يلوح فوق السنام شامخا كجبل، يقود رفاقه عبر دروب الصحراء، جمله يسبق جمالهم. طويل العنق، أسمر الوجه، جلبابه أبيض فضفاض، قلبه قلب سبع، أو قل: في صدره مضغة من حديد، لا ينال التعب من عزمه شيئا، و لا يضنيه الجوع و حر الشمس الحارقة. من وقت إلى آخر تثور العواصف الرملية؛ فتتوقف القافلة، و ينيخ الرجال جمالهم، و يجثون على الرمل، و يلفون رءوسهم و وجوههم بأحرمة الصوف، و يدفنون رءوسهم في أبدان جمالهم التي تتحول في ذلك الوقت العصيب إلى مصدات، تروض طيش الرياح العاتية. و ما إن تكف العاصفة عن جموحها، و تهدأ بعد حين، حتى يكافئ كل جمال جمله بالسقاية و الإطعام. كان من عادة القافلة أن تتوقف، إذا حل الظلام؛ مخافة أهوال الليل، و تجنبا لمواجهة كائناته الظاهرة و الخفية. يحدد صالح، اتجاه الريح، و مكان نصب الخيمة؛ فيسارع الرجال إلى دق الأوتاد، و شد الحبال و فرد أكسية الشعر. بينما يقوم آخرون بإعداد ركية الجمر؛ لنشر الدفء و طرد الذئاب التي تفر عادة عند رؤية النار و ألسنة اللهب. يجلس الرجال يتسامرون، يطلقون النكات تارة، و يصدحون بأغنياتهم القديمة تارة أخرى؛ فتتدفق الضحكات الصافية من ثغورهم، و تكتسي وجوههم السمراء ببهجة تنسيهم شقاء اليوم المنصرم، و تنسيهم كذلك مشقة ما ينتظرهم في صباح اليوم التالي. ينام الجميع، و لكن صالحا -هذه الليلة- ظل مؤرقا لا ينام.
عجزت الأضواء الشاحبة التي أرسلتها النجوم عن تبديد عتمة الصحراء؛ فغمس صالح الفتيل في جرة الزيت، و أشعل مشعلا، أنار رقعة ضئيلة، لم تتجاوز عدة أمتار. لم يكن راغبا في النوم بالمرة؛ فدس براد الشاي في ركية الجمر، و أشعل سيجارته، و غرق في فيض خواطره. هو من سلالة رجال، رأوا الخوف مذمة؛ فامتهنوا ركوب الصحراء، و مع كثرة الرحلات، حفظوها شبرا شبرا، و صاروا خبيرين بدروبها و مسالكها كابرا عن كابر. كان معلمه الأول عمه الأكبر؛ فلما نهشته الذئاب، واصل أبوه تلقينه أسرار تلك الحرفة، و بعد سنوات، صار صالح آخر من تبقى من تلك السلالة. المتاهات جمة، و الشعاب وعرة، و القفار مسكونة، و لا أحد سواه يعلم مداخلها و مخارجها. في قلب الصحراء الشاسعة تناثرت بعض النجوع، و الواحات المأهولة بالسكان، كانت تلك البقاع هي مقصد التجار؛ إذ كانت متعطشة دائما إلى بضائعهم. و من غير صالح يستطيع الوصول إليها؟! و من غيره أدرى بما يحتاج إليه سكانها؟! و من غيره أدرى بطباع الأهالي و عاداتهم و مواسمهم؟! فلكل ميقات بضاعة رائجة، و لكل عروس قائمة طلبات، عليه أن يحضرها دونما تأخير. ما إن يراه سكان تلك الجهات، حتى يقبل كل منهم على شراء ما حمله التجار إليهم من بضائع شتى: توابل، أقمشة، أغذية، زيوت، عطور، معسل، سجائر، لوازم العرائس. كان التجار في المقابل يشترون التمور التي اشتهرت بها تلك النجوع و الواحات، و يعودون بها إلى النجع، حيث يبيعونها إلى أصحاب المستودعات، الذين يوزعونها بدورهم على تجار الوجه البحري بواسطة سيارات النقل.
كان صالح- فضلا عن كونه دليلا- تاجرا يتقاضى أرباح التجارة من ناحية، و يتقاضى أجرته كدليل من ناحية أخرى. و لما كانت القوافل لا تتحرك دون وجوده اضطر صالح إلى أن يتغيب عن بيته مدة تتجاوز الشهر، يعود بعدها مع التجار الغانمين السالمين؛ فيقضي مع أولاده ليلة أو ليلتين، و سرعان ما يتحرك مجددا مع قافلة أخرى.
لقد استقر في وجدانه أنه بات جزءا من تلك الصحراء، و أن لحمه بمرور الأيام امتزج برمالها، و أن صهد شمسها، و لفح هجيرها، باتا يجريان في عروقه، كما يجري الدم. أصبح صالح مضرب الأمثال، كل من سكن الصحراء سمع عنه، إن لم يكن رآه، و لما ابتلي السبع بقلب يحن و يشتاق، هفا صالح دائما إلى عياله و زوجته، و كثيرا ما كانوا يتراءون أمامه كما تتراءى أنهار الماء التي رسمها السراب على مرمى البصر. كانت الجمال هي وسيلة التنقل الأساسية في تلك الجهات، و كانت الرمال ناعمة، لا يأمن التجار شرها، و كانت المخاطر جمة، تحوم ليل نهار فوق رءوس أصحاب القوافل المسافرة، و أسفل أرجلهم. و لما كثرت الضحايا، هجر الرجال تلك التجارة، و لم يصمد منهم إلا القليل، كان صالح على رأس أولئك الصامدين دائما.
حاصرته الخواطر؛ فرنا إلى النجوم، و حلم للحظات؛ فرأى زوجته في أبهى صورة، قد اتخذت كامل زينتها، فما كان منه إلا أن طوقها بذراعيه، و ضمها إلى صدره؛ فأحرقه الشبق و الحنين، لكنه سرعان ما استفاق على صوت راح ينادي عليه: صالح... يا صالح... صالح. تلفت الجمال حوله، لكنه لم ير أحدا، عندئذ سرت القشعريرة في بدنه، و ملأت الهواجس قلبه؛ فهم بدخول الخيمة، لكنه أبصر، فجأة امرأة تقف بين يديه، امرأة فاق حسنها الحدود و الأوصاف، بائنة القد و المفاتن، ترتدي ثوبا ورديا مطرزا بالفضة اللامعة، تضوي في العتمة كشعلة لهب. صعق صالح، و راح يحملق بنظرات فزعة، بددتها المرأة بابتسامة عذبة، و مضت تدعوه بصوتها الناعم إلى عدم الخوف. و ما إن هدأ نبضه المتصاعد، حتى دنت منه، فتراجع إلى الوراء، و راح يستعيذ برب الجنة و الناس. لم تمهله المرأة الوقت الكافي لجمع شتات نفسه؛ فجذبته سريعا إلى حضنها جذبة عنيفة، و ما إن لامس وجهه المصفر نهديها، حتى ذهل عما حوله، و تحول إلى قطعة صلصال طرية، لهت بها رفيقته كيفما شاءت. و في الصباح، استيقظ الرجال؛ فوجدوه ممددا فوق الرمال، يغط في نوم عميق.
تحركت القافلة، و كان فوق جمله مشوشا؛ بدت دروب الصحراء متشابهة؛ فاختلطت عليه السبل. شعر بالحيرة، و لأول مرة منذ أن احترف تلك الحرفة الخطرة يجد نفسه عاجزا عن تحديد وجهته. راح ينظر في كل الاتجاهات؛ فأحس بأنه محاصر وسط بحر من الرمال، لا أول له، و لا آخر. و بعد لحظات عاود التحديق؛ فأبصر على مرمى البصر المرأة ذاتها، تلوح إليه بكلتا يديها، و تدعوه إلى أن يتبعها.
و كبرادة حديد انجذبت إلى مغناطيس، انجذب جمله إليها، و الجمال خلفه تسعى كما جرت العادة. لاحق الجمل المرأة، التي هرولت أمامه، و التي دعت صالحا إلى حث جمله على التقدم و الإسراع. و ما إن وصلت المرأة عند بقعة معينة، حتى توقفت، فجأة. و لما وصلت القافلة إليها، غاصت قوائم الجمال في الرمال الناعمة؛ فقفز الرجال من فوق الأسنمة، ملتمسين النحاة، و لكن أقدامهم غاصت بدورها في بحر الرمال المتحركة، كان صالح فوق سنام جمله، لا يزال ذاهلا، لا يستوعب عقله ما يدور حوله، و في لحظات معدودة ابتلعت الرمال الجائعة صيدها؛ فأخفت في جوفها أبدان الرجال و الجمال. عندئذ أطلقت المرأة ضحكات، رجت المكان، و ضربت بيدها رأس جمل صالح؛ فهوى بدوره إلى أسفل، و قبل أن تواريه الرمال تماما، أصدر رغاء، مزق قلب صاحبه، الذي مد بصره المشدوه؛ فرأى زوجته تتشح بالسواد، و رأى عياله ينتحبون؛ فلوح إليهم بانكسار، يليق بسبع، تحول اليوم إلى غريق مهزوم.
عجزت الأضواء الشاحبة التي أرسلتها النجوم عن تبديد عتمة الصحراء؛ فغمس صالح الفتيل في جرة الزيت، و أشعل مشعلا، أنار رقعة ضئيلة، لم تتجاوز عدة أمتار. لم يكن راغبا في النوم بالمرة؛ فدس براد الشاي في ركية الجمر، و أشعل سيجارته، و غرق في فيض خواطره. هو من سلالة رجال، رأوا الخوف مذمة؛ فامتهنوا ركوب الصحراء، و مع كثرة الرحلات، حفظوها شبرا شبرا، و صاروا خبيرين بدروبها و مسالكها كابرا عن كابر. كان معلمه الأول عمه الأكبر؛ فلما نهشته الذئاب، واصل أبوه تلقينه أسرار تلك الحرفة، و بعد سنوات، صار صالح آخر من تبقى من تلك السلالة. المتاهات جمة، و الشعاب وعرة، و القفار مسكونة، و لا أحد سواه يعلم مداخلها و مخارجها. في قلب الصحراء الشاسعة تناثرت بعض النجوع، و الواحات المأهولة بالسكان، كانت تلك البقاع هي مقصد التجار؛ إذ كانت متعطشة دائما إلى بضائعهم. و من غير صالح يستطيع الوصول إليها؟! و من غيره أدرى بما يحتاج إليه سكانها؟! و من غيره أدرى بطباع الأهالي و عاداتهم و مواسمهم؟! فلكل ميقات بضاعة رائجة، و لكل عروس قائمة طلبات، عليه أن يحضرها دونما تأخير. ما إن يراه سكان تلك الجهات، حتى يقبل كل منهم على شراء ما حمله التجار إليهم من بضائع شتى: توابل، أقمشة، أغذية، زيوت، عطور، معسل، سجائر، لوازم العرائس. كان التجار في المقابل يشترون التمور التي اشتهرت بها تلك النجوع و الواحات، و يعودون بها إلى النجع، حيث يبيعونها إلى أصحاب المستودعات، الذين يوزعونها بدورهم على تجار الوجه البحري بواسطة سيارات النقل.
كان صالح- فضلا عن كونه دليلا- تاجرا يتقاضى أرباح التجارة من ناحية، و يتقاضى أجرته كدليل من ناحية أخرى. و لما كانت القوافل لا تتحرك دون وجوده اضطر صالح إلى أن يتغيب عن بيته مدة تتجاوز الشهر، يعود بعدها مع التجار الغانمين السالمين؛ فيقضي مع أولاده ليلة أو ليلتين، و سرعان ما يتحرك مجددا مع قافلة أخرى.
لقد استقر في وجدانه أنه بات جزءا من تلك الصحراء، و أن لحمه بمرور الأيام امتزج برمالها، و أن صهد شمسها، و لفح هجيرها، باتا يجريان في عروقه، كما يجري الدم. أصبح صالح مضرب الأمثال، كل من سكن الصحراء سمع عنه، إن لم يكن رآه، و لما ابتلي السبع بقلب يحن و يشتاق، هفا صالح دائما إلى عياله و زوجته، و كثيرا ما كانوا يتراءون أمامه كما تتراءى أنهار الماء التي رسمها السراب على مرمى البصر. كانت الجمال هي وسيلة التنقل الأساسية في تلك الجهات، و كانت الرمال ناعمة، لا يأمن التجار شرها، و كانت المخاطر جمة، تحوم ليل نهار فوق رءوس أصحاب القوافل المسافرة، و أسفل أرجلهم. و لما كثرت الضحايا، هجر الرجال تلك التجارة، و لم يصمد منهم إلا القليل، كان صالح على رأس أولئك الصامدين دائما.
حاصرته الخواطر؛ فرنا إلى النجوم، و حلم للحظات؛ فرأى زوجته في أبهى صورة، قد اتخذت كامل زينتها، فما كان منه إلا أن طوقها بذراعيه، و ضمها إلى صدره؛ فأحرقه الشبق و الحنين، لكنه سرعان ما استفاق على صوت راح ينادي عليه: صالح... يا صالح... صالح. تلفت الجمال حوله، لكنه لم ير أحدا، عندئذ سرت القشعريرة في بدنه، و ملأت الهواجس قلبه؛ فهم بدخول الخيمة، لكنه أبصر، فجأة امرأة تقف بين يديه، امرأة فاق حسنها الحدود و الأوصاف، بائنة القد و المفاتن، ترتدي ثوبا ورديا مطرزا بالفضة اللامعة، تضوي في العتمة كشعلة لهب. صعق صالح، و راح يحملق بنظرات فزعة، بددتها المرأة بابتسامة عذبة، و مضت تدعوه بصوتها الناعم إلى عدم الخوف. و ما إن هدأ نبضه المتصاعد، حتى دنت منه، فتراجع إلى الوراء، و راح يستعيذ برب الجنة و الناس. لم تمهله المرأة الوقت الكافي لجمع شتات نفسه؛ فجذبته سريعا إلى حضنها جذبة عنيفة، و ما إن لامس وجهه المصفر نهديها، حتى ذهل عما حوله، و تحول إلى قطعة صلصال طرية، لهت بها رفيقته كيفما شاءت. و في الصباح، استيقظ الرجال؛ فوجدوه ممددا فوق الرمال، يغط في نوم عميق.
تحركت القافلة، و كان فوق جمله مشوشا؛ بدت دروب الصحراء متشابهة؛ فاختلطت عليه السبل. شعر بالحيرة، و لأول مرة منذ أن احترف تلك الحرفة الخطرة يجد نفسه عاجزا عن تحديد وجهته. راح ينظر في كل الاتجاهات؛ فأحس بأنه محاصر وسط بحر من الرمال، لا أول له، و لا آخر. و بعد لحظات عاود التحديق؛ فأبصر على مرمى البصر المرأة ذاتها، تلوح إليه بكلتا يديها، و تدعوه إلى أن يتبعها.
و كبرادة حديد انجذبت إلى مغناطيس، انجذب جمله إليها، و الجمال خلفه تسعى كما جرت العادة. لاحق الجمل المرأة، التي هرولت أمامه، و التي دعت صالحا إلى حث جمله على التقدم و الإسراع. و ما إن وصلت المرأة عند بقعة معينة، حتى توقفت، فجأة. و لما وصلت القافلة إليها، غاصت قوائم الجمال في الرمال الناعمة؛ فقفز الرجال من فوق الأسنمة، ملتمسين النحاة، و لكن أقدامهم غاصت بدورها في بحر الرمال المتحركة، كان صالح فوق سنام جمله، لا يزال ذاهلا، لا يستوعب عقله ما يدور حوله، و في لحظات معدودة ابتلعت الرمال الجائعة صيدها؛ فأخفت في جوفها أبدان الرجال و الجمال. عندئذ أطلقت المرأة ضحكات، رجت المكان، و ضربت بيدها رأس جمل صالح؛ فهوى بدوره إلى أسفل، و قبل أن تواريه الرمال تماما، أصدر رغاء، مزق قلب صاحبه، الذي مد بصره المشدوه؛ فرأى زوجته تتشح بالسواد، و رأى عياله ينتحبون؛ فلوح إليهم بانكسار، يليق بسبع، تحول اليوم إلى غريق مهزوم.