محمد مزيد - توفيق الحكيم في الاهوار

في تلك البقعة المائية الساحرة، البعيدة عن الكون، جلستُ وحيداً، تحيط بي مياه الهور، بصمته العجيب وأخضرار مياهه، حيث الطيور ودجاج الماء والنوارس ، تلتقط ما يطفو على سطحه، ترى الأسماك تعيش فيه سعادتها بعيدا عن البر الصاخب، كنت أجلس في صريفة تطل على مساحات شاسعة من المياه، وأنا في تلك الحالة من الذهول والصمت، طرق باب الصريفة الروائي المسرحي الكبير توفيق الحكيم، بقبعته الباريسية وعصاه المصنوعة من خشب الابنوس ، جلس على الكرسي الوحيد في غرفتي، وهو يتأفف من شدة الحر، يراقب موجودات الصريفة بنظرات حالمة، توقعت وراءها أسئلة كثيرة ، كان يبدو إنه يريد أن يسألني عنها، أستغرق كثيرا في التجول بنظره في سقف الصريفة، ينظر الى الاعمدة الخشبية مصفوفة بخبرة هندسية مذهلة ، وضعت فوقها حصران مصنوعة من قصب البردي ، قال لي ، بعد أن أنهى اسكتشافاته :
- أنت أردت رؤيتي يا هذا، ليه ؟
استفزتني طريقة سؤاله، فيها استعلاء واضح، لا يمكنني هضهمه بسهولة ، فقلت :
- لماذا قتلت ريما، الفتاة الجميلة الفاتنة، بطلة روايتك في " يوميات نائب في الأرياف " ؟
ضحك الكاتب العجوز وهو يضغط متكئا على عصاه الابنوسية :
- أنت مهتم بريما ، أكثر من اهتمامك بالأجواء التي رسمتها في ريف مصر؟
- أعرف الأجواء التي تتحدث عنها، شاهدناها كثيرا بالعديد من الأفلام المصرية، بعض المخرجين اساءوا الى سكان الريف، صوروهم لنا كأنهم من كوكب آخر، ببلاهتهم وسذاجتهم، في حين روايتك تتحدث عنهم بأنصاف، صورتهم أذكياء يعرفون ماذا يفعلون ، دعنا من هذا ، أردت أن أعرف لماذا قتلت ريما، الفتاة الجميلة الساحرة، التي عشقها النائب، موظف النيابة العامة، أظنك لم تضع له أسما، لماذا لم تستثمر ذلك الحب بينهما، لتخلق دراما تأسر القراء ، هل الحب لديكم ممنوع ، أم إنك تكره الحب ؟
نهض في مكانه، عدل بنطاله، ثم جلس:
- لماذا يهمك الحب أكثر من خطوط السرد الأخرى، أنا رسمت من الواقع، شخصيات كوميدية تسخر منه، كنت أريد السخرية من الحياة والقوانين التي تتحكم بهؤلاء الناس .
قلت له ساخرا:
- لذلك جعلت النائب في الأخير يلقي بملفات شكاوى الناس الى النهر.
قال جادا وتغيرت نبرة السخرية عنده:
- الم تعجبك النهاية؟ لقد كتب باحثون أنكليز ونقاد من فرنسا والمانيا عن هذه الرواية، ترجمت الى عدة لغات وقالوا في مقالاتهم " إننا عرفنا وأكتشفنا حياة الريف المصري على حقيقته، من خلال هذه الرواية، وليس كما كتبه المؤرخون."
- هؤلاء الباحثون مختصون في عالم الانثربولوجيا ، لا يهمهم قيمة الرواية الفنية ، هذا موضوع آخر ، موضوعي هو ريما .
قال غاضبا:
- انت هريتني بريما، الحب ممنوع في تلك المناطق ياواد ، نصف مشاكل الصعيد المصري تدور حول هذا المأزق الخطير .
بعد نوبة من الغضب، التي لا استغربها منه، هدأت نفسه، ثم سألني الكاتب الكبير :
- وأنت ماذا تعمل هنا؟
- أنا معلم ابتدائية في هذه القرية، نقلوني من بغداد، لانني لم أصفق بعيد ميلاد الحزب، تصوروني معاديا للحزب والثورة، مرات اخربش بكتابة القصص والروايات .
ضحك الكاتب الكبير:
- يا وله، بلاش الحركات دي ، هذه الحدوته لوحدها رواية، لم لا تكتبها، وأنت هنا وحيد ومعزول عن العالم وليس لديك ما تخسره.
في تلك الاثناء أطلت الفتاة الارملة، بوجهها الأبيض الجميل وعينيها الزرقاوين، ترتدي العباءة، القلق باد على وجهها، تحمل طاسة الروبة، لما رأتني جالسا مع الكاتب الكبير، وضعت الطاسة على المنضدة ثم أنسحبت، تريد الخروج ، صحت عليها :
- انتظري يا ريم، الى أين انت ذاهبة؟
- عندك خطار.
نهض الكاتب الكبير، سار إليها ببطء، تتقدم خطواته عصاه، وهي قرب الباب يتمعن بجمالها:
- اهووه ، عندك هنا ريما يا حلاوتها يا جمالها ، أكتب عنها يا وله، وسترى عندما تضيق عندك الدنيا ولن تحصل عليها، كيف ستقتلها على الورق ، ( ثم وجه كلامها اليها ) ما تخفيش ياولية .
ثم ضحك وغادر من حيث آتى .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى