بسام سفر - رواية "خيوط الانطفاء" للروائي أيمن مارديني بين الطيران والنوم.

تمثّل أسطورة الطيران عند العرب عقدة من العقد الشخصية منذ عباس بن فرناس ومحاولاته الطيران التي كانت نتيجتها موت هذه الشخصية العربية التاريخية، وبما أنّ الطيران بقي لغزاً من ألغاز الكون بكل معانيه، فإنّ الروائي أيمن مارديني في روايته "خيوط الانطفاء"، الصادرة عن دار رياض الريس للكتاب والنشر في العام 2020، يقتحم عالم الطيران عبر شخصيتين في الرواية: "أيمن" الطيار المدني الذي درس الطيران في إحدى جامعات لندن، ويطير وفق قواعد العمل كطيار مدني في رحلات منتظمة، وشخصية "سامي" التي أوجدها عبر الأسطورة وأضاف إليها الأجنحة الزغبية الصغيرة التي تنمو معها لتصبح قادرة على الطيران.

وبما أن الطيران هو مساحة الحرية الذاتية الخاصة بشخصية (سامي الأسطورية)، والتحليق الذاتي لهذه الشخصية في فضاء النص (الروائي - المكاني)، فإنّه يجعل من هذه الشخصية خطاً روائياً محورياً للدلالة على أهمية فضاءات الطيران والحرية.

فضاءات (الطيران - والغرائبية):

يبني الروائي مارديني معماره الروائي بفضاءات مفتوحة غير محدودة تبدأ من منشية البكري، أحد أحياء مصر الجديدة، وتنفتح على الفضاءات القاهرية في قاهرة المعزّ إلى فضاءات الأهرامات المصرية والنيل يفيض الماء منه ويحاصر القلعة التي يعيش بها (أبو سامي وزوجته أم سامي) ذات السبعة أسوار التي بنيت أسوارها من "حجر أصم قاسٍ وصلد أتى به من أقاصي الصعيد خصيصاً لهذا الهدف".

ورغم أسوارها العالية لم تقف في وجه الماء الذي حوطها من كل مكان، فالماء جبل عال، يمتد من سطح الحياة إلى السماء. أمام هبوب الرياح والماء بفعل جناحي سامي الذي (يضرب بهما وجه الماء، يصفعه، يضربه بقوة، يرفرف عالياً بجناحيه).

هذه الفضاءات الغرائبية والعجائبية عمل من خلالها على أسطرة شخصية سامي ذات الجناحين الذين يطير بهما في سماء أحياء القاهرة، بالإضافة إليها عزز حسية الحياة، بشخصية إسماعيل ابن الجزار ذي البنية الجسدية الهزيلة، لكنه يضع فيها شبق الذكورة المشرقية، والذي تزوج من امرأة سمراء طويلة هضيمة الجسم، من السودان، يشتري الأبقار والخراف الأرخص من القاهرة، إلا أن إسماعيل امتلأ جسده بالوشم، واكتسى شعره باللون الأحمر من فعل الحناء السودانية، وكان مدمناً على ممارسة الجنس بشراهة "كانت أصوات زوجته المتأوّهة من الشهوة طوال الليل والنهار تصل إلى البيوت المجاورة، متجاوزة حيطان بيتهم وغرفتهم وسريرهم الحديدي الذي كان صوت هزهزاته يصل إليهم أيضاً".

فالأجواء الغرائبية والعجائبية لبعض الشخصيات تتعزز من خلال شخصية الشيخ المبروك، حيث تذهب إليه أم سامي مع زوجها "اخرج يا شيخ وأقم الصلاة، هو موعدها، سنلحق بك. لم تغادر يده كف يدها، ولم تتلاقَ نظرتي ونظرات أم ورد. غادرت الغرفة، وتركتهما. كانت صرخة طويلة هذه المرة.. على أثرها ازدادت حركات القطط وقفزها، كانت تموء مواءً عالياً، والثعابين بدأت تخرج زاحفة من أقفاصها، وخيالات الطيور تزداد على الحيطان".

بعيداً عن الغرائبية في الشخصيات، نجد أن هناك معادلاً موضوعياً واقعياً في الرواية عبر فضاءات الطيران الطبيعي بشخصية الكابتن أيمن في أكثر من سفرة منها "سفرتان طويلتان، واحدة منها إلى مومباي، والأخرى إلى سيدني"، ويصف أحد الذكريات قائلاً: "وأنا أرتفع بالطائرة المتجهة من لندن إلى القاهرة، في رحلة طرأت على جدول رحلاتي، لم تكن في الحسبان. إذ اعتذر الكابتن قبل إقلاع الطائرة من لندن بحوالي أربع ساعات لمرض طارئ، وكان اسمي في هذا اليوم مدرجاً على الجدول كاحتياط. كانت رحلتي إلى القاهرة عاصمة الحكايات والذكريات، وأنا من فوق أرضها، في سمائها، سماء القاهرة أرى تفاصيلها، وكيف تتولى أمامي مرة ثانية على لسان الخال، وأنا ونانو نستمع إليه".

هذا التقابل بين عوالم الشخصية الأسطورية "سامي" بعجائبيتها وغرائبيتها وطيرانها وحريتها المنفتحة على فضاءات مصر وأساطيرها، وبين عالم طيران أيمن المنفتح على فضاءات العالم في كل عواصمه وبلدانه، يرسم فضاءات رواية خيوط الانطفاء.

أسطورة الموت - العودة إلى الحياة:

تحفل الحضارات القديمة بأكثر من أسطورة، منها الرافدية عشتار وتموز، والفرعونية إيزيس وأوزوريس، وهي من أكثر أساطير الموت والانبعاث تردداً في المنجز الروائي العربي الأساطيري، كما رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي "الأنهار" في العام 1974، ورواية فاضل الربيعي "ممرات الصمت"، ورواية هاني الراهب "التلال" من العام 1988، ورواية حليم بركات "إنانة والنهر" في العام 1995، بينما أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية في رواية عبد الحميد جودة السحار "أحمد بطل الاستقلال" في العام 1943، ورواية عبد المنعم عمرو "إيزيس وأوزوريس"، ورواية حسن محسب "رغبات ملتهبة" في العام 1981، ورواية بهاء الطاهر "قالت ضحى" في العام 1985.

ويعيد الروائي السوري أيمن مارديني الاعتماد على هذه الأسطورة وتطويرها من الموت إلى النوم في شخصية سامي من العائلة المسحورة، والخال في الرواية يقص حكايات الأبطال الذين يموتون قبل ولادتهم، ويولدون بعد وفاتهم، إلا أنهم يحيون الموتى، إذ يقول: "هو الخال وحزنه المقيم بعد نوم ولده صغيراً. كان اسمه سامي، وكان يطير. صرخ يوم غيابه أن نقلوا له النبأ الأليم: كيف أخذك مني النوم، والدار مسيجة والكلب عند الباب. أجل هو الكلب نام، وفي الأصل كان لحراسته وحمايته. نام بعد أن تعب من استيقاظ من ناموا سنين طوالاً ومر الزمن عليه وعليهم. لكن النوم قد جاء مبكراً وكسر شراعي، غافل الكلب، وسرق سامي من الكهف، سرقه مني".

ويعمّق الروائي مارديني شخصية سامي من خلال ما ذكرته والدته عنه، قائلة: "كل الأطفال يأتون إلى الحياة من الرحم، كلهم، إلا سامي تناسل من الروح، تترك وراءك إلا دودة من الحبال مرتمية على الأرض، وفي الأعلى كانت تحلق في سماء الغرفة غيمة بيضاء".

ويعزّز حالة سامي الحسية عند موت أبي سامي قبل ولادة ابنه، وأم سامي مرضت بعد ولادته، وسرقها الموت من فعل فاضح. لم تصافح عيناه عيني أمه عند رضاعته، وألقي به إلى أيدي مرضعات موفورات الصحة ممتلئات بالحليب. ليطير سامي -في زمن آخر- بعيداً عن أهله وبيته وأرض مصر إلى بلاد أخرى بعيدة. ليقولوا عنها في الزمن الآخر: الهجرة الكبيرة.

ويتساءل الروائي مارديني: ترى النائمون يواصلون البقاء في عقول الأحياء، أم أنهم يتلاشون تماماً، بمجرد نومهم، أم سقوطهم في غياهب النوم؟

ويصف ما يجري مع الأرواح "هي روح من نام تنقسم، تتشظّى، تستنسخ، أو تتقمص في آخرين على قيد الحياة، أو آخر. هي في طفل يتذكر شيئاً، حياة أخرى، أو حيوان ربما بري أو أليف، ورقة شجرة خضراء وارفة، نهر يجري أو راكد عفن، بحر، جبل. ليس من سرقة النوم بميت، هي روحه تبتعث مرة أخرى في أثناء نومه في آخرين".

لا يستلهم الروائي مارديني أسطورة الانبعاث كما في روايات الأساطير، وإنما يجعل بدل الموت، النوم، ويعطي الأسطورة عمقاً إنسانياً جديداً عبر شخصية سامي الطفل والمراهق، وبقية الأرواح التي على حالها، وإنما تتحول إلى أوضاع جديدة في الحالة الإنسانية المقصودة. لكنه يبقي فضاءات العلم والحياة مفتوحة، إذ إن عدداً من الشخصيات "أيمن، نانو، وأنس" هي شخصيات ذات اختصاصات علمية درست الطب والطيران، وهي شخصيات واقعية مصرية تعيش الحياة كما هي من زواج وحب وعمل، والتدخل بين الواقعي والأسطوري الغرائبي في الرواية جزء أساسي من العمار الروائي عند الكاتب والروائي أيمن مارديني.

بسام سفر

ليفانت - بسام سفر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى