وداد معروف - البئر..

تأملت مواقفها و ما مر بها من محن، لاحظت أنها في كل تلك الكربات التي مرت بها، كانت صلبة صامدة، الصفة التي طالما وصفت بها من المحيطين، شعرت بشغف لتعرف سبب ذلك الثبات الذي عرفت به، أبحرت داخلها لتبحث في قاع ذلك البئر العميق عن سر تلك الصلابة؛ غاصت عميقا جدا وصلت لقاع البئر؛ حينما كانت بعد طفلة لا تعي، تذكرت ما حكته لها أختها الكبرى عن يوم الجورب، كما وصفته لها " يوما لا ينسى" وكيف أثر أستك الجورب الضيق في ساقك فأحدث قطعا دائريا حولها ، و كيف أنك لم تشتكي و لم تخبري أحدا بألمك، حينها كنت لم تتجاوزي الأربع سنوات تحملت كل هذا الألم دون أنين أو شكوي؛ أخبرتها أختها أن أمها كانت في سفر وتركتها في رعاية إخوتها، قالت : كنت دائما صامتة هادئة فانشغلنا عنك وظل الجورب بأستكه الضيق طيلة النهار في قدميك لبرودة الطقس فقد كنا في الشتاء؛ أكملت أنا لها البقية؛ عادت أمي و أخذتني لتغير ملابسي فوجدت هذا الجرح الدائري؛ فالتاعت مما رأت فقد قطع الجورب جلد ساقي ، أذكر أختي الآن وهي تصف ما رأت " مشهد رهيب جعل أمنا تصرخ فيَّ: كيف تركتِ نهي يحدث لها ذلك ؛ ما الذي شغلك عنها؟ هذا ما أوصيتك به؟! يا حبيبتي يا بنتي؛ كل هذا تحملته دون شكوي، لماذا لم تصرخي ما الذي منعك من البكاء، قلت لأمك : أنك لم تبوحي ولم أشاهدك تتألمين ظلت هذه الحادثة نتندر بها علي صبرك العجيب؛ ونقول هل لا تشعر نهي بالألم مثلنا ؟ أم هي شديدة التحمل لدرجة لا يعرف معها مدي ما بها من ألم؟ لم أنطق ، ظللت صامتة، كنت أشعر أنه بغياب أمي لا أحد لي، هذه مشاعري التي لم أجد لها تفسيرا حتي الآن؛ ربما يتم الأب وغياب أمي المستمر في التجارة التي خلفها أبي وانشغال إخوتي بدروسهم ولعبهم، جعلني أشعر أني وحدي وسط هذا العالم، شعور لازمني طيلة حياتي ، نبتة وحيدة تطوِّحها الريح يمنة ويسرة؛ وكلما اشتدت الريح أمسكت بجذورها في الأرض أكثر فاكثر؛ فيقوي عودها شيئا فشيئا حتي كبرت هكذا وحدها. استقامت شجرة؛ أحسبها نخلة وليست شجرة، ظلها قليل لا يداني ظل الشجر ، فارعة مديدة ووحيدة هكذا تبدو نهي الآن.
لم يكن في قاع البئر يوم الجورب فقط، ولكن وجدت ملقى بجانبه أيضا يوم الزجاجة التي شقت كعب قدمي اليمني؛ جري الدم غزيرا، أسرعت إلي البيت لم يكن به أحد، أمي وإخوتي في عرس بنت الجيران، لم أكن أدري ماذا أفعل، عمري ثماني سنوات، لا أدري كيف أربط الجرح ولا كيف أسيطر علي هذا النزيف، لا أعرف مكان الضمادات، الألم ينبح والدم يسيل، لِمَ لَمْ أذهب لبيت الجيران أرتمي علي صدر أمي و أسلم لها قدمي لتتصرف؟ لماذا لم يكن من عادتي اللجوء لأحد؟!
دائما أنا التي يجب أن أتصرف ، في كل هذه الحالات كنت أشعر بالوحدة والغربة وأنه أنا التي عليَّ أن أخفف آلامي وأحل مشكلاتي . دفع الباب عادل ابن خالي؛ فقد تعود علي دخول بيتنا دون استئذان، يكبرني بعامين، وجدني في الصالة علي تلك الحالة، انزعج من منظري ، سألني وعيناه يملأُهما الخوف عليَّ :يا الله ....ماذا جري لك ؛ ما الذي فعل بك هذا يا نهى ؟ بنورة شقت كعبي، قلتها و أنا أكتم دموعي تلك الدموع التي كلما ذرفتها الآن قالت لي أختي الكبرى: دموعك هذه تقطع نياط قلبي ، لا أقوى أبدا علي رؤيتها، تذكرني بدموعك يوم الجورب، ببراءتك وغفلتي عنك، دموع صامتة موجعة؛ دائما تسح في الخفاء، لا نرى إلا أثرها في احمرار عينيك، ربط لي الجرح وذهب لأمي أخبرها، جاءت و راجعت الرباط أمرتني أن أنام في فراشي، لا أذكر أنها واستني أو قالت ما يخفف عني ، لامتني علي مشيتي العابثة ، التي تسببت لي في ذلك، كانت عادتي أن أمشي قفزا يمنة ويسرة كغزال رشيق.
كبرت و تتابعت عليّ المحن ؛ فقد الابن و علاقات زوجي المتعددة و اكتشافي لها ومقابلة ذلك بثبات وصبر، كنت لا أفاتحه فيما يصلني من أخباره، أراقبه من بعيد و نار الغيرة تمزقني وألقاه بابتسامة وادعة؛ حتي اذا خلوت بنفسي قطعتني ألما، عملت كل ما بوسعي لاستعادته، حتي دخل السكر دمي في سن صغيرة، وعرفت الحرمان من كثير مما أحب، و أنه قبل أن أتناول وجبة علي أن أحقن نفسي قبلها بالإنسولين، احترت في أي موضع أضع الإبر من طول سنوات الحقن أقمت سورا عاليا حول همومي، وعرفت كيف أخرج للدنيا مبتسمة، هكذا تعاملت مع أحزاني . الآن أتساءل بعدما حجب السور عني كلمات المواساة وشد الأزر التي ربما خففت عني الكثير؛ أما لو أني كنت بحت لقريب أو حبيب ألم تكن همومي تخفت ولو قليلا، الآن أتساءل: ألم يكن أرْوَح لنفسي أن أخفض السور قليلا فربما سمحت لفضاء روحي أن يتجدد بنسمات حنونة تدفئه، بروح تتوغل في روحي فتؤنسها؟!

وداد معروف .. من مجموعتي فستان فضي لامع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى