مواقيت.. قصة
يقبل إذا حل الشتاء على ظهر حماره الأبيض، يردف حفيده خلفه، و يطرح خرج الخيش أمامه، و يعبر الممر الرملي المفضي إلى النجع، ذلك الممر الذي يصطف على جانبيه النخيل؛ فتتساقط قطرات الماء التي علقت بالسعف؛ إثر نوة الريح و المطر التي توقفت للتو. يقاوم حماره معرة الانزلاق كرفيق جلد، يصل إلى مدخل النجع؛ فيرسل العجوز نشيده الموقع في نغمات عذبة يحملها الهواء إلى آذان المارة؛ فيطربون، و إلى آذان الصغار؛ فيفتحون نوافذ قلوبهم الصغيرة، و يطلقون الفرحة كأسراب يمام، تسبقهم إلى العجوز الذي اتخذ جوار التوتة مستقرا. يسرع إليه الصغار مرددين ذات النشيد؛ فيفيض نهر الغناء، حتى يغمر النجع بأكمله. ينزل أبو عميرة حفيده و خرجه، و يبسط كليمه المهترئ على الأرض المبتلة، و يمضي يهيئ عدة التصليح، و لا يتوقف عن النداء المنغم إلى أن تتجمع حوله النساء. عجوز نحتت الأيام وجهه، و لون الشيب شعره، و خالطت اللطع السوداء يديه و جلبابه اللبني، لكنها أخفقت في أن تنال من قلبه الأبيض شيئا. سمكري صاحب صنعة لديه دربة و مهارة، يستطيع تحويل وابور الجاز العدمان إلى آخر جديد يبرق لونه الذهبي تحت أشعة شمس الشتاء. حكيم نقشت الأيام على لوحه الأسرار، يعرف متى يتكلم، و متى يصمت، و متى يطلق النكات، و متى يفيض على الناس بسحر الحكايات. يلحم الأرجل المعدنية و الخزانات النحاسية بالقصدير، و يغير ماكينات الجاز و الكوش الصدئة و جلد المكابس المهترئة بأخرى جديدة، و يوزع البهجة على الحاضرين بغير حساب. ما إن ينتهي من تصليح وابور جاز، حتى يشعله؛ فتتوهج أقراص اللهب، و يتلاشى البرد، و تفر القشعريرة، و نتلذذ بالدفء و الصخب. تدس النساء في يده قطع العملة المعدنية؛ فيقبل رزقه الفقير مرة أو مرتين، و يدسه في جيبه دون أن ينظر إليه؛ إذ كان يرضى دائما بالقليل، لا يساوم، و لا يقطب جبينه، و لا يعبس في وجه أحد. من وقت إلى آخر تحين منه نظرة حانية نحو حفيده الذي انشغل بقراءة وجوه الناس. ذلك الحفيد الذي بدا في قفطانه الأبيض الناصع و وجهه البهي ملاكا صموتا يحصي على أهالي النجع حصائد ألسنتهم و أفعالهم.
(٢)
و لما كان للبهجة ميقات، كان أبو عميرة يزور نجعنا في مواقيت محددة، لم يخلفها أبدا على مدار عشرين عاما بشهادة التوتة و شهادة أمهاتنا. و في ذات نهار وفدت سيارة نصف نقل إلى النجع، حملت البوتاجازات، و مواقد و أسطوانات الغاز، و لما كان الناس يفتنون بكل جديد، أغرقت البضائع الجديدة الدور، و داوم التاجر البدين على زيارة النجع، و راح يبيع بضائعه باهظة الثمن بالتقسيط، و راح الناس يوقعون على إيصالات الأمانة، حتى تحول التاجر إلى دائن، و تحول آباؤنا جميعا إلى مدينين. و لما عاد أبو عميرة يغني، أحاط به الصغار، و لم تخرج النساء إليه كما جرت العادة، و مع غروب الشمس، لملم العجوز أشياءه، و امتطى حماره، و غادر النجع حزينا؛ فتعلقت به أبصار الأطفال، حتى ابتلعته الصحراء.
(٣)
مر الشتاء تلو الشتاء، فهرمت التوتة، و تساقطت أوراقها، و تحجرت أغصانها، و انكمش ظلها، حتى أمسى الظل لا يسع الجالسين؛ فتوقف الكهول و الشيوخ عن الاجتماع عصرا تحتها للعب (السيجا). عقمت الشجرة، و لما أمست لا تثمر، توقف الصغار عن تسلق جذعها، و معانقة أغصانها لجمع ثمار التوت. كبر الصغار، ما عادوا ملائكة؛ فأغلقوا نوافذهم، و انزوى اليمام حبيسا، و جف في النجع نهر الغناء، و عششت العناكب في الزوايا المعتمة، و كسا الغبار الكثيف حقائبنا المدرسية المستعملة، و أحذيتنا المتخددة التي ضاقت علينا، و دفاترنا المهترئة، و (بوابير) الجاز المهملة.
(٤)
حدق الوقت مليا إلى وجوهنا العابسة؛ فأخرج لنا من عباءته مسرة مباغتة؛ إذ عبرت عربة (كارو)، يجرها حصان عفي الممر الرملي. و ما إن دنت من مدخل النجع، حتى سمعنا نشيد أبي عميرة القديم، منغما حلوا؛ فانتابتنا الدهشة، و جذبنا الحنين إلى صوت الشادي الرخيم. خرجنا عن بكرة أبينا. و رحنا ندقق النظر؛ فرأينا شابا فتيا، ينادي، و يدعو الأهالي إلى بيع أشيائهم المهملة. خرجت النساء إليه بخردة ذكرياتنا القديمة، و (بوابير) الجاز التي كساها التراب؛ فقربها إلى أنفه كمن يشتم عبقا كامنا. فلما وجد رائحة الماضي لا تزال عالقة بها، دمعت عيناه، و قرر شراءها جميعا، و أجزل لنساء النجع ثمن الشراء. لم يمكث طويلا، و لم يطل البقاء، و سرعان ما غادر النجع، و ما إن عبرت عربته الممر الرملي، حتى لمحنا أسراب اليمام تغادر سماء النجع، و تقتفي أثر رائحة أبي عميرة، التي استردها حفيده بعد سنوات من الغياب.
كرم الصباغ – مصر
يقبل إذا حل الشتاء على ظهر حماره الأبيض، يردف حفيده خلفه، و يطرح خرج الخيش أمامه، و يعبر الممر الرملي المفضي إلى النجع، ذلك الممر الذي يصطف على جانبيه النخيل؛ فتتساقط قطرات الماء التي علقت بالسعف؛ إثر نوة الريح و المطر التي توقفت للتو. يقاوم حماره معرة الانزلاق كرفيق جلد، يصل إلى مدخل النجع؛ فيرسل العجوز نشيده الموقع في نغمات عذبة يحملها الهواء إلى آذان المارة؛ فيطربون، و إلى آذان الصغار؛ فيفتحون نوافذ قلوبهم الصغيرة، و يطلقون الفرحة كأسراب يمام، تسبقهم إلى العجوز الذي اتخذ جوار التوتة مستقرا. يسرع إليه الصغار مرددين ذات النشيد؛ فيفيض نهر الغناء، حتى يغمر النجع بأكمله. ينزل أبو عميرة حفيده و خرجه، و يبسط كليمه المهترئ على الأرض المبتلة، و يمضي يهيئ عدة التصليح، و لا يتوقف عن النداء المنغم إلى أن تتجمع حوله النساء. عجوز نحتت الأيام وجهه، و لون الشيب شعره، و خالطت اللطع السوداء يديه و جلبابه اللبني، لكنها أخفقت في أن تنال من قلبه الأبيض شيئا. سمكري صاحب صنعة لديه دربة و مهارة، يستطيع تحويل وابور الجاز العدمان إلى آخر جديد يبرق لونه الذهبي تحت أشعة شمس الشتاء. حكيم نقشت الأيام على لوحه الأسرار، يعرف متى يتكلم، و متى يصمت، و متى يطلق النكات، و متى يفيض على الناس بسحر الحكايات. يلحم الأرجل المعدنية و الخزانات النحاسية بالقصدير، و يغير ماكينات الجاز و الكوش الصدئة و جلد المكابس المهترئة بأخرى جديدة، و يوزع البهجة على الحاضرين بغير حساب. ما إن ينتهي من تصليح وابور جاز، حتى يشعله؛ فتتوهج أقراص اللهب، و يتلاشى البرد، و تفر القشعريرة، و نتلذذ بالدفء و الصخب. تدس النساء في يده قطع العملة المعدنية؛ فيقبل رزقه الفقير مرة أو مرتين، و يدسه في جيبه دون أن ينظر إليه؛ إذ كان يرضى دائما بالقليل، لا يساوم، و لا يقطب جبينه، و لا يعبس في وجه أحد. من وقت إلى آخر تحين منه نظرة حانية نحو حفيده الذي انشغل بقراءة وجوه الناس. ذلك الحفيد الذي بدا في قفطانه الأبيض الناصع و وجهه البهي ملاكا صموتا يحصي على أهالي النجع حصائد ألسنتهم و أفعالهم.
(٢)
و لما كان للبهجة ميقات، كان أبو عميرة يزور نجعنا في مواقيت محددة، لم يخلفها أبدا على مدار عشرين عاما بشهادة التوتة و شهادة أمهاتنا. و في ذات نهار وفدت سيارة نصف نقل إلى النجع، حملت البوتاجازات، و مواقد و أسطوانات الغاز، و لما كان الناس يفتنون بكل جديد، أغرقت البضائع الجديدة الدور، و داوم التاجر البدين على زيارة النجع، و راح يبيع بضائعه باهظة الثمن بالتقسيط، و راح الناس يوقعون على إيصالات الأمانة، حتى تحول التاجر إلى دائن، و تحول آباؤنا جميعا إلى مدينين. و لما عاد أبو عميرة يغني، أحاط به الصغار، و لم تخرج النساء إليه كما جرت العادة، و مع غروب الشمس، لملم العجوز أشياءه، و امتطى حماره، و غادر النجع حزينا؛ فتعلقت به أبصار الأطفال، حتى ابتلعته الصحراء.
(٣)
مر الشتاء تلو الشتاء، فهرمت التوتة، و تساقطت أوراقها، و تحجرت أغصانها، و انكمش ظلها، حتى أمسى الظل لا يسع الجالسين؛ فتوقف الكهول و الشيوخ عن الاجتماع عصرا تحتها للعب (السيجا). عقمت الشجرة، و لما أمست لا تثمر، توقف الصغار عن تسلق جذعها، و معانقة أغصانها لجمع ثمار التوت. كبر الصغار، ما عادوا ملائكة؛ فأغلقوا نوافذهم، و انزوى اليمام حبيسا، و جف في النجع نهر الغناء، و عششت العناكب في الزوايا المعتمة، و كسا الغبار الكثيف حقائبنا المدرسية المستعملة، و أحذيتنا المتخددة التي ضاقت علينا، و دفاترنا المهترئة، و (بوابير) الجاز المهملة.
(٤)
حدق الوقت مليا إلى وجوهنا العابسة؛ فأخرج لنا من عباءته مسرة مباغتة؛ إذ عبرت عربة (كارو)، يجرها حصان عفي الممر الرملي. و ما إن دنت من مدخل النجع، حتى سمعنا نشيد أبي عميرة القديم، منغما حلوا؛ فانتابتنا الدهشة، و جذبنا الحنين إلى صوت الشادي الرخيم. خرجنا عن بكرة أبينا. و رحنا ندقق النظر؛ فرأينا شابا فتيا، ينادي، و يدعو الأهالي إلى بيع أشيائهم المهملة. خرجت النساء إليه بخردة ذكرياتنا القديمة، و (بوابير) الجاز التي كساها التراب؛ فقربها إلى أنفه كمن يشتم عبقا كامنا. فلما وجد رائحة الماضي لا تزال عالقة بها، دمعت عيناه، و قرر شراءها جميعا، و أجزل لنساء النجع ثمن الشراء. لم يمكث طويلا، و لم يطل البقاء، و سرعان ما غادر النجع، و ما إن عبرت عربته الممر الرملي، حتى لمحنا أسراب اليمام تغادر سماء النجع، و تقتفي أثر رائحة أبي عميرة، التي استردها حفيده بعد سنوات من الغياب.
كرم الصباغ – مصر