السعيد عبدالغني - المصح

المصح مكون من الكثير من الغرف، ولكنها باهتة مليئة بالرسوم وختوم الدم بالأيادي، وبطاقة الشر والسر والغرابة.

الغرف مليئة بالأقفال القوية كأنها الجحيم أو أرض وحوش و شياطين.

يحوي المصح الكثير في المرضى من أنواع مختلِفة من الأمراض النفسية والعصبية. هذا أول يوم لي هناك بعد محاولة انتحار انتقلت بعدها للمشفى وحولوني إلى المصح.

لم أعي شيئا بعد حز شرياني، إلا بعض الدم المنساب على الأرض وبعض الصراخ المؤلِم. وبعض الجمل المتردِدة في أذني منذ كنت صغيرا لأمي.

عائلتي لا تؤمن بكل هذا، لكن أجبرهم عدم الشفاء بشتى المحاولات الخرافية من الشيوخ للرُقى، لطرد الجن وحتى الاتكاء إلى القساوسة.

تم التصنيف بالاكتئاب الحاد بدرجة عالية والعنف الشديد والذُهان، بعض وقت طويل من الغرابة والتقزز من كل شيء.

ودفع كل أنواع العلاقات والعنف ضد ذاتي. لم يكن سِوى الانتحار فِعلا ليس حلا للتخلص من الألم.

لم يعرف أهلي ذلك لقلة علمهم بالأمراض النفسية وعدم اعتقادهم فيها.

وربما هذا قلل من علاجي فأنا أيضا أبتعد عن ذلك لهوسي بذاتي والقوة النفسية التي لا تُضَاهى.

مربوطا في السرير عندما فقت في غرفة غريبة ولازدياد الطاقة للأنا وتضخمها، لم أكن أقبل الخضوع أبدا ولا الطاعة ولا الاستمرار في أي نظام ممكن.

ظللت أنظر للسقف بعد محاولات كثيرة لا تنتهي للترجرج على السرير وهز جسدي للخروج من القيود أعقَبها صراخا ولكني لم أقصد به أي نداء ممكن لأي أحد.

كنت أقصد به الرفض، جرح الذات وقدرتها الهلامية، صوابية مفهوم الحرية المطلقة.

لم أعد أستطيع الاستمرار في الجلوس وحدي بعد التأمل لأيام كثيرة هدأت فيها أو أقنعت ذاتي بالدخول للنظام الجديد كمُداراة لعجزي عن الخروج، هذا العقل يُوهم بالكثير للحماية من العجز والانتحار ثانية.

أنوي بالفعل قطع شرياني ثانية بعد أن يفكوني، لا أريد أي شيء في حياتي بعد، أنا رماد ملتحم بدم وعظم خائخ.

حتى وأنا مقيد أرفض البكاء، أرفض التذكر للجماليات السابقة، وعندما أتذكر حضن أبي وأمي كنت أصرخ وأضرب رأسي في السرير القطني.

هدأت بعدها بأيام وبدأوا يتحدثوا معي قليلا قليلا.

أتحدث بنية خبيثة للخروج فقط، وعيني أرى فيها جثتي محترقة أحايين كثيرة، أو صَلبي على السماوات أو وجهي معلق في الأفق بعيد بمنظور عميق مذبوح.

جاءت طبيبة تقف خارج الغرفة من قبل وتتحدث من خلال الميكروفون لكنها بدأت الدخول عندما قلت لها: لا تخافي، لا أؤذي إلا ذاتي، أريد رؤية أشخاص، أريد أن أحسهم.

تلاحقني عين غريبة لليالي، قابلتها في الشارع أو تلاقينا في باص ولم تعد هناك شوارع ولم يعد هناك باص.

وترتبط العين بنغمة، وهذه نعمة الحزن على وجودي، ملاحظات دقيقة لزوايا خبيئة. ادخلي لا أؤذي إلا ذاتي.

تدخل خائفة و أقل صوت يُربِكها.

عَبرت من الخارج شاحنة كبيرة وأصدرت صوتا رهيبا، ارتبكت وكادت تقع أو تصرخ.

جميلة، وينز منها براءة رغم هذا المستنقَع الملىء بأمثالي.

لا أعرف كيف تحتمل هذا البؤس، لم أرى بعد أي من النزلاء غيري بشكل قريب وواضح إلا مرة عبر من أمامي أحدهم ووجه نحوي يده كمسدس بثني أصابعه.

قالت بصوت متلعِثم خائف رغم أني مربوط: كيف حالك اليوم؟

قلت لها برقة رغم أني لا أؤمن سوى بالصراخ كمتكلَم: لا أعلم، كنت لاأدريا دوما في حالي، أو لا أعرف تحديده

قالت وهي تنظر لعيني مشفِقة: لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام

قلت بعنف لكني تداركت في آخر الجملة: هذه الكلمات لا تعني لي شيئا لكنها مطمئنة قليلا.

صرحت بحماس: لا تبتئس، كل شيء بيدك.

فرديت ببرود: أتمنى أن تكون.

وصمت قليلا وأردفت: متى أخرج؟ ولو حتى للجلوس معهم؟

فعبّرت بموَرابة: عندما تكون مستعدا.

واستفهمت بحزن: ومتى أكون مستعدا؟

فسردت: ستشعر بذلك وحدك، وأشعر به بعد ذلك، الصبر فقط، ما مررت به ليس سهلا.

وهَمّت بالقيام مع حركة بسيطة: آخر الجلسات غدا، لا يجب أن أخبرك لكن بعدها سنقرر متى تخرج للجلوس معهم وبعدها نهائيا.

جاوبتها بعيني المُثقَلة وجفوني المرخية. قلبي كان مشدوها أو زاهدا والأنا المتضخمة خفتت، وظهر قلبي، وتجلياته وإنتاجه النفسي في عيني.

الكهرباء كحيات تمشي مشرئبة تحت جلدي حتى تصل لرأسي، تنفث سمها وتتركني بلا مشاعر ولا أفكار ولا أي شيء.

إنها عملية إفراغية لكياني كله، ما الذي أقاومه في الاكتئاب؟

لا أعلم. إنه شيئا أكبر مني وأكبر من قدرتي وأكبر من قدرة الحنان والطفولة والمحبة...

الألم أحيانا يظن في صاحبه نرجسية، كما يظن أهلي فيّ، لكن الأمر ليس نرجسية بالمفهوم العادي.

الأمر في الألم أنه يُكرِّه الذات في كل شيء فتنقد كل شيء والنقد من علاماته السائدة وجود جمال أو عمق فهم لكنه هو يُدنس ذاته والكل.

في الحقيقة لم أكن أؤمن بقيمة شيء، وكنت أتصارع مع كل شيء لذلك. وتهزني القيم التي تخرج أمامي وأشعر بقيمتها، تُربكني، أني لازلت حيا.

لم أكن أؤول الأمر بأي شيء ميتافيزقي لكنه من ضخامته يُخيّل لي أحيانا خرافيته، لأني عاجز تماما.



خرجت للجلوس معهم أخيرا، كانوا مرهقين بشكل كبير، جلودهم مسحوبة كأنها مكوِية. عيونهم مضطربة ، البؤبؤ يتحرك بلا نظام ولا تركيز. وإن ركزوا يصير هوسا بما يركِزون فيه.

العنبر مليء برجال الأمن مرتبين وكنت أشعر بضيقهم الشديد من ذلك. من خلال النظر لرجال الأمن الذي كان واحدا فيهم يرتعش جدا، يبدو أنه جديدا هنا.

ركزت مع امرأة كانت تمشي جيئة وذهابا في متر مربع، ولا تمِل، عددت في رأسي ثلاثة وعشرون مرة فعلتها. التكرار عملية ذهانية، هوس كما فكرة الانتحار في رأسي ورغبتي في رؤية رأسي مهشمة وغواية أي سكين أمامي.

وتذكرت عندها مدحي ومدح الأصدقاء في الجنون والمصحات ونحن لا نعرِف عنه شيئا ولا يُمكِن أن أدرك طبيعة أي رأس مما حولي. وظللت أفكر في ذلك كوني لم أتماشى معه وأجاريه. أي خُوار هو العقل إن رأى خارجه يهرع له، وإن كسر الحدود له لن يعود ثانية.

شعرت أنهم جميعا يقولون" لا أريدك أن تراني جميلا ولا أن تراني بلا أي تعالق مع صورتي بالنسبة لي، أريدك أن تراني كما تشعر، كما تراه حقيقيا، بائسا حزينا، هذا جوهرك أيها الإنسان العاجز الخائخ الملعون بما تعرِف ولا تعرِف"

الطبيبة تقف بجواري وتنظر لي وأنا أنظر لهم، لم أكن مستغرِبا، كنت أعرف أن هنا بيت الإنسان، بيت الحقيقة، بدون مدح ولكن الإنسان لا يستطيع أن يشفي بأي عزاء ممكن أي شخص هنا أو بأي كيمياء.

قام أحدهم واقترب مني جدا، من وجهي وقال: أنا الله.

قلت له بصوت خفيض بعد محاولات انتقاء الألفاظ لأني مما شهدت، اختيار الألفاظ مهم جدا كونهم كنقاد مفارقين للغة ونغم صوتي. إنهم يشعرون بمشاعر من حولهم بدقة بالغة: ما آخر ما خلقت؟

قال بتلعثم وبسرعة: خلقت مكانا فارغا، لا يوجد به أي حوائط. أكون فيه وحدي، بلا رجال أمن ولا جلسات كهرباء وشمس لا تغرب.

قلت: هل تريد أن تكون وحيدا؟

قال: ألا تريد أنت؟ إنها جنة الآلهه. قم، قم، قم، قم، نتحدث بجوار الشباك

هممت بالقيام رغم مسك الطبيبة يدي وصار هرجا. سيدة فارهة الجمال من المرضى خلعت ملابسها وبدأت تضرب رأسها في الحائط وتصرخ" أنا عذراء". حتى تكوموا جميعا في زاوية كقطط صغيرة حول ضرع الأم وتدخل رجال الأمن كالكلاب المدرَبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى