آمنة الوسلاتي الرميلي - القـاتل

صدْر الولد كان شهيّا، كان شهيّا صدر الولد.. مستـفزّا كان، تحت مريوله المخطّط المتواضع، اللعنة!.. ما الذي جعلني أنظر إلى صدره؟ منذ الأمس جاءت التعليمات.. سنضرب .. نظرت إلى سلاحي على جنبي، أحسست أنّني أقـف على رأس الهاوية.. القانون هو القانون، امتدّت يدي إلى السّلاح، لمسته، ملأت به كـفّي، سنضرب.. سمعنا كلّنا كلمة السرّ "بكلّ حزم، بكلّ حزم.."، للصّفوف الأماميّة قنابل الدّموع السّائلة والخرطوش لي، وراءهم سأكون، بعيدا عن أعين الهواتف الجوّالة، وسلاحي أملس، لامع السّواد، لا أشبع من النّظر إلى نور سواده، قلت: ولكن سيّدي... عبس: سنضرب، ألم تسمع التّعليمات؟ ضربت التحيّة، لا أحد يراك.. ضربت التحيّة ثانية وجسدي قبضة من التوتّر، كلّ هذه الأيّام الكلبة وجسدي قبضة من التوتّر.. رأيتهم مختـنقين، ورأيتهم مجروحين، ورأيتهم يسقطون تحت قوّة الرّصاص المطّاطيّ وقد يقومون أو لا يقومون.. رأيتهم مرفوسين تحت أقدام الأعوان.. والله يملكون سبع أرواح.. سنضرب قال، وكيف أبتعد عن عيون الهواتف الجوّالة؟ لكأنّ الأرض مزروعة بها وكذلك السّماء، العمى!.. كيف تـتركونهم يلتقطون مثل تلك الصّور؟ أين عيونكم؟ العمى والصمى!.. تريدون أن يحرقوني في القصر أو يذبحوني في الدّاخليّة؟ زيدوا من القوّة.. كلّ شيء تحت أيديكم، ماذا نفعل بكم؟ شرذمة من الفروخ حيّرتكم؟ أنتم رجال؟؟ يحترق دماغي، أوزّع الأوامر بكلّ ما فيّ من غلّ عليهم، يطلعون علينا كالجراد.. أمواجا، أمواجا.. سنضرب، وصلت التّعليمات.. الله غالب، نظرت إلى سلاحي يغفو في غمده الجلدي.. على جنبي الأيمن، في متـناول اليد، التصقت بزاوية الرّكن المواجه لفم هذا الشارع المنحدر، بلغتـنا التقارير منذ حين أنّهم يتجمّعون في ساحة الحيّ الدّاخلية.. وجهتهم الشارع الرّئيسي ومركز الأمن بالذّات.. في كلّ ما سبق من أيّام وهم يخرّبون البلد، نفد صبرنا، انتهى.. هكذا قال الكبير عابسا، يابسا، متّـقد العين والسّيجار، اندفعت أسأل: أنقتل أبناءنا يا سيادة..؟ سحقني بنظرة حمراء، سنقتل أعداء الوطن.. رنّت الكلمة في خاطري، تيقّظت حواسّي.. تعرّقت، ملأتـني أبخرة غريبة.. أعداء الوطن؟ ولكنّ الكلمة كانت حاسمة "بكلّ حزم، بكلّ.."، ها هم.. ها هي ضجّتهم تـنتشر في الفضاء من حولي وأنا لاصق في هذه الزّاوية، سلاحي قرب يدي، وجسدي قبضة من العرق والأبخرة والرّوائح الكريهة، حماة الحمى.. أعداء الوطن.. سنضرب، نفد صبرنا، نفدت قنابل الدّموع.. وهو بمريوله المخطّط يتـقدّم الصّفوف بصدره، تبرز عضلات صدره من تحت خطوط المريول الباهتة، وفي السّماء سحب ورياح وصقيع، من أين يأتي بالحرارة؟ بدأ يقترب، لماذا أراك أنت بالذّات؟ من بين مئات الصّدور البارزة في هذه العشيّة القارسة رأيتك.. هل يختار الصيّاد حمامته من بين الفريق؟ هل يقول هذه دون الأخريات جميعا؟ إذا الشعب يوما أراد الحياة.. عيناي على عضلات صدره، وبقعة اللحم الظّاهرة من فتحة المريول تؤكّد جدّة الجسد وعنفوانه، وسلاحي في يدي.. من يكون؟ من هو؟ تلميذ؟ طالب؟ عاطل؟ معلّم؟ تاجر عربة؟ خضّار؟ جزّار؟.. فلا عاش في تونس من خانها، وأنا من جندها، سلاحي بسواده اللّامع، وعينا من أدّيت له التحيّة منذ حين، وكلمة السرّ، وشرائط القبّعة والكتـفين.. ولا عاش من ليس من جندها.. نفّذ التّعليمات.. كانت نظرته قاتلة وأنا أندفع بالسّؤال: أنقتل أبناءنا؟ أبناؤنا؟ المخرّبون؟ العصابات الملثّمة؟ الهمل؟.. خرست، انكمش لساني في حلقي، تسرّعت.. والكبير كبير.. أتقاعد بعد شهرين أو ثلاثة، أكبره بعشرين عاما، متى كبر؟ استخسرت أن تـنتهي سنوات الحرّ والقرّ والمسالك البعيدة والنّوم في الخلاء داخل السيّارة أو على أسرّة الحديد البائسة في مراكز الرّيف والمدن.. بالدّم.. أنقتل أبناءنا؟ مرق السّؤال غصبا عنّي، قلبي سأل، لا لساني ولا عقلي.. اهتزّت جدران القاعة بصرخته: هؤلاء أعداء الوطن!.. أمّنت على صرخته بهزّات متتالية من رأسي المصدّع بآلاف المسامير الحامية، وها هو يتقدّم وصدره يملأ المريول المخطّط، أبيض، أحمر، أخضر.. أبيض، أحمر، أخضر، وإصبعي على الزّناد، وأنا مرصوص في هذه الزّاوية الحادّة المطلّة على فم الشارع المنحدر.. اقترب، اقترب، نفّذْ.. اقترب.. نفد صبرنا، نفدت قنابل الدّموع، هل نتركهم يحرقون البلد؟ قال، لا بدّ للوطن من ضحايا.. المهمّ الوطن، قال، تونس فوق الجميع.. وساح الوطن في خاطري، ريفه، مدنه، مسالكه، آباره، بحاره، شجر الكالاتوس على جوانب الطّرق، البوﭭـرعون يحمّر خدود الحقول بلا نهاية، المقاهي تعجّ بالنّاس صباح مساء، السّدود المرميّة بين الجبال وفي أكفّ السّهول الخضراء، قصور العزّ فوق الرّبى من طبرقة إلى الحمّامات، الصّغار يقصدون المدارس حفاة، يراوغون الذّئاب ويحيّون سيّارة الشّرطة بلهفة الخائف.. وهو يقترب، يقترب وصدره قويّ شهيّ، من أمّه؟ أبوه حيّ؟ وكان إصبعي يضغط على الزّناد وأنا محشور في هذا الجحر فوق هذه البناية المطلّة على فم الشّارع المنحدر..

آمنة الوسلاتي الرميلي
(من قصص الثورة )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى