محمد مزيد - رجل النسيان

وقف ناصر الاهواري في منتصف ساحة كزلاي وسط العاصمة التركية أنقرة، ساحة مكتظة بالبشر، هاله ما رأى من النساء الجميلات البيض الشقراوات، لا يعرف الى أين يتجه، وهو يفر برأسه صوب الاتجاهات كلها، فقد نسي المكان الذي اتفق مع شريكته على اللقاء بها، قرر ان يترك مكان اللقاء لأنه لا يستطيع ان يستحضره الآن في ذهنه، وقال سألتقي بها في الفندق، غير انه شعر بالارتباك والخوف، لان أسم الفندق الذي نزلا فيه ليلة الامس نسيه أيضا .
ها هو قد عاودته محنته اليومية مع النسيان، انه الان يحتاج الى صفعة على خده، كي يستعيد أسم الفندق، لكن من ذا يمكنه أن يتطاول عليه ويصفعه، حتى لو كانت صفعة بريئة في مكان يزدحم بالبشر، الذين لا يعرف من لغتهم اية كلمة، فقال في نفسه، كيف يمكن أن أوصل لاي انسان بانه في حالة صفعه يستعيد ذاكرته، أخبره الطبيب إنه لا يمكن أن يصفع نفسه واوصاه بانه كلما نسي شيئا عليه أن يتوسل أقرب أنسان إليه ليصفعه.
بقي يدور حول نفسه في الساحة المكتظة بالبشر، ولاحظ ، أن اكثر من مائتي إنسان يعبرون خطوط عبور المشاة من هذه الجهة الى الجهة الأخرى، عاد اليه الخوف، فهو كان يتمنى أن ينسى الحروب التي شارك بها، ينسى القتلى من أصدقائه، قضت الحبوب التي تناولها لهذا الغرض على كل ذكرياته تماما، لكنه الان ، يريد أن يتذكر أسم الفندق فقط .
بدأت الشمس تميل الى الغروب، هو يعلم أن الليل في الغربة لا يرحم، إذ فهم أن شياطين الليل تسرح وتمرح بسهولة، ومستعدة لأن ترتكب أبشع الحماقات ضد البشر الطيبين امثاله، فهل يذهب الى شرطي المرور لكي يطلب منه أن يصفعه، لكن الشرطة هنا لا تصفع الناس، هل يطلب من هذا الشاب الوسيم الذي يتحدث بصوت خافت قرب عمود إشارة المرور او يوقع تلفونه مثلا ارضا كي يصفعه، وجد الفكرة تافهة ، فالناس هنا لا يصفعون لاتفه الأسباب. فوجد من المناسب ان يتحرش بفاتنة، لكن ماذا سيقول لها كي يستفزها وتصفعه؟
غابت الشمس خلف العمارات الشاهقة المحيطة بالساحة، وعلت أصوات المآذن لصلاة المغرب، يمشي الناس بسرعة ولا يبالون بأحد، ترتدي النساء الشورتات والتنورات القصيرة والبنطلونات الضيقة المحفورة من الافخاذ والاوراك ، لا يدري لم خطر في ذهنه حشر يوم القيامة، كلما سمع صوت الأذان في هذه المدينة المكتظة بالبشر ؟ لابد أن يسرع، لابد ان يجد من يصفعه لكي يتذكر ، اين هي الفتاة التي يمكن ان يتحرش بها كي تصفعه ؟ مشى خلف فتاة شقراء ترتدي تنورة قصيرة جدا بيضاء، فقال ، هذه بغيتي، بدأ يلاحقها، دب الاضطراب والقلق في اعصابه ، تسارعت نبضات قلبه ، لابد أن شريكة حياته قد سبقته الان الى الفندق ، فهي لا تنسى ، مازالت ذاكرتها غضة ، طبعا لانها لم تر جحيم الحروب التي عاشها . مازال يمشي خلف الفاتنة ذات التنورة البيضاء، يعلم أن النساء هنا ينقلبن الى لبوأت شرسة إذا ما حاول أحدهم أن يمد يده الى مؤخرتهن، أو أي جزء من أجسدهن، يجتمع حوله الشبان ويتناوبون عليه بالضرب والدفرات. كاد أن يصرخ بهؤلاء الناس " يا عالم أريد أحدا يصفعني حتى أتذكر " ، غير أن لا أحد سيفهم ما يقول، لا يريد ان يتورط بامرأة لان كل الرجال سيكونوا حماة الحمى عنها وحتى الشيوخ والعجائز ستأخذهم الغيرة للسعي الى استمالة الفتاة المتحرش بها .
مازال يسير خلف الشقراء ذات التنورة البيضاء القصيرة، ولما وقفت عند الإشارة الحمراء، وقف بجانبها ، التفتت اليه فوجدته ينظر اليها بشوق وابتسامة، فابتسمت هي اليه ، لا يريدها أن تبتسم ، بل أن تغضب منه وتصفعه .
ولما عبرا خطوط العبور بعد الإشارة الخضراء ، وضعت يدها تحت ذراعه ومشيا معا ، سارت به الى عالم يكتظ بالنسيان .

تعليقات

أعلى