كرم الصباغ - خرائط لينة.. قصة

على حافة رصيف بارد أقف ساهما، أنتظر قطارا، سوف يقلني إلى مدينة، لم أزرها من قبل، لكنني اعتدت رؤيتها، كلما أغمضت عيني، و أسدلت الستار على ما حولي. هي حيلة مجربة، ألجأ إليها، حينما أصبح عاجزا عن التنفس. أغمض عيني، و أسترخي رغم ما بي من توتر، و بعد لحظات أطأ أرضا غير الأرض، و أرى وجوها غير الوجوه.
احتاج الأمر في البداية إلى كثير من المكابدة، لكنني بعد محاولات عديدة أصبحت أجيد الفرار إليها، أتجول بحرية بين شوارعها الواسعة، و أستريح في ميادينها الدائرية الرحبة. أنظر بصدر منشرح إلى نوافير تستحم بالنور و الماء، و إلى طيور ملونة، تحط على تماثيل مرمرية، و إلى أطفال فوق أراجيحهم انهمكوا في اللهو حتى النخاع. كل شيء هناك مهيأ للبهجة، الأطفال يركضون بفرح فوق عشب لين، لا يشوكهم شوك أو كدر. المارة تشع من أعينهم الطيبة، يتبادلون الابتسامات و التحايا بود و رفق. السماء صافية، و النسمات طرية، و رائحة العطور تنتشر في الجو، و الأغاني تنداح من كل مكان، و الموسيقيون يعزفون على آلات وترية، و أخرى نحاسية بحماس منقطع النظير؛ فينسكب النغم من بين أصابعهم، و تخرج الألحان طازجة من بين شفاههم. أتجول دون كلل أو ملل، أقابل روحي هناك، و لا أرغب في العودة مطلقا.
(٢)
عادة ما يسيء الاختيار؛ فيتحين الأوقات الحالكة؛ ليزيد من وتيرة طنينه الغليظ. لكلماته آثار موجعة، تشبه انغراس الشوك في لحم حي. كم أضيق بذلك الصوت، الذي استوطن أعماقي كقوة محتلة غاشمة، لا ترق لموجوع! يراني مستغرقا في شرودي؛ فيصدر طنينه بسماجة مفرطة، و ينتزعني من قلب مدينتي، و يقذفني بغلظة كما يقذف الشيء؛ أجدني في غرفتي، أحدق في مرآة منطفئة البريق، لا أرى فيها نفسي على الإطلاق، بل أرى بنتا منكمشة في شارع مظلم بجوار بناية قديمة، تفترش الأرض، يرتعد جسدها من شدة البرد، بحوارها كيس أسود ممتلئ بعلب المناديل. ما إن يحرك الهواء ورقة شجر، حتى تنتفض بذعر. تفسد ليلتي، و الأوراق أمامي ضجت بالرسوم، البنت في وسط الصفحة تستغيث، و الخطوط الحلزونية ثعابين تحيط بها. الرماد يملأ المنفضة، و السجائر لا تنطفئ بين أصابعي. أعمد إلى فراشي في النهاية، و أستجدي النوم بعد طول أرق؛ لعلي أظفر برؤيا، تخلصني من هذا الكابوس القابض على روحي.
(٣)
في المرة الأولى كان اللقاء عابرا. وجدتها أمامي مباشرة، ناولتها جنيهات قليلة، و رفضت أن أحصل على أي من علب المناديل في المقابل. رأيت الفرحة، تملأ وجهها؛ فابتسمت، و مضيت في طريقي. في المرة الثانية، لم تتفوه بأية كلمة؛ إذ كان ثغرها متيبسا كالجبس. كانت مشبعة بالزرقة، و كان الذباب ملتصقا بوجهها المخموش، و كان جسدها ممددا على الأسفلت. أطلت امرأة من شرفتها، و ألقت بغطاء إلى المارة، الذين تجمعوا حول الجثة الهامدة، و سرعان ما سجاها أحدهم بملاءة صفراء بالية، ملأتها الثقوب.
(٤)
لم يعد التأجيل مجديا بالمرة. قلت في نفسي: سأقتحم المحطة المهجورة، و ليكن ما يكون؛ صرخ الصوت داخلي، و قال بامتعاض: هل ستجرني خلفك كما تجر الخراف؟! لو نظرت أسفل قدميك لرأيت ما أرى. أطرقت، و رحت أجول ببصري في أرض الغرفة؛ فرأيته أسفل قدمي متكورا، متغضن الجلد، تفوح منه رائحة منتنة، يحدق في وجهي بمقت و عداء؛ فرمقته بنفور و اشمئزاز.
(٥)
تساءل الصوت بدهشة: متى تبرأ من هذا الجنون؟! لا وجود لمدينتك المزعومة على الإطلاق. فوق مكتبي مجسم للكرة الأرضية، يحلو لي أن أحرك كرته بسبابتي، عندما أكون معتدل المزاج.
قال الصوت بتحد: ها هو المجسم أمامك، هيا اقطع شكي بإشارة واحدة إلى مدينتك. راحت الكرة تدور، و راح إصبعي يتنقل على غير هدى، ما إن أضعه على موضع، حتى أحيد عنه، و أشير إلى موضع آخر. و بينما أنا في حيرتي، و تخبطي، انفجر الصوت بالضحك. سمعت سخريته اللاذعة، سمعته يقهقه بزهو المنتصر؛ فقبضت يدي العاجزة، و أجهشت بالبكاء.
(٦)
ما كان الصوت ليصدق رؤياي، ما كان ليصدق أنني رأيت قطارا مزينا بالشرائط الملونة، و البالونات، و الزهور، يشق النفق المعتم المفضي إلى المحطة المهجورة، التي تقع بالقرب من منزلي النائي عن خطو المارة. أبصرني سائقه أقف على رصيف المحطة البارد، و أبصر بجواري حشدا من الأطفال المسافرين؛ فأطل برأسه من قمرة القيادة، و أشار إلينا جميعا أن اركبوا، و قال مبتسما: لا تقلقوا، سيصل القطار إلى مدينتكم المنشودة في الوقت المحدد دونما تأخير.
(٧)
رحت أهذي من أثر الحمى، قال الصوت بشماتة: أصابتك لعنة. صرخت: كم أشتهي أن أعتق من هذا البلاء! قال بسخرية: و ما ذاك؟! قلت: طنينك المتصل. قال: يا أحمق، ألم تعلم بعد أن المحطة التي تقع في الجوار يسكنها الجن و العفاريت، و أن سائقك المزعوم مجرد فقاعة هواء، و أن هذا المسخ المتكور أسفل قدميك ما هو إلا شيطان مسلط عليك؟!
(٨)
لم تفارقني الحمى لمدة ثلاث ليال، و لم تفارقني صورة البنت. لقد استبدت بليلي؛ و مناماتي؛ فحرمت من رؤيا المحطة و القطار ليلا، و حرمت من زيارة مدينتي آناء النهار. أغمضت عيني مرارا و تكرارا؛ فاكتشفت أن حيلتي المجربة ما عادت تجدي؛ توجست خيفة، و اعتقدت أن ثمة رسالة خفية، كتبت بين السطور، تنهاني عن التوجه إلى المحطة المهجورة.
البنت ندية كوردة، صغيرة ذات وجه ملائكي، عجز تراب الشوارع عن إخفاء قسماتها و ملامحها الجميلة. تقف بجوار سور إحدى البنايات القديمة، حيث يضج الشارع بالمارة. تمد علبة مناديل ورقية إلى كل عابر. تصد الأيدي المتعجلة يدها؛ فترتسم على وجهها علامات الأسى للحظات، و لكنها تعيد المحاولة؛ فتطير فرحا بالجنيه المعدني، الذي دسه أحدهم في كفها.
أتقلب؛ يتحول الحلم إلى كابوس؛ أضجع على شوك؛ فأرى نساء باكيات، و رجالا يحيطون بصندوق قمامة، يمد أحدهم يديه؛ فيتراجع الآخرون إلى الوراء، واضعين أيديهم على أنوفهم؛ اتقاء لبشاعة الرائحة. يجذب الرجل جثمان البنت من وسط الأكياس السوداء؛ رأيت ملابسها ممزقة، و رأيت خيطين من الدم يلطخان حجرها و فخذيها، و لمحته يطل من نافذة البناية بوجه متغضن مصفر، كان متوجسا، ينظر إلى جثمان البنت المسجى بعينين مرتبكتين. إنه يشبه تماما هذا المسخ المتكور أسفل قدمي.
(٩)
ثمة خنجر يغرس في صدري؛ فأنتبه مفزوعا، و أزيح عن جسدي الغطاء، لا ألتفت إلى الصوت الذي تعالى صراخه، أفتح باب المنزل، أركض صوب محطة القطار المهجورة، أتجاوز مدخلها، و أغوص في الظلام الدامس؛ فتحاصرني روائح كريهة، و قوارض تسعى في جميع الاتجاهات. أصعد درجات السلم بسرعة، متعجلا الوصول إلى الجهة المقابلة، حيث يوجد رصيف الانتظار. أسعل بشدة، و الصوت داخلي لا يزال يطلق صرخاته، لكنني لا أصغي إليه بالمرة، و أبدأ في هبوط الدرج الحجري. ألامس الرصيف؛ فتصيبني القشعريرة، و أسمع الصوت يحذرني بنبرة مسعورة؛ فيتملكني الرعب، و أهم بالرجوع، لكنني أتماسك، و أقف مكاني، و أدقق النظر؛ فأبصر رقعة ضئيلة مضاءة، تقع في نهاية الرصيف، ألتفت يمينا؛ فأرى شباكا مفتوحا، تقف أمامه بنت صغيرة، تمد يدها إلى أحدهم، و تلتقط التذكرة، و تستدير، و ما إن تقع عيني عليها، حتى أصعق مكاني؛ إذ كانت أمامي بشحمها و لحمها، تقبل على بوجهها، و لكنها هذه المرة تبدو مغتسلة مشرقة المحيا، ترتسم على ثغرها ابتسامة حانية، تنتشلني من ذعري. تأخذ بيدي، و نتوجه بتؤدة إلى رقعة الضوء؛ فتسري في قلبي الطمأنينة، و يخفت الصوت داخلي، شيئا، فشيئا، حتى يخرس الصراخ و الطنين تماما. تومئ برأسها؛ فأرى الرصيف يضج ببنات يحملن علب المناديل و عقود الفل، و صبيان يحملون علب اللبان و أطواق الياسمين. أصافح الجميع، و ما إن تمر لحظات قصيرة، حتى تغمر الأضواء الساطعة جنبات المحطة بشكل مباغت، أحملق في النور؛ فأرى القطار مقبلا. أتفحص بعينين مشدوهتين وجه السائق، و العربات المزينة، و أسمع صيحات الفرح، تنطلق من حناجر الاطفال، و نتهيأ جميعا لبدء رحلة طويلة إلى مدينة، ظهرت للتو على مجسمات الأرض، و أطالس الجغرافيا، و خرائط أخرى لينة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى