سعد السوداني - الماعون.. قصة قصيرة .

"الناس صنفان ، إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ."
الإمام علي بن أبي طالب عليه للسلام



الرصيف مزدحم بأصحاب البسطيات ،
بالكاد يمكنك المرور إلى موقف الحافلات ، بسطية الأحذية المستعملة تجاور بسطية لبائع الحاجيات المتنوعة، حقائب ،سكاكين ،مواعين،
نظارات طبية مستعملة ربما تعود لشخص ميت .
الساعةالثالثة بعد منتصف النهار ، رائحة حاوية النفايات لا تحتمل ، الحرارة المنعكسة من اسفلت الشارع تجعلك تستغيث ، الشمس تبدو ككرة لهب تلهب رؤوس المارة ، صاحب بسطية حاجة بألف اتخذ له مكانا لصق دورة مياه عامة متقيا حرارة الشمس اللاهبة .
_ كرادة ، طالع ..طالع ..نفر واحد طالع.
طال انتظار السائق لراكب اخير ، على الرغم من مناداته بصوت مبحوح ،فيما ضجر الركاب من طول الأنتظار وشدة الحر ، الحافلة كأنها فرن شواء .
_ معود مو اشتعلنا من الحر ، اطلع رحمة
لوالديك .
صاحب المركبة لا يبالي بتوسلات الركاب ، يشرب شايه ويدخن ، ينادي على الراكب الأخير .. طالع ،طالع، نفر واحد ، كرادة ..كرادة .
لا ادري ما الذي دفعني لعدم صعود الحافلة ، على الرغم من كوني الراكب الأخير !!
فضلت انتظار الحافلة الثانية ، ربما لم يعجبني سلوك السائق ، او لم يعجبني مكان الراكب الأخير ، ثم ان الحافلة تخلو من الجنس اللطيف !
_ حاجة بألف ... بألف .. بألف.. تعزيلة ياولد ..ثلاث حاجات بألفين ..وينهم .
اقتربت من صاحب البسطية ، لا ادري كيف يحتمل الرائحة المنبعثة من دورة المياه العامة التي اتخذ من قرب جدارها الأيسر مكانا له .
مواعين صينية مستعملة .. اقلام حبر .. البوم صور ..دمى بلاستيكية.. عطور رديئة .
انحنيت لألتقط البوم الصور ، فتحت الغلاف ، صدمت جدا ، الطبيعي ان يكون خاليا من الصور ، لكني وجدته محشو بها ،
ريتا في الخامسة 2005 ، مريم حفل تخرج 1995 ، بطرس مستشفى الراهبات 2007 ، حفل زفاف بولص 2000 ، كنيسة مريم العذراء الواقفون من اليمين : دنخو .. بنيامين .. يونادم بطرس..بولص ..الجالسون من اليسار: ريتا.. مريم .. عذراء .. حوراء .
تجاوزت الساعة الرابعة ، اقلب في عشرات الصور ..
_ خالي شنو السالفة , تشتري لو تتفرج ؟
نظرت الى صاحب البسطية ، سألته بحذر ؛
من اين تحصل على هذه الحاجيات ؟
رد ساخرا ؛
نفايات تصدرها لنا الصين أو الهند أو الإمارات أو حتى بنغلادس للتخلص منها ؟
مصدرها لا يهم ، المهم وجدت لي فرصة عمل استرزق منها .
_ معذرة من اين حصلت على هذا الألبوم ؟
_ الألبوم والمواعين وحاجيات اخرى وجدتها قرب دار محترقة هجرها أصحابها ، ولكن لم السؤال ؟
_ لعلهم هجر....... عفوا صحيح ما تقوله لا داعي للسؤال .
_ تمام ، اذا الألبوم يفيدك احسبه لك بألفين ومعه هذا الماعون هدية .
اشار بسبابته إلى ماعون مغلف بورقة بيضاء كبيرة شفافة .
نقدته المبلغ شاكرا ، وضعت الألبوم في كيس كبيرة ودسست الماعون بداخله .
لعلها الحافلة الأخيرة كادت تنطلق لولا اشارتي للسائق ان يتوقف ، ثمة مقعد شاغر في المؤخرة ، صعدت بعجالة ، امرأة وطفل وشابة جميلة شغلوا المقاعد الأخيرة ،كنت رابعهم .
اختلست نظرة احسبها بريئة الى الشابة ،
شي ء ما تحت قميصها يلمع كلما استدارت الحافلة يمينا حين يسقط شعاع الشمس على صدرها ، دققت النظر به جيدا ، عرفت انه صليب ، هم اذن مسيحيون ، تأكدت من ذلك اكثر حين قال الطفل للمرأة :
ماما متى نصل الكنيسة ، جوعان ؟
عاودت النظر الى الشابة ، تشاغلت عني بكتاب صغير ، خمنت انه الأنجيل .
كان الطريق مزدحم جدا ،خصوصا في التقاطعات ، اشارات المرور لا معنى لها ، تكفل رجل المرور بتنظيم سير المركبات .
هل كنت غبيا او هي محاولة للفت انتباة المرأة والشابة حين اخرجت الألبوم من الكيس ورحت اقلب الصور !
ربما ذلك تدبير الهي ! لا اعلم بالضبط .
اختلست نظرة للشابة من دون ان التفت ، رأيتها تنظر بتمعن الى الصور ، دموعها تنحدر على خدها ، همست بأذن المرأة التي استدارت بكامل جسدها نحوي ، نظرت الى الألبوم ،صرخت ،
انهمرت دموعها ، تمتمت بكلمات لم افهم منها شيء ، سحبت الألبوم برقة ، راحت تقبل الصور ، تظمها الى صدرها جوار رأس الشابة التي القت برأسها على صدر المرأة تبكي بحرقة .
لمحت عن بعد كنيسة مريم العذراء ، قلت سيدتي ؛ سنصل الكنيسة بعد دقائق ، سنترجل من الحافلة معا ، لعلك تحتاجين المزيد من الوقت لأحتضان الألبوم ،اقدر ذلك .
حين وصلنا الكنيسة ،احتضنت الطفل مترجلا قبلهم ،تبعتني المرأة ثم الشابة .
جلسنا في الحديقة الأمامية للكنيسة ،
قصصت لهم حكاية الألبوم ، قصوا لي حكاية الصور ، ريتا ، بطرس ،مريم ، بولص بنيامين ، عذراء ، حوراء ، دنخا ، يونادم ، الدار المحترقة ، التهجير ...
استيقظ الطفل ،وجدني احتضنه ، لم يفزع ، قبلته في جبينه ، استأذنتهم قائلا : تأخرت عن الموعد المعتاد للوصول الى البيت ، اولادي علي وابنتي مريم سيقلقون ، وامهم فاطمة كذلك .
حين هممت بالمغادرة ،تذكرت الماعون ، قلت لهم ؛ لعل الماعون يخصكم ايضا ،
ابتسمت الشابة قائلة ؛
هو لك للذكرى ، تجدنا كل يوم أحد هنا في الكنيسة ،مرحبا بك .
بيتي ليس ببعيد عن الكنيسة ، قررت قطع ما تبقى من المسافة مشيا .
اقتربت من مسجد السلام الذي اصلي فيه ايام الجمعة ، دلفت الى باحته الخارجية ،وضعت الماعون على دكة مكان الوضوء ، تساقطت قطرات ماء الحنفية على الورق الشفاف بانت لي صورة رجل دين مهيب يبتسم يرتدي ملابس مهيبة ملونة زاهية .
انتهت .
سعد السوداني
العراق / بغداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى