب المسافة التي يقطعها. وفي هذه المرة اكتشف أنه طوى مئة كيلو متر يجوب الشارع نفسه، نزولاً وصعوداً، جيئةً وذهاباً، دونما غاية.
فتحَ النافذةَ ليتفادى التعرُّق الذي يدفعه إلى اشمئزازه من جسدِه، وسرعان ما تناهت إلى سمعه خشخشةٌ من ورائه. حانت منه التفاتةٌ إلى الأكياس التي ابتاعَ محتوياتها من متجرٍ قريب من عمله خلال استراحة الغداء، فابتسم لدميةِ طفله التي أطلّت من كيس، و"باربي" صغيرته التي ملأتْ علبتُها كيساً آخر.
حينها عقدَ النيّةَ على اتخاذ أقرب طريق إلى "البيت"، قبل أن يدري ما يقولُ لزوجته التي سَيَسُوؤها بالتأكيد أنه لم يكلّف نفسه الاتصال بها، وستذكّره بِرُهابها من الوحدة.
لكن ما خطّط له بات معرّضاً لإعادة النظر، عندما انتبه إلى أن المقود لم ينحرِف إلى اليمين، ليسلك طريقَ بيته، فقد مضت السيارةُ باستقامةٍ كأنما هو ليس سائقها. كان ذلك عندما تراءت له على الرصيف امرأةٌ وحيدة، لم يَسْتَبْيِن من ملامحها شيئاً، وقد تلفّعتْ بالسواد.
كان الغروب قد أزفَ، وعمّا قليل ستحلّ العتمة. وقد خمّن "نضال" أن المرأة من إياهن، اللواتي يحترفن بيع الهوى. وكان قرأ مؤخراً استطلاعاً عنهن في مجلة اجتماعية تصله إلى عمله، وفيه أنهن يفضّلن أواخرَ الشهر لينتشرنَ على الطرقات، وهي الفترة التي يقبض فيها الموظفون رواتبهم.
مالَ إلى ذلك، حين قرأ على شاشة "التابلو" ما يشير إلى أن اليوم هو السابع والعشرون من تموز.
تصارعت الأفكار في ذهنه من دون أن تدّعي إحداها انتصاراً؛ فهو ليس من ذلك الصنف الذي يأبه للغواية، فكيف إن صدرتْ عن امرأة عابرة، مكتنزةَ الأكتاف والأرداف، على ما تبدّى له من سعة عباءتها، وبوجهٍ رجّح أنه لا يسرّ الناظرين.
لكنه، رغم ذلك، وجدَ نفسه يخفّف من سرعةِ سيارته، قبل أن يحمل ملف العمل من أمامه، ويُلقيه فوق الأكياس وراءه، ثم رفع هاتفه من جواره واضعاً إياه في جيب جاكيته اليسرى، وصنع من فاتورة المشتريات الساكنة فوق المقعد كرةً ورقية صغيرة دحرَجها في منفضة السجائر. كل ذلك وهو يهمّ بالاصطفاف، لا على مقربةٍ من المرأة التي تخطّاها، ولا بمنأى عنها.
وعلى ما هو عليه، بدا ضالاًّ تعوزه البوصلة. التفتَ إلى ما أحدثته المرأةُ التي لم تبرح مكانها، من تدفقٍ للأدرينالين في دمه. فاستعان بالمرآة أمامه، وتلك الجانبية، لمراقبتها من دون إثارةٍ لانتباه السيارات التي بدأت أعدادُها بالتزايد، أو لفْت أنظار المارّة، وهم –لحسن حظّه- قلائل في هذه المنطقة شبه المقطوعة على أطراف المدينة.
كانت تعبث بميدالية مفاتيح في يمناها، متتبّعةً السيارات المنصرفة عنها ببصرها، كأنما تنتظر واحدةً بعينها.
أطلق "زاموراً" قصيراً كمن يدعوها، فالتفتتْ إليه كما وَشَتْ صورتُها في المرآة، وراوحتْ مكانَها في تردُّد قبل أن تسير إليه بخطى متثاقلة.
انتظرَها كاشفةً حركاتُه عن قلقٍ يساوره. وأخيراً وصلتْ، وتلبّثتْ برهةً قبل أن تصعدَ السيارة على عجل.
"العوافي"، قالت وهي تغلق الباب برويّة كأنما تخشى أن يُحدث ضجّة، فلمسَ في تحيتها ارتباكاً، ولمّا تأخّر في الرد عليها أعادت يدَها إلى مقبض الباب، كأنما ارتابت وتبغي المغادرة، قبل أن تستوي في جلستِها بتأثيرٍ من تدرّج سيارته على الطريق.
غاب "البيتُ" عنه تماماً. كأنه بلا بيت! كأنه حذفَهُ من ذاكرته، ممعناً في الإنصات إلى دبيبِ رغبةٍ تسري في أوصاله، وهو يقول للمرأة التي تتفحّص محتويات السيارة بعينين فضوليّتين: "يا مرحبا".
"توصلني إلى محطة الحافلات؟"، بدأت حديثها معه. فردّ على الفور كمن ينتظر ذلك: "على عيني!"، مُظهراً فروسيةً رأى أن الموقف يقتضيها.
جزمَ أنها منهن، فالمنطقة ليست صحراء حتى "ينقطع" المرءُ فيها، وسيارات الأجرة والباصات، تمرّ من هنا، وإن كانَ بكثافةٍ أقلّ من شوارع أخرى بطبيعة الحال.
"كان لا بد أن تكون البداية مختلفة"، هجسَ في نفسه غيرَ راضٍ عن المسرب الذي اتخذه الحديث. "لو أنها قالت شيئاً آخر"، هزّ رأسَه مصيخاً السمع إلى داخله، "لكانت الأمور أسهل".
- تدخّن؟
أومأ برأسه نفياً، وضايقَه أن سؤالها يستوجب الردّ بالإيجاب، فتحسس وجنَتهُ التي طفتْ على سطحِها حرارةٌ مفاجئة.
"اسْمُ الحلو؟"، بادَرَتْهُ بما أوتيت من غنج مصطَنَع. وقبل أن يهتدي إلى واحدٍ من بنات مخيّلته يدّعيه لنفسه تلعثمَ وهو يقول:
- نضال.. نضال عبدالله.. وأنتِ.
- دلَع!
- اسمِك الحقيقي؟
"آه. إن شاء الله أنْقَبِر إن كنت أكذب. وحتى أثبت لك.."، وعلى فورِها أخرجتْ بطاقةً شخصية من محفظةٍ صغيرةٍ ربطتها بحزام ساعة يدها، مؤشِّرةً بسبابتها على ما تراءى له الموضع الذي يُدوَّن فيه الاسم.
كانت البطاقةُ باليةً والحروف ممحوّة. لكنه تجاوز ذلك حينما وجد أن لا فرق إن كان اسمها كذلك، أم هو مستعار.
- متزوج!
انتبه إلى خشخشة الأكياس، تدعوه إلى بيته، زوجته وطفلَيه. وإذ تلكأ في الردّ، استلمتْ "دلع" دفةَ الحديث مرة أخرى:
"شكلك متزوج.."، وتابعت تسأله: "تحبّها؟"، قبل أن تستدرك وعيناها على الأكياس: "وَلَكَ أطفال أيضاً".
كانت تُولّدُ السؤالَ من الذي سبقه، تستحثّه على حوارٍ بدا لهما معاً أنه ليس مهيّأً للخوض فيه. فقد انشغل ذهنه بمونولوج داخلي يعذّبه:
- ما الذي تورّط نفسك فيه؟ حياتك يسودها الوئام! وزوجتك بانتظارك، وضعك على أحسن ما يُرام، فما عَدا مِمّا بدا؟
وفي غمرة وخزة الضمير، حيّرَهُ ما هو فيه، وعصيَ عليه تفسيره، هو الذي يبذل وسعَه ليُرضي زوجته التي "أخذته عن حُبّ".
قلّب دفتر الأيام الأخيرة، وما سبقَها، صفحةً صفحة، فما صادفَهُ منغّصٌ يربط بينه وبين اتخاذه هذا المساء طريقاً غير تلك التي تؤدي إلى بيته.
قطعت استغراقَه التفاتةٌ منه إلى الجالسة جواره. "يا مصيبتي إن علمَتْ زوجتي بأمرها"، همسَ في سرّه، متخيّلاً ما سيحدث لو أن أحداً يعثر على شيء من متعلّقاتها في سيارته: "لن يرحمني أحد. سأخسر كل شيء"، هز رأسه كمن أمسك الأمرَ من خاصرته، وأردف لنفسه: "إنها خيانة!".
توقف عند التعبير الأخير كأنما اصطدم بجدار، فأيقن أنه في مأزق.
ودّ لو يغمضُ عيناً ويفتحُها، فيعودَ إلى الخامسةِ والنصف هذا المساء، حين همَّ بفتح باب السيارة مغادراً عمله. "سأتجه إلى البيت حتماً"، أسرّ لنفسه عارفاً استحالة أن يتراجع الزمن.
ملّت الجالسةُ جواره قلّةَ استجابته، ولم تعد تكترث لأمره، ولاذتْ بصَمْتِها ترقب الطريق، في حين كان يقلّبُ المسألةَ، علّ وجهاً فيها توارى عنه. "لِمَ لا أعاملها كامرأةٍ تقطّعت بها السُّبُل، فأُوصلها إلى مبتغاها، وكفى الله المؤمنين القتال؟".
رأى في الفكرةِ التي التمعت في ذهنه، بارقةً قد تنفع في استلالهِ مما ورّط نفسَه فيه. تنفّس الصعداء، وهو يستأنف الحوار معها، لكن باقتيادها إلى جوانب لم تُخْفِ تبرّمها منها في البداية، قبل أن يحلو لها التفصيل فيها.
سألها عن عملها وأحوالها وعائلتها، بنبرة غشيمٍ لا يساوره شكّ في كونها امرأة فاضلة. كان ذلك بعد أن أنقدها ورقة نقدية حمراء، طوتها في كفّها المتعرّقة، عن رضا.
كلمة وراء أخرى، وتحولتْ إلى حكّاءة: في السابعة والثلاثين، بزوجٍ وراء القضبان في قضية "حشيش"، وأبناءٍ خمسة، أكبرهم يعمل في محل ميكانيك، وصُغراهم أنجبتُها وهو في السجن. عملتُ حاضنةَ أطفال في مدرسة خاصة قبل أن يطردوني لأن زوجي "أسبقيات". أعيل أمّي الضريرة، وأبي المصاب بالسكّري. قل لي: ماذا أعمل؟ كل الأبواب سُدَّت في وجهي. نفسي أحجّ وأزور قبر النبي. لا.. لا أزوره، زوجي، لأني لا أحب أن يراني ضعيفة. آه. كلما رأيته مقيَّداً أبكي.. لو تدهسني سيارة وأرتاح.. لكن مَن للقواريط..
أرخى العنانَ لانهمارِ كلامها كيفما اتفق، كأنها غيمةٌ صامَتْ عن الإمطار دهراً، قبل أن تهزها ريحٌ لتلقي حمولتها عليه.
وبينما كانت السيارة تقترب من موقف الحافلات، بدا "نضال" مشتاقاً لعائلته وهو يمنح الأكياس فوق المقعد الخلفي نظرةً خاطفة. نظرة بدت كافية ليستعيدَ "البيتُ" صورتَهُ التي غابت.
وضعَ الغمّازَ اليمين، وأبطأ من سرعة السيارة. وعندما توقفتْ تماماً تأمَّلَ الملفّعةَ بالسواد بشيءٍ من التعاطُف. ثم ناولها بضعةَ دنانير إضافية مما عثر عليه في جيوبه، وربّتَ على ظاهر كفِّها بإشفاق.
هزّت رأسها امتناناً تحاذر أن تلتقي عيناها بعينيه، قبل أن تعيد إليه كل ما في كفّها من نقود، وهي تتمتم بتنهيدة:
- شكراً. يكفي أنك أوصلتَني.
فكّر لهنيهةٍ أن يلحّ عليها لتقبلَ أُعْطيَتَهُ، لكنه عدلَ حين تيقّن أنها ستقابله بالرفض. وبدتْ تلكَ اللحظةَ في ناظريه، عزيزةَ النفس تأبى المهانة، رغم ما باحتْ به من مآسٍ تفطرُ القلب.
- طيّب.. ديري بالِك على حالِك.
"شكراً. وأنتَ أيضاً"، قالتْ تفتحُ البابَ وتغادر.
خَطَتْ تتعثر بعباءتها، قبل أن تستدير نحوه وقد تلبّثَ في موضعهِ. نقرتْ على النافذة، ففتحها.
"على فكرة. هذه أول مرة يسمعني فيها أحد"، قالت تحاذرُ أن تفضحَها النهنهة، وقد فاضَ وجهُها بالحياة.
ردَّ عليها بفروسية حقيقية هذه المرة:
- إنْ خليَتْ بليَتْ.
وَلّتْ ظهرَها له، فتتبَّعَها يغالبُ دمعاتٍ صامتة فرّت منه. وإذ غيّبَتْها العتمة، كانَ كربُهُ يتلاشى وهو يسحب الأكياسَ من الخلف إلى المقعد المجاور، قبل أن يفتح هاتفَهُ المغلَق.
تَشي "الذبلةُ" في بنصُرِهِ الأيسر بأنه متزوج، ليس هذا فحسب، فالمقعد الخلفي تتوزّع فوقه أكياس مشتريات، من بينها مما يستهويه الأطفال. فلَه، "نضال عبدالله"، الأربعيني الذي التحقَ برَكْب العرسان متأخراً، بنتٌ في السادسة، وولدٌ ما زال يحبو، تُظهرُ فاتورةُ المشتريات الملقاةُ على المقعد المجاور مدى اهتمامه بهما وحرصه على توفير ما يتطلبه عُمراهُما من غذاء وألعاب.
كانت الساعة في يمناه تقترب من السابعة، حين داهمته بقايا زوبعةٍ، واجَهَها بإغلاق النوافذ، والبحث عن بخّاخ "الربو" في جيوبه، قبل أن يكبس زرّ الغمّاز اليمين الذي تَكْتَكَ بانتظام، ويدوس على الكوابح بتدرُّج حتى أوشكت السيارةُ أن تتوقف، شاغلاً كلتا يديه في سحْب نَفَسٍ عميق من الأنبوبة.
بدا أن مزاجه تعكَّرَ مما حدث، إذ يتجنّب "البخاخ" قدْرَ مستطاعِه، كأنما ليقنع نفسه بأن ما حَلَّ بقصباتهِ الهوائية قبل عامَين، عارِضٌ ويزول، لا أنه مرضٌ يتطلب تدابير للشفاء منه.
على الزاوية اليمنى لـ"التابلو" الأمامي، استقرّ ملفٌّ أخضر، كُتب على غلافه بخطّ بارز: "الثقة للاستثمار". فقد دأب "نضال"، الذي يحمل الماجستير في المحاسبة، على حمل ما يتعلق بالمعاملات الصعبة إلى البيت، ليدرسها "على رَواق". وقد غادر مكتبه اليومَ بعد الخامسة، وقت انتهاء الدوام، بعشرين دقيقة قضاها في ترتيبِ هذا الملف.
ضغطَ على زرّ المكيِّف، وخفّف من عقدة ربطة عنقه، وهو ينتبه إلى حُمرَة شمسِ ما قبل المغيب التي انعكست على زجاج السيارة، كأنما يراها للمرة الأولى! وبحركةٍ لا إرادية أطفأ دردشةً على إذاعة "إف أم" فطنَ أنها تتواصَل منذ زمنٍ من دون أن يلتقط كلمةً مما دار فيها.
راعَه أن يمرّ وقتٌ زاد على الساعة وهو على هذه السجية. إذ سهمَ بما يكفي ليعتقدَ المرءُ أنه ضلَّ طريقه، وليس أدلّ على ذلك من مواصلة التكتكة الرتيبة للغماز اليمين، رغم أن السيارة اتخذت أحياناً المسرب الأيسر المخصص للمركبات السريعة.
نفضَ شيئاً من هواجسَ دارت في خلدهِ، بحركةٍ من رأسه يمنةً ويساراً، وكبسَ على زر "المكيّف" يطفئه بعدما كدّره صوته الخشن. ثم ألقى نظرةً جانبية على المقعد المجاور، وإذْ راوده تساؤل عن عدم اتصال أحد به منذ أكثر من ساعة -فهذا مما لم يَعْتَد عليه- تذكّر أنه أغلق هاتفه فور أن صعد السيارة، راغباً عن الحديث مع أحد.
عاودَ الاصطفاف على يمين الشارع العريض الذي يصلُ غربَ المدينة بشرقها، وتسنّى للسيارات القليلة التي مرت بالـ"KIA" الكحليّة، أن تلحظَ سائقاً تنمّ هيئتُه عن حالٍ مزْريَة، فقد انحنى "نضال" مغطّياً وجهه بباطن كفّيه اللتين استقرّتا على المقود.
تنبّه إلى ما هو فيه، وكانَ قد طابتْ له غفوةٌ قصيرة، ففرَك وجهه محاولاً التخلص من بقايا إجهادٍ انتابَه، هو الذي أمضى نهارَهُ في أعمال ذهنية شاقة، وكان سيجد في البيت لو أنه وصلَ إليه، ملاذَه وراحته.
هنا تحديداً لاح "البيت" له كاكتشاف! وأرّقَهُ أن يمر وقتٌ كهذا الذي نَزَفَه في السيارة من دون أن يستحضرَ صورةَ أيٍّ من طفليَه؛ بل وأن لا يذكر، يا للعيب، أن زوجةً بانتظاره؛ هي التي كثيراً ما أحجمت عن تناول الطعام وحدها، لِتُحَسِّسَه بتأنيب ضمير إن تأخّر. لذلك، ظلّ يبدي حرصاً على الاتصال بها إن عاقَه أمرٌ عن البيت، وهو ما لم يفعله اليوم، فكيف يكون حالُها وهاتفه مغلَق!
أضاء مؤشرُ الوقود بالأحمر، فقرأ على الشاشة رقماً هالَه أن يبلغ هذا الحد. فهو يصفّر العدّادَ كلما أدار محرّك السيارة حُبّاً في احتساب المسافة التي يقطعها. وفي هذه المرة اكتشف أنه طوى مئة كيلو متر يجوب الشارع نفسه، نزولاً وصعوداً، جيئةً وذهاباً، دونما غاية.
فتحَ النافذةَ ليتفادى التعرُّق الذي يدفعه إلى اشمئزازه من جسدِه، وسرعان ما تناهت إلى سمعه خشخشةٌ من ورائه. حانت منه التفاتةٌ إلى الأكياس التي ابتاعَ محتوياتها من متجرٍ قريب من عمله خلال استراحة الغداء، فابتسم لدميةِ طفله التي أطلّت من كيس، و"باربي" صغيرته التي ملأتْ علبتُها كيساً آخر.
حينها عقدَ النيّةَ على اتخاذ أقرب طريق إلى "البيت"، قبل أن يدري ما يقولُ لزوجته التي سَيَسُوؤها بالتأكيد أنه لم يكلّف نفسه الاتصال بها، وستذكّره بِرُهابها من الوحدة.
لكن ما خطّط له بات معرّضاً لإعادة النظر، عندما انتبه إلى أن المقود لم ينحرِف إلى اليمين، ليسلك طريقَ بيته، فقد مضت السيارةُ باستقامةٍ كأنما هو ليس سائقها. كان ذلك عندما تراءت له على الرصيف امرأةٌ وحيدة، لم يَسْتَبْيِن من ملامحها شيئاً، وقد تلفّعتْ بالسواد.
كان الغروب قد أزفَ، وعمّا قليل ستحلّ العتمة. وقد خمّن "نضال" أن المرأة من إياهن، اللواتي يحترفن بيع الهوى. وكان قرأ مؤخراً استطلاعاً عنهن في مجلة اجتماعية تصله إلى عمله، وفيه أنهن يفضّلن أواخرَ الشهر لينتشرنَ على الطرقات، وهي الفترة التي يقبض فيها الموظفون رواتبهم.
مالَ إلى ذلك، حين قرأ على شاشة "التابلو" ما يشير إلى أن اليوم هو السابع والعشرون من تموز.
تصارعت الأفكار في ذهنه من دون أن تدّعي إحداها انتصاراً؛ فهو ليس من ذلك الصنف الذي يأبه للغواية، فكيف إن صدرتْ عن امرأة عابرة، مكتنزةَ الأكتاف والأرداف، على ما تبدّى له من سعة عباءتها، وبوجهٍ رجّح أنه لا يسرّ الناظرين.
لكنه، رغم ذلك، وجدَ نفسه يخفّف من سرعةِ سيارته، قبل أن يحمل ملف العمل من أمامه، ويُلقيه فوق الأكياس وراءه، ثم رفع هاتفه من جواره واضعاً إياه في جيب جاكيته اليسرى، وصنع من فاتورة المشتريات الساكنة فوق المقعد كرةً ورقية صغيرة دحرَجها في منفضة السجائر. كل ذلك وهو يهمّ بالاصطفاف، لا على مقربةٍ من المرأة التي تخطّاها، ولا بمنأى عنها.
وعلى ما هو عليه، بدا ضالاًّ تعوزه البوصلة. التفتَ إلى ما أحدثته المرأةُ التي لم تبرح مكانها، من تدفقٍ للأدرينالين في دمه. فاستعان بالمرآة أمامه، وتلك الجانبية، لمراقبتها من دون إثارةٍ لانتباه السيارات التي بدأت أعدادُها بالتزايد، أو لفْت أنظار المارّة، وهم –لحسن حظّه- قلائل في هذه المنطقة شبه المقطوعة على أطراف المدينة.
كانت تعبث بميدالية مفاتيح في يمناها، متتبّعةً السيارات المنصرفة عنها ببصرها، كأنما تنتظر واحدةً بعينها.
أطلق "زاموراً" قصيراً كمن يدعوها، فالتفتتْ إليه كما وَشَتْ صورتُها في المرآة، وراوحتْ مكانَها في تردُّد قبل أن تسير إليه بخطى متثاقلة.
انتظرَها كاشفةً حركاتُه عن قلقٍ يساوره. وأخيراً وصلتْ، وتلبّثتْ برهةً قبل أن تصعدَ السيارة على عجل.
"العوافي"، قالت وهي تغلق الباب برويّة كأنما تخشى أن يُحدث ضجّة، فلمسَ في تحيتها ارتباكاً، ولمّا تأخّر في الرد عليها أعادت يدَها إلى مقبض الباب، كأنما ارتابت وتبغي المغادرة، قبل أن تستوي في جلستِها بتأثيرٍ من تدرّج سيارته على الطريق.
غاب "البيتُ" عنه تماماً. كأنه بلا بيت! كأنه حذفَهُ من ذاكرته، ممعناً في الإنصات إلى دبيبِ رغبةٍ تسري في أوصاله، وهو يقول للمرأة التي تتفحّص محتويات السيارة بعينين فضوليّتين: "يا مرحبا".
"توصلني إلى محطة الحافلات؟"، بدأت حديثها معه. فردّ على الفور كمن ينتظر ذلك: "على عيني!"، مُظهراً فروسيةً رأى أن الموقف يقتضيها.
جزمَ أنها منهن، فالمنطقة ليست صحراء حتى "ينقطع" المرءُ فيها، وسيارات الأجرة والباصات، تمرّ من هنا، وإن كانَ بكثافةٍ أقلّ من شوارع أخرى بطبيعة الحال.
"كان لا بد أن تكون البداية مختلفة"، هجسَ في نفسه غيرَ راضٍ عن المسرب الذي اتخذه الحديث. "لو أنها قالت شيئاً آخر"، هزّ رأسَه مصيخاً السمع إلى داخله، "لكانت الأمور أسهل".
- تدخّن؟
أومأ برأسه نفياً، وضايقَه أن سؤالها يستوجب الردّ بالإيجاب، فتحسس وجنَتهُ التي طفتْ على سطحِها حرارةٌ مفاجئة.
"اسْمُ الحلو؟"، بادَرَتْهُ بما أوتيت من غنج مصطَنَع. وقبل أن يهتدي إلى واحدٍ من بنات مخيّلته يدّعيه لنفسه تلعثمَ وهو يقول:
- نضال.. نضال عبدالله.. وأنتِ.
- دلَع!
- اسمِك الحقيقي؟
"آه. إن شاء الله أنْقَبِر إن كنت أكذب. وحتى أثبت لك.."، وعلى فورِها أخرجتْ بطاقةً شخصية من محفظةٍ صغيرةٍ ربطتها بحزام ساعة يدها، مؤشِّرةً بسبابتها على ما تراءى له الموضع الذي يُدوَّن فيه الاسم.
كانت البطاقةُ باليةً والحروف ممحوّة. لكنه تجاوز ذلك حينما وجد أن لا فرق إن كان اسمها كذلك، أم هو مستعار.
- متزوج!
انتبه إلى خشخشة الأكياس، تدعوه إلى بيته، زوجته وطفلَيه. وإذ تلكأ في الردّ، استلمتْ "دلع" دفةَ الحديث مرة أخرى:
"شكلك متزوج.."، وتابعت تسأله: "تحبّها؟"، قبل أن تستدرك وعيناها على الأكياس: "وَلَكَ أطفال أيضاً".
كانت تُولّدُ السؤالَ من الذي سبقه، تستحثّه على حوارٍ بدا لهما معاً أنه ليس مهيّأً للخوض فيه. فقد انشغل ذهنه بمونولوج داخلي يعذّبه:
- ما الذي تورّط نفسك فيه؟ حياتك يسودها الوئام! وزوجتك بانتظارك، وضعك على أحسن ما يُرام، فما عَدا مِمّا بدا؟
وفي غمرة وخزة الضمير، حيّرَهُ ما هو فيه، وعصيَ عليه تفسيره، هو الذي يبذل وسعَه ليُرضي زوجته التي "أخذته عن حُبّ".
قلّب دفتر الأيام الأخيرة، وما سبقَها، صفحةً صفحة، فما صادفَهُ منغّصٌ يربط بينه وبين اتخاذه هذا المساء طريقاً غير تلك التي تؤدي إلى بيته.
قطعت استغراقَه التفاتةٌ منه إلى الجالسة جواره. "يا مصيبتي إن علمَتْ زوجتي بأمرها"، همسَ في سرّه، متخيّلاً ما سيحدث لو أن أحداً يعثر على شيء من متعلّقاتها في سيارته: "لن يرحمني أحد. سأخسر كل شيء"، هز رأسه كمن أمسك الأمرَ من خاصرته، وأردف لنفسه: "إنها خيانة!".
توقف عند التعبير الأخير كأنما اصطدم بجدار، فأيقن أنه في مأزق.
ودّ لو يغمضُ عيناً ويفتحُها، فيعودَ إلى الخامسةِ والنصف هذا المساء، حين همَّ بفتح باب السيارة مغادراً عمله. "سأتجه إلى البيت حتماً"، أسرّ لنفسه عارفاً استحالة أن يتراجع الزمن.
ملّت الجالسةُ جواره قلّةَ استجابته، ولم تعد تكترث لأمره، ولاذتْ بصَمْتِها ترقب الطريق، في حين كان يقلّبُ المسألةَ، علّ وجهاً فيها توارى عنه. "لِمَ لا أعاملها كامرأةٍ تقطّعت بها السُّبُل، فأُوصلها إلى مبتغاها، وكفى الله المؤمنين القتال؟".
رأى في الفكرةِ التي التمعت في ذهنه، بارقةً قد تنفع في استلالهِ مما ورّط نفسَه فيه. تنفّس الصعداء، وهو يستأنف الحوار معها، لكن باقتيادها إلى جوانب لم تُخْفِ تبرّمها منها في البداية، قبل أن يحلو لها التفصيل فيها.
سألها عن عملها وأحوالها وعائلتها، بنبرة غشيمٍ لا يساوره شكّ في كونها امرأة فاضلة. كان ذلك بعد أن أنقدها ورقة نقدية حمراء، طوتها في كفّها المتعرّقة، عن رضا.
كلمة وراء أخرى، وتحولتْ إلى حكّاءة: في السابعة والثلاثين، بزوجٍ وراء القضبان في قضية "حشيش"، وأبناءٍ خمسة، أكبرهم يعمل في محل ميكانيك، وصُغراهم أنجبتُها وهو في السجن. عملتُ حاضنةَ أطفال في مدرسة خاصة قبل أن يطردوني لأن زوجي "أسبقيات". أعيل أمّي الضريرة، وأبي المصاب بالسكّري. قل لي: ماذا أعمل؟ كل الأبواب سُدَّت في وجهي. نفسي أحجّ وأزور قبر النبي. لا.. لا أزوره، زوجي، لأني لا أحب أن يراني ضعيفة. آه. كلما رأيته مقيَّداً أبكي.. لو تدهسني سيارة وأرتاح.. لكن مَن للقواريط..
أرخى العنانَ لانهمارِ كلامها كيفما اتفق، كأنها غيمةٌ صامَتْ عن الإمطار دهراً، قبل أن تهزها ريحٌ لتلقي حمولتها عليه.
وبينما كانت السيارة تقترب من موقف الحافلات، بدا "نضال" مشتاقاً لعائلته وهو يمنح الأكياس فوق المقعد الخلفي نظرةً خاطفة. نظرة بدت كافية ليستعيدَ "البيتُ" صورتَهُ التي غابت.
وضعَ الغمّازَ اليمين، وأبطأ من سرعة السيارة. وعندما توقفتْ تماماً تأمَّلَ الملفّعةَ بالسواد بشيءٍ من التعاطُف. ثم ناولها بضعةَ دنانير إضافية مما عثر عليه في جيوبه، وربّتَ على ظاهر كفِّها بإشفاق.
هزّت رأسها امتناناً تحاذر أن تلتقي عيناها بعينيه، قبل أن تعيد إليه كل ما في كفّها من نقود، وهي تتمتم بتنهيدة:
- شكراً. يكفي أنك أوصلتَني.
فكّر لهنيهةٍ أن يلحّ عليها لتقبلَ أُعْطيَتَهُ، لكنه عدلَ حين تيقّن أنها ستقابله بالرفض. وبدتْ تلكَ اللحظةَ في ناظريه، عزيزةَ النفس تأبى المهانة، رغم ما باحتْ به من مآسٍ تفطرُ القلب.
- طيّب.. ديري بالِك على حالِك.
"شكراً. وأنتَ أيضاً"، قالتْ تفتحُ البابَ وتغادر.
خَطَتْ تتعثر بعباءتها، قبل أن تستدير نحوه وقد تلبّثَ في موضعهِ. نقرتْ على النافذة، ففتحها.
"على فكرة. هذه أول مرة يسمعني فيها أحد"، قالت تحاذرُ أن تفضحَها النهنهة، وقد فاضَ وجهُها بالحياة.
ردَّ عليها بفروسية حقيقية هذه المرة:
- إنْ خليَتْ بليَتْ.
وَلّتْ ظهرَها له، فتتبَّعَها يغالبُ دمعاتٍ صامتة فرّت منه. وإذ غيّبَتْها العتمة، كانَ كربُهُ يتلاشى وهو يسحب الأكياسَ من الخلف إلى المقعد المجاور، قبل أن يفتح هاتفَهُ المغلَق.