د. سيد شعبان - حلم أخضر

في حياتي أشياء مؤجلة لم أطرق بابها بعد، لا وقت لدي لأن أهتم بتلك الأوهام، فمنذ عشرين عاما أبحث عن وسيلة تدفع بي إلى العالم الزاهي، هذه المفردة خايلتني كثيرا حتى جعلتني أشبه بممسوس يعيش على حافة الزمن، كل الأعمال سأنفذها في ذلك الحلم، حتى ثيابي الجديدة اختزنتها لليوم الآتي، يصعب على الأنثى أن تترك جدائلها تتساقط دون أن يعابثها القمر، وهل يحلو العطر إلا بها؟!
حاولت أن أردها عن تعلقها بالرغبات التي تصرخ داخلها، وفي النهاية ارتحلت بعيدا حيث يحلو الوداع دون ضجيج.
لا أدري لم تذكرتها الآن؟
نازعتني نفسي وقليلا ما كانت تفعل هذا من قبل؛ تعيش لهذا العالم الزاهي، اغتربت في المكان وتلاشت في الزمان.
في المرآة صورة حقيقية لم تعد تفلح الخدع أو تنطلي على أحد،ها أنا أشيب الشعر مجدر الوجه، فمي بيت الصدى حيث يسكنه الفراغ الموحش، حتى حجرات البيت لا تعرف الدفء،المكان الوحيد الذي انتفخ حتى صار أشبه بديوان الحكومة العجوز هو خزانتي المثقلة بجرم التكدس.
أمس نازعتني نفسي لأن أهرب من زمني المثقل بالوجع،تمنيت أن أجلس معها وهي تشدو بقصيدة ن نزار " أيظن"!
نظرت في المرآة بقايا وجه، حاولت الاستماع فلي بعض طرب ،لكن الزمن مثل وحش كاسر افترس أجمل الأحلام تركني فراغا إلا من أموال فقدت قيمتها، كنت هاربا من كل شيء؛ سخرت من ذكريات الشباب،تجمدت الرغبات وها قد آن لها أن تشتعل من جديد حتى ولو مر عليها ما يقرب من ربع قرن.
يفلح العطر والسحر حيث يعجز الجسد، تلك حكمة تعلقت بها، واحدة تشبهها سأندفع إليها، أداعب خصلات شعرها، أسمعها شعر نزار شدوا، لدي مختزن من لهب تجمد طيلة هذا الممر الطويل في متاهة الضياع، حين اقتربت من عالمها وجدتها تعب من أصداف الهوى؛ وضعت الحرير تحت قدميها،نثرت العطر حواليها، لكن ردها كان مغلفا بتلك المفردة ؛"أيظن"!
لا أدري تفاصيل الحلم، لكن ثمة أطياف منه تعاودني في يقظتي، ربما هي أضغاث، أو لعلها بعض أماني تتراقص كل آونة، أن تأتي السنبلة الخضراء وتحدثني ؛ لو أخبرت أحدا بهذا ، لوصمني بالجنون !
تلبس السنبلة ثوبا قمريا ، كبرت حتى وجدت حباتها مثقلة ، الرجال الأقوياء يحملونها وهم في تعب ، نادت علي ؛ أن أمسك بها ، هممت أن أضعها على كتفي وأجري بها بعيدا؛ ثمة عين متوهجة تتوقد شرا ، حين هممت؛ اقتربت!
كلما أصررت تزداد توحشا ، لها أنياب توشك أن تغرزها في جلدي ، خفت منها ، حاولت أن أختفي ، تتشمم عرقي ، اقتربت أكثر ، أنفاسها اللاهثة مثل فحيح أفعى تلتف حول رقبتي ، كريهة مثل شيطان الخرابة، السنبلة تقذف بها الريح الهوجاء ، وضعتها تلك العين الشريرة بين أظافرها، بدأت تساومني، الحبات تتقزم ،تصغر مثل رمال الصحراء ، لا ضير أن بقي لها لون الصفرة ، علامة النضج ، حين قبلت بشرطها ، أن أرفع الراية البيضاء ، أن أهتف ، أن أتقيأ في وعائها ، هي لم تطلب مني غير أن أقطع كفي ، أو أن أتخلص من أصابع يدي، هي لا تحبها تشق الأرض خضرة ، تقبل بكل شيء ، تفتح لي خزانة النهر ، أنال منها وسام العهر ، أعني الفخر، سيان عندها عهر وفخر، لي ما أتمنى ، لن تنفخ في أمنيتي ، وعدتني الأصفر من النساء ؛ أمحو من ذاكرتي تلك الفكرة ، الوحش يكره الأفكار ، تململت في رقدتي، أحس بأن مسمارا يدق في قلبي، حاولت أن أغير نومتي ، استحضرت آية الكرسي ، هممت أن أغلق فمي ، بل نويت أن أصحو ، بدأت أحرك يدي ،جواري كوب الماء ، أشعر بالعطش، تذكرت أنه مثقوب ، بل بقاياه تسربت حين وضعته قبل النوم ، الحجرة باردة ، هل أنا في العالم الآخر ؟
تحيط بي الحقول التى يوما تجولت فيها، الساقية المطمورة ، والبقرة الصفراء ، والجميزة المتفحمة ، أشجار السرو مائلة !
الأغطية وقت النوم لا تبقى تلعب بها الشياطين ، تتركنا أشبه بالمومياء ، لا أجد من الدفء ما يعيد إلي الحياة تقترب مني ، تمسك بتلك الأصابع تضعها في موضعها، أعطتني السنبلة الخضراء، بدأ النبض يتدفق في الشريان الملامس لها ، كلما أمسكت بتلك السنبلة ؛ تبتعد تلك العين الشريرة ، تغازلني ، بل تعرت مثل بغي ، استعذت بالله من فعلها ، استحضرت كل معاني الطهر ، لا أدري لم جاء إلي عبدالله بن حذافة السهمي ؟
أحقا أتقوى به ؟
إنه مجرد حلم ثقيل ، الحائط غاب عن حسي، النافذة في غير موضعها ، الحجرة دون باب ، أترنح في كل اتجاه ، دوار شديد ، الفزع يستبد بي ، لو بقيت هكذا ربما تلتهمني ، سأقاوم ، أطلب العون ، نعم هو يوما كان ينصحني ، حين تأتيك تلك العين ، ضع يدك اليمنى على قلبك ، أطلب منه أن يقويك ، أسرع بالصحو ، أمسك بالخيط المعلق فوقك ؛ تنفتح أمامك كوة ، سيتدلى منها مصباح ومفتاح ، ضع المفتاح في أقرب حائط ، ستجد أمامك الباب ، أخرج منه ، لا تتردد عليك بالسير في هذا الممر ، لا تلتفت شمالا ؛ العين به !
فجأة سمعت صوت المؤذن !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى