“أيوا الملك والوزير، مِش مصدّق؟”
لا يعنيني أن أُصدّق أو لا أُصدّق، إنما ليس بي طاقة لسماع حكاية معجونة من أزمنة بعيدة، على لسان رجل لا أعرفه، وبالصدفة وحدها يتقدّمني في الطابور.
لا يزال مُلتفتا تجاهي. أطوف بتفاصيل وجهه الأسمر المسحوب، وعلى الفور أربط ملامحه الطيبة بملامح عبدالوارث عَسَر.
“الملك والوزير؟ ياااه!”
“اصبر بَس على رِزقك. الملك والموكب اللي معاه وقفوا قُدام صيّاد بيرمي شَبكته في نهر، وبعدين مال الملك عليه وسأله: إزاي تلاتة ياكْلُو تسعة؟ رَدّ الصياد بسرعة وقال: العيال كتيرة”.
لويتُ رأسي للوراء.
طابور طويل لا يكاد يتزحزح، وحَرّ وعرَق وأنفاس مخنوقة، ويأتي هو ويزيد كلامه الغريب. أوشكتُ أن أُوقفه قبل أن يُواصل. تنهدتُّ، ورغم كل شيء تمسّكتُ بالهدوء:
“يا حاج بالراحة، يعني إيه الكلام دا؟ يعني إيه تلاتة ياكْلُو تسعة؟”
“قُلت لك اصبر، شكلك تربية مدارس ومُخك نضيف. المُهم إن الملك قام سائل الصياد لُغز تاني: أخبار البعيد إيه؟ والراجل ردّ زي أول مرّة: البعيد بقَىَ قَرِيب”.
اتسعت عيناي. سكتُّ كاظِما ضيقي، مُترقبا المزيد من الألغاز والرُّدود:
“وإيه أخبار الاتنين؟”
“بَقُو تَلاتَة”.
“والجماعة؟”
“اتفَرّقُو”.
تحرَّكَ الطابور نصف خطوة.
ظلّ وجهه مُثبَّتا عليَّ، حتى بعدما رَنَّ تليفونه، وراح يتكلّم بصوت عال ويعتذر بأنه واقف في طابور. لاحظتُ اختلاجات عصبية حول عينيه، كأنه يغمز بشكل لا إرادي. خطر ببالي أنه عفريت، وأنني الوحيد الذي أراه وأسمعه. أبعدتُ جو “ألف ليلة وليلة” عن دماغي. دارَ ذهني يُقلّب الحكاية بانتباه، خمّنتُ أن الوزير وباقي الحاشية لا يفهمون شيئا مثلي:
“خلصت الألغاز؟ إيه بقَى معناها؟”
“والله نفكّر، وأنا وانتَ على الله”.
“نعم؟!”
فَردَ كفّيه، ومَطَّ شفتيه.
يا الله، إنه لا يعرف، ويطلب مني المعونة! انفلتت مني ضحكة حادة سريعة لم أستطع حجزها، بعدها نزلَ عليّ تسامُح مفاجئ.. هذا رجل يجد مزاجه في الحكايات وهات وخُذ في الكلام، والطابور لا يزال طويلا، والزّحمة والخَنقة لا تُطاق، فلماذا أزوّدها على نفسي وعليه؟
“مَتيجي الأول نشوف، هو الصياد إزاي كان عارف كل الألغاز؟”
“يمكن عشان اتْعلّم واتْمَرمَط في الدّنيا الواسعة”.
“ماشي، نبدأ بالتلاتة اللي ياكلُو تسعة”.
“جايز تلات سنين مجاعة هَيَاكلُو خير تسع سنين قبلهم، شَبه الرؤيا اللي فسّرها سيّدنا يوسف؟”
“والله مُمكن، لأن الصياد رد وقال: العيال كتيرة، يعني عاوزين هَم ومصاريف، ولو جاعُو مُمكن حتى ياكلُو ورق المُصحف!”.
“وممكن يكون معناها تلات شهور وبقيّة السنة تسعة، لأن السنة اتناشر شهر، لكن يعني إيه تلات شهور يبلعُو تسعة؟”.
“جايز تلات شهور شُغل والتسعة من غير شُغل؟”
“لا لا، أنا شايف العكس: تلاتة من غير شُغل والتسعة فيها شُغل، والتلاتة يبلعو تحويشة التسعة”.
“أيوا فعلا”.
نظرتُ إليه نظرات رضا، التمعَت عيوننا. واصَلَ بنفس الحماس:
“طيب، والبعيد اللي بَقَى قريب؟”
“مثلا حاجة كُنت بِتحلم بيها وكانت بعيدة، وبقَتْ قَريبة وهَتِتحَقّق”.
“وربما خير أو شر كان بعيد عننا وبقى قريب”
“أو العُمر اللي كان طويل، وانتَ شايف الموت بعيييد، ومِش حاسِس إنه بيقَرّب”.
في لمحة، لاحت أمامي صور البعيد والقريب. أشياء كانت بعيدة واقتربت، بل ومضى زمانها: فُصول وسنوات ومراحل من العمر بكل ما فيها. أشياء أخرى من فَرط قُربها لم أُحس أنها شيئا فشيئا تبتعد وتبهت ظلالها.
“والاتنين اللي بقُو تلاتة، دُول إيه؟”
“والله احتمال قصده إن رِجليه لمّا يمشي بالعصايا يبقُو تلات رِجلين”.
“آه مُمكن، بس دا معاك وانتَ في سِنّك دلوقت يا حاج، ارجع ورا شوية زمان، وافتكر رِجلك التالتة دي كانت إية!”
“ههههههه، مقبولة منك، ماشي”.
لوحتُ بِكَفّي، فتَلقَّاها بصخَب ضاحك.
“فاضِل: الجماعة اللي اتفَرّقُو”.
“دي ربما تكون سهلة شويّة، كل حاجة بتبدأ لَمّة وجماعة، وبعدين تِتفرّق”.
“صحيح”.
تقدّمَ الطابور خطوتين.
وبعد شَدّ آخر خيط في بَكَرة الحكاية؛ تبادلتُ مع الحاج نظرات الأُلفَة والوَنَس.
وقفَ مُعلِّقا بصره على الشّباك، وأنا من خلفه أنظر في قفاه، وفي أَقْفِيَة الواقفين أمامنا، وُصولا إلى وجه المُوظف المُنهمِك في إمضاء وختم الأوراق الممدودة إليه.
لا يعنيني أن أُصدّق أو لا أُصدّق، إنما ليس بي طاقة لسماع حكاية معجونة من أزمنة بعيدة، على لسان رجل لا أعرفه، وبالصدفة وحدها يتقدّمني في الطابور.
لا يزال مُلتفتا تجاهي. أطوف بتفاصيل وجهه الأسمر المسحوب، وعلى الفور أربط ملامحه الطيبة بملامح عبدالوارث عَسَر.
“الملك والوزير؟ ياااه!”
“اصبر بَس على رِزقك. الملك والموكب اللي معاه وقفوا قُدام صيّاد بيرمي شَبكته في نهر، وبعدين مال الملك عليه وسأله: إزاي تلاتة ياكْلُو تسعة؟ رَدّ الصياد بسرعة وقال: العيال كتيرة”.
لويتُ رأسي للوراء.
طابور طويل لا يكاد يتزحزح، وحَرّ وعرَق وأنفاس مخنوقة، ويأتي هو ويزيد كلامه الغريب. أوشكتُ أن أُوقفه قبل أن يُواصل. تنهدتُّ، ورغم كل شيء تمسّكتُ بالهدوء:
“يا حاج بالراحة، يعني إيه الكلام دا؟ يعني إيه تلاتة ياكْلُو تسعة؟”
“قُلت لك اصبر، شكلك تربية مدارس ومُخك نضيف. المُهم إن الملك قام سائل الصياد لُغز تاني: أخبار البعيد إيه؟ والراجل ردّ زي أول مرّة: البعيد بقَىَ قَرِيب”.
اتسعت عيناي. سكتُّ كاظِما ضيقي، مُترقبا المزيد من الألغاز والرُّدود:
“وإيه أخبار الاتنين؟”
“بَقُو تَلاتَة”.
“والجماعة؟”
“اتفَرّقُو”.
تحرَّكَ الطابور نصف خطوة.
ظلّ وجهه مُثبَّتا عليَّ، حتى بعدما رَنَّ تليفونه، وراح يتكلّم بصوت عال ويعتذر بأنه واقف في طابور. لاحظتُ اختلاجات عصبية حول عينيه، كأنه يغمز بشكل لا إرادي. خطر ببالي أنه عفريت، وأنني الوحيد الذي أراه وأسمعه. أبعدتُ جو “ألف ليلة وليلة” عن دماغي. دارَ ذهني يُقلّب الحكاية بانتباه، خمّنتُ أن الوزير وباقي الحاشية لا يفهمون شيئا مثلي:
“خلصت الألغاز؟ إيه بقَى معناها؟”
“والله نفكّر، وأنا وانتَ على الله”.
“نعم؟!”
فَردَ كفّيه، ومَطَّ شفتيه.
يا الله، إنه لا يعرف، ويطلب مني المعونة! انفلتت مني ضحكة حادة سريعة لم أستطع حجزها، بعدها نزلَ عليّ تسامُح مفاجئ.. هذا رجل يجد مزاجه في الحكايات وهات وخُذ في الكلام، والطابور لا يزال طويلا، والزّحمة والخَنقة لا تُطاق، فلماذا أزوّدها على نفسي وعليه؟
“مَتيجي الأول نشوف، هو الصياد إزاي كان عارف كل الألغاز؟”
“يمكن عشان اتْعلّم واتْمَرمَط في الدّنيا الواسعة”.
“ماشي، نبدأ بالتلاتة اللي ياكلُو تسعة”.
“جايز تلات سنين مجاعة هَيَاكلُو خير تسع سنين قبلهم، شَبه الرؤيا اللي فسّرها سيّدنا يوسف؟”
“والله مُمكن، لأن الصياد رد وقال: العيال كتيرة، يعني عاوزين هَم ومصاريف، ولو جاعُو مُمكن حتى ياكلُو ورق المُصحف!”.
“وممكن يكون معناها تلات شهور وبقيّة السنة تسعة، لأن السنة اتناشر شهر، لكن يعني إيه تلات شهور يبلعُو تسعة؟”.
“جايز تلات شهور شُغل والتسعة من غير شُغل؟”
“لا لا، أنا شايف العكس: تلاتة من غير شُغل والتسعة فيها شُغل، والتلاتة يبلعو تحويشة التسعة”.
“أيوا فعلا”.
نظرتُ إليه نظرات رضا، التمعَت عيوننا. واصَلَ بنفس الحماس:
“طيب، والبعيد اللي بَقَى قريب؟”
“مثلا حاجة كُنت بِتحلم بيها وكانت بعيدة، وبقَتْ قَريبة وهَتِتحَقّق”.
“وربما خير أو شر كان بعيد عننا وبقى قريب”
“أو العُمر اللي كان طويل، وانتَ شايف الموت بعيييد، ومِش حاسِس إنه بيقَرّب”.
في لمحة، لاحت أمامي صور البعيد والقريب. أشياء كانت بعيدة واقتربت، بل ومضى زمانها: فُصول وسنوات ومراحل من العمر بكل ما فيها. أشياء أخرى من فَرط قُربها لم أُحس أنها شيئا فشيئا تبتعد وتبهت ظلالها.
“والاتنين اللي بقُو تلاتة، دُول إيه؟”
“والله احتمال قصده إن رِجليه لمّا يمشي بالعصايا يبقُو تلات رِجلين”.
“آه مُمكن، بس دا معاك وانتَ في سِنّك دلوقت يا حاج، ارجع ورا شوية زمان، وافتكر رِجلك التالتة دي كانت إية!”
“ههههههه، مقبولة منك، ماشي”.
لوحتُ بِكَفّي، فتَلقَّاها بصخَب ضاحك.
“فاضِل: الجماعة اللي اتفَرّقُو”.
“دي ربما تكون سهلة شويّة، كل حاجة بتبدأ لَمّة وجماعة، وبعدين تِتفرّق”.
“صحيح”.
تقدّمَ الطابور خطوتين.
وبعد شَدّ آخر خيط في بَكَرة الحكاية؛ تبادلتُ مع الحاج نظرات الأُلفَة والوَنَس.
وقفَ مُعلِّقا بصره على الشّباك، وأنا من خلفه أنظر في قفاه، وفي أَقْفِيَة الواقفين أمامنا، وُصولا إلى وجه المُوظف المُنهمِك في إمضاء وختم الأوراق الممدودة إليه.
وجه الحكاية وقفاها. قصة: حسام المقدم
… “أيوا الملك والوزير، مِش مصدّق؟” لا يعنيني أن أُصدّق أو لا أُصدّق، …
sadazakera.wordpress.com