د. محمد عبدالله القواسمة - الشاعر وتمني الموت

تمر بالإنسان، أي إنسان لحظات يتمنى فيها الموت ومفارقة هذه الحياة، ولعل الشاعر في مقدمة الناس الذين يمرون بأمثال هذه اللحظات؛ لشدة إحساسه بوقع الحياة وأفعال الناس من حوله. فهذا أبو الطيب المتنبي(ت 354هـ) رغم اعتداده بنفسه وقوته والذي تعرفه الخيل والليل والبيداء، كما يصف ذاته ينتابه الحزن، ويضيق بالمجتمع وسلطة كافور والي مصر عندما لم يحقق ما يصبو إليه. ونراه يتأوه متمنيًا الموت؛ ليشفى من شدة يأسه:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وقبله ظهر الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل وهو يتذمر من حوادث الدهر، ويرى طيب العيش وهناءه في أن يكون حجرًا منزويًا عن الناس، وليس إنسانًا يتألم بما يجرى له من مصائب.

ما أطيب العبش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

أحيانًا يكون الإحساس بالخوف من فراق الحبيبة باعثًا لدى الشعراء على تمني الموت، فهذا جميل بن معمر(ت 82هـ) يقول بعدما لم تف بثينة بوعدها له باللقاء.

يا ليتني ألقى المنـية بغتةً إن كان يومُ لقائكمْ لم يُقدر

وهو في موضع آخر لا يرغب في الحياة إذا فقد حبيبته؛ فالحياة من دونها لا قيمة لها، وهو يتمنى الموت في هذه الحالة ليلتقيا معًا في القبر.

ألا ليتنا نَحْيا جميعا، وإن نَمُتْ يُجاور في المَوتى ضريحي ضريحُها

فما أنا في طولِ الحياةِ بِراغبٍ إذا قيلَ: قد سُوِّي عليها صَفيحُها

أظلُّ نهاري مُستَهاما، ويلتقي مع الليلِ روحي في المنام وروحُها

فهل ليَ في كِتمانِ حبّيَ راحةٌ وهل تَنفَعَنّي بَوْحةٌ لو أبوحها؟

ومثل هذه الأمنية نجدها عند عاشق آخر، وهو قيس بن الملوح أو مجنون ليلى(ت 68هـ) فهو يتمنى الموت؛ ليكون مع ليلاه في قبر واحد إذا لم يتحقق اللقاء. ‏

ألا ليتَ لحدكِ كانَ لحدي إذا ضمت جنائزنا اللحودُ‏

‏ وأغرب أمنيات الموت لدى الشعراء أن يتمنى الموت لحبيبته، ويجد الراحة في ذلك، كما نرى عند الشاعر بشار بن برد(ت 168هـ) يقول: ‏

مِن حُبِّها أَتَمَنّى أَن يُلاقِيَني مِن نَحوِ بَلدَتِها ناعٍ فَيَنعاها

كَيما أَقولُ فِراقٌ لا لِقاءَ لَهُ وَتُضمِرُ النَفسُ يَأسًا ثُمَّ تَسلاها

وَلَو تَموتُ لَراعَتني وَقُلتُ لَها يا بُؤسَ لِلمَوتِ لَيتَ الدَهرَ أَبقاها

وهذا الشاعر أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي (291 - 352 هـ / 903 - 963 م) كان قبل اتصاله بالأمير معز الدولة بن بويه فقيرًا يتشهى أكل اللحم، ولا يقدر على شرائه، فأنشد في إحدى سفراته التي كان يرافقه فيها صديقه عبدالله الصوفي:

ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه فهذا العيشُ ما لا خَيرَ فيهِ

ألا موتٌ لذيذُ الطعمِ يأتي يُخَلِّصَنِي من العيشِ الكَريهِ

إذا أبصرتُ قبرًا مِن بعيدٍ وددتُ لو أنني مما يليهِ

ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍ تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ

عندما سمعه صديقه الصوفي شرى لحمًا وطبخه وقدمه له. وتقلبت الأمور، وأصبح الشاعر المهلبي وزيرًا لمعز الدولة في بغداد، في حين غدا عبد الله الصوفي فقيرًا، فعمد إلى صاحبه ليساعده، وعندما منعه الحاجب من الدخول كتب في رقعة دفعها إليه:

ألا قل للوزير فدته نفسي مقال مُذَكِّرٍ ما قد نسيه

أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه

عندما قرأ الوزير الرقعة تذكر صديقه وقدم له المال وأكرمه، وجعل له عملًا يرتزق منه بعد أن كتب على ظهر الرقعة الآية (261) من سورة البقرة: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ}

وإذا كان الفقر المدقع السبب في تمني الأديب المهلبي الموت فإن آلام الفقد وفراق الأحبة كانت الدافع عند أبي القاسم الشابي(1909-1934( في الدعاء أن يأخذه الموت، بعد رحيل والده، الذي تركه وحيدًا في تحمل أعباء الأسرة؛ وقد مزق صدره الهم وهد ظهره؛ حتى بات يتساءل عن موعد موته؛ ليتخلص من عذاب العيش وشقائه، إنه متهيئ لاستقبال سهام الموت وشرب كأسه:

يا موت.. قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري

يا موت.. ماذا تبتغي مني وقد مزقت صدري؟

ماذا تود وأنت قد سودت بالأحزان فكري؟

وتركتني في الكائنات أئن، منفردًا بإصري

وأجوب صحراء الحياة أقول: "أين تراه قبري؟"

ماذا تود من المعذب في الوجود بغير وزر؟

ماذا تود من الشقي بعيشه، النكد، المضر؟

إن كنت تطلبني فهات الكأس.. أشربها بصبر

أو كنت ترقبني فهات السهم.. أرشقه بنحري

خذني إليك! فقد تبخر في فضاء الهم عمري..

لا شك أن هذه الأبيات، التي تفيض بالألم والضعف وتمني الموت تظهر في صورة عامة ضعف الإنسان إزاء فقد من يحب، خاصة وأن أبا القاسم الشابي مثله مثل المتنبي في إعلائه من شأن القوة والتفاؤل والأمل؛ فهو صاحب قصيدة إرادة الحياة التي كانت شعار الربيع العربي في العقد الأول من هذا القرن، والتي يصرخ فيها الشابي:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

كما أنه القائل متحديًا صعاب الحياة وأثقالها:

سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ

أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئًا بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ

لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ

وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِمًا غَرِدًا وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ

هكذا رأينا الشعراء يحسون في بعض الأحيان باليأس والكآبة والقلق، ويرون في الموت طريقًا للخلاص مما هم فيه من مرض أو فقر أو فقد حبيب، أو ربما السأم من طول الحياة، وعدم القدرة على تحمل تبعاتها كما سأم زهير بن أبي سلمى عند بلوغه الثمانين.

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

لكن في أغلب الأحيان فإن الطريق الذي يرسمه الشعراء هو الطريق الذي يطفح بالأمل والتفاؤل، منطلقين من مهمة الشعر بأنه ليس فقط بعث الجمال في النفوس، بل أيضًا في التخفيف من حزن الإنسان، وبث القدرة والعزيمة في أوصاله؛ ليواجه المصائب وعذابات الموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى