السعيد عبدالغني - لينك وفصل من رواية "سرديات رواقي"

لم أعد إلى بيت أبي ثانية وصرت في بيت صديقي دوما، أجلس في الغرفة التي كنا نتشارك فيها الأحاديث. بحثت في البيت كله بعد أكثر من أسبوع لم افتح أي باب ولم أطلع إلى الأدوار العليا عن ورقة أخرى لكني لم اجد أي كتب أو أوراق، لا أعرف هل تخلص من كل ما هو مكتوب عليه أم ماذا؟
لم أجد إلا حمامه على سطح البيت مذبوحا كله وغربان كثيرة تأكل منه.
هبطت أنظر إلى الجدران التي كثيرا ما لعبنا وسطها، حتى سمعِت نداء أبي في الأسفل.
نزلت له لا طاقة فيّ للحديث ولا للشجار ولا لشيء وربما حاجتي لإسكاته تتعدى قتله حتى.
أبي بابتسامة صفراء: ها ورثت الكثير وليس عنيّ المال يُغيِر، نسيت أبيك
أنا: ماذا تريد؟
أبي: أريد ابني حبيبي
أنا: وأنا لا أريدك، اخرج من هنا
أبي: اهدأ ورث كثيرا، وأنا محتاج ونريد توسِعة المسجد بهذا البيت وأقارب الشيخ يريدون تركتهم للتبرع بها
أنا: ليس هناك تركة لهم، كل شيء ملكي ولن أتبرع بشيء، اخرج من هنا، ولا تأتي هنا ثانية
أبي: لم أنت عنيف هكذا؟
فغرقت في الضحك: تتحدث بهدوء، ههه، افعل ما يحلو لك ولكن بعيدا عني وأغلقت الباب
كان تحت البيت ينظر، عيناه متقده حمراء، ولكنها منادِية، هذا هو من أخبرني وقال لي "ستُجَن" وجرى.
هبطت سريعا إلى الشارع أنظر ولكني لم أجده، وتهت في رأسي، هل هو أم أني بدأت في التخييل ورؤية الأشخاص مرة أخرى من ذاكرتي المليئة بالطيوف؟ وترددت هل أفعل ذلك للتعزية للحديث لإيناس ذاتي بمن أعرف ولو بقدر بسيط.
لم اعد أعرف الفروق الجوهرية بين اولاقعي والتخييلي.
عدت للبيت وأنا أدخل نادني الشيخ شمس، وقفت أنظر له، مدامعي مليئة بالملح الجاف ولا حجب فيّ أمام هذا القلب الصافي. مشيت له خطوتين ووقعت.
لم اكن أشعر بقدمي، جرى نحوي وأسندني ببطء وأدخلني إلى البيت وجلس يدلك لي ثدمي بلا بخل من عينيه بلحنان وهو ينظر لي
قلت له كعادتي في دفع المساعدة: أنا بخير، لا تقلق، فقط السماوات تزداد اتساعا والأرض تنحصر
قال: لم لا تأتي معي؟
قلت: لم يعد يجزي الأمرـ لقد حان أوان هجر الأرض وعيشها، الفتوة في الزهد والتخلي
قال: أنت أدركت الكثير ولكنك لازلت صغيرا، أعلم العمر زمن خاطىء ولكن يا بني لا تهجر وبك رحمة لازلت ألمسها وأشعرها نحو كل شيء
قلت: أريد فقط أن أطوف في حضرة هنا
قال: تعال إلى الحسين، هناك حضرة غدا
قلت: أريد أن أطوف هنا على الدم الجاف له
قال: سمعت عن انتحاره، لكنك تعلم السلفية هنا وقوتهم، لم يُسمَح بحضرات هنا منذ موت شيخنا والد صديقك
قلت: أعلم ذلك جيدا، دعني أخبرك قريبا بالمعاد وليس لكم علاقة بالمسجد، هنا أما البيت
قال: هل تريد... ؟
نظرت له وأنا أدمع: سأقوم لانام، البيت بيتك
قمت ببطء وأستند على ما حولي، والعالم يدور حتى لففت وجهي فحضنني من الخلف
وقال لي: أنا معك دوما
نمت على الكنبة التي كنت نجلس عليها، والشباك مفتوح يبث نسمات قليلة كل بعض الدقائق، كان كل الذاكرة تتجلى أمام عيني ولا أتذكر متى نمت، لكني استيقظت على صوت أسفل الشباك يردد شعري، قمت بعدها بقليل أتسند ونظرت فوجدته هو.
لم أقترب منه بهذا القرب من قبل، كان وجهه جميلا جدا لكنه متهدل، متعب، لا حياة فيه إلا في عينه ولججها البعيدة .
فقال: أعرف انتحار صديقك، كنت اشهده وهو يفعلها وأنا من أغمض عينه بعد وقوعه على الرصيف
وقفت مشدوها، لا أعرف ماذا أقول، المتكلَم كله خائخ، والإحسان إلى صمتي أفضل.
فقال لي: أعلم أنك تتذكرني، لا أحد ينسى أحدا يقول له أنه سيجن.
قلت له: أتذكرك
قال: أنت محاط بالمنتحرين والمنتحرات
قلت له: ماذا تقصد؟
قال: هذه المرأة الخلاسية على السطح
قلت له: من أدراك بكل هذا؟ وكيف تعرفها؟ وتعرفني؟ هل تراقبني؟



لينك رواية "سرديات رواقي" ل السعيد عبدالغني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى