فوز حمزة - قارىء عداد الكهرباء.. قصة قصيرة

ابتسمت وأنا أمسك بيديها المعروقتين .. تحسستهما بأصابعي وأنا أنظر في عينيها الجميلتين التي أخفت جزءًا منها وراء النظارة الطبية السميكة .. قلت لها بعد أن وضعت رأسي في حجرها :
- عمتي .. هل ما زلتِ تتذكرين قارىء عداد الكهرباء ؟
توقفت عن الحركة أصابعها المندسة في شعري ودفعتني من كتفي للنهوض وبصوت يملؤه الاندهاش سألتني:
- من يكون هذا ؟!
لويت رقبتي ورفعت حاجبي وأنا ما أزال أجلس على الأرض قبالتها وقلت لها ..
- لا تحاولي إخفاء الأمر .. فأنا أعرفه ..
ردت بتلعثم :
- أنا لا أكذب ..
عدت إلى حجرها وأنا أردد :
- بالتأكيد يا عمتي لا تكذبين .. أنا أمزح معكِ ..
وأنا أمسك بيدها وأضعها ثانية بين خصلات شعري أحسست بتشنجها وببرودة سرت منها إلى رأسي .. تساءلت بيني وبين نفسي: لِم عمتي تنكر معرفتها به .. ربما لأنني أذكرها بتلك الحادثة التي تسببت بضربها من قبل أبي ..
نهضت وقلت لها بسرعة:
- لكني شاهدتكما وأنتما تقبلان بعضكما خلف ستارة البيت ..
علا وجه عمتي الإحمرار من هول الصدمة لكنها لم ترد.. فاستأنفت حديثي وكأني أريد بذلك رمي الثقل من على كتفي:
- عمتي : أنا من أخبر أبي بذلك !!
بحزن شعرت به يخترق قلبي ردت:
- أعرف.
- أرجوكِ عمتي .. لا تكرهيني ..
- كنتِ دون سن العاشرة .. لا تدركين عواقب ما فعلتِ ..
- لكني تسببت في فراقكما بعد رفض أبي له .. و ...
قاطعتني عمتي قائلة:
- أبوكِ لم يرفضه لهذا السبب إنما ..
قلت صارخة :
- لقد أخبرته أيضًا بأنك كنت تتواعدين معه على سطح الدار لتسمعان معًا لمغني قديم نسيت اسمه الآن ..
- عبد الحليم .. وكانت أغنية حاجة غريبة .. قالت عمتي بتنهد .
كنت أريد أخبارها أنني لا أحب هذا المغني لكن تراجعت في اللحظة الأخيرة حينما تذكرت توبيخها لي في المرة الماضية عندما أخبرتها برأيي لتصفني بالسطحية التافهة.
خلعت عمتي نظارتها فبدت عيناها أوسع .. وهي تمسح العدسات بطرف ثوبها سألتني بيأس:
- وماذا غير ذلك ؟ يا ما في جيبك يا حاوي !!
- وأنا أيضًا من سرق رسالته من بين الرواية التي كنت تقرأينها وسلمتها لأبي ..
- هذه أعرفها .. الكف الذي تلقيتها من أبيك تلك الليلة وهو يقرأ الرسالة كافٍ لتوضيح الأمر ..
- الذي لا تعرفيه أنني من قال لأبي إن تلك الرواية كانت هدية من قارىء العداد أعطاها لك حينما قابلتيه في الشارع ..
- الآن عرفت سر تقطيع أبوك لتلك الرواية .. كم كنت أعشقها !!
- هل تتذكرين عنوانها ؟
- وكيف أنسى أول رواية قرأتها .. تحت ظلال الزيزفون .. الله يسامح أباك .
- هل تعرفين أنني من وشى بكِ حينما أرسلت له معي بطبق حلوى ومنعتني من تناول حبة منها مع إني أكلت حبتين قبل أن أعطيها له ..
- قبضت عمتي على كفها ووضعته تحت خدها هازة رأسها علامة الأسف .
شعرت بقسوتي تجاهها ..فقلت لها محاولة التخفيف من أثار العنف الذي تركه حديثي معها:
- سامحيني عمتي الحبيبة .. أنتِ من دفعني لفعل كل ذلك حينما رفضتِ اصطحابي معك إلى السينما .. هل تذكرين ؟
- وكيف أنسى وكانت تلك المرة الأخيرة التي أذهب فيها إلى السينما ..
- وقفت بعيدًا عنها كمن يحاول رمي قنبلة ويهرب .. قلت:
- أسمعيني عمتي وبعدها أفعلي بيّ ما تشائين .. أنا من أخبر أبي إنه نزار ابن الجيران وإنك تطلقين عليه لقب قارىء عداد الكهرباء لكي يسمحوا لكِ في البقاء معه بحجة أنه يقرأ العداد .
- هذه لم أكن أعرفها .. فهمت الآن لماذا منعني أبوك من فتح الباب لأي طارق ..
بعد شعوري بالراحة لتصريح عمتي الأخير .. فكرت في جعله يومًا للاعترافات فقلت بسرعة :
- هناك شيء أخير أود إخباركِ به .
عدلت من جلستها وشبكت ذراعيها حول صدرها كأنها تقول ماذا بعد .
- في أحد الأيام وأنا عائدة من المدرسة ناداني قارىء عداد الكهرباء .. أقصد نزار وأعطاني لوح شكولا بالبندق وطلب مني تسليمه لكِ .. لكني وقبل أن أصل باب البيت كنت قد التهمته كله .
لم تستطع عمتي التحلي بالصبر أكثر فنهضت من مكانها صوب باب المنزل ..سألتها:
- عمتي .. إلى أين أنتِ ذاهبة ؟
دون أن تلتف ردت:
- ألم تسمعي الجرس .. سأفتح الباب لعمك نزار .. أقصد قارىء عداد الكهرباء ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى