أشعر بالوحدة مع أني لست وحيداً !!!
هي جملةٌ كتَبَها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وذيّلها برقم هاتفه، وعنوان بريده الإلكتروني. ولم يستغرب قرّاؤه ومتابعوه ممّن يعرفونه تلك العبارة وفحواها، ونسجوا من كلماتها القليلة حكاية مُسهَبة بطريقة الخطف خلفاً، فهم يعرفون بأنه تقاعد حديثاً من وظيفته، ويعرفون أيضاً بأنه فقد زوجته ورفيقة دربه منذ سنتين، لكنهم أوقعوا باللائمة في تعليقاتهم المبطّنة على ابنه المتزوّج والذي يسكن معه في نفس الدار.
واستهجن الابن وزوجته تلك الكتابة وعقابيلها، وما جرّت عليهما من القيل والقال، لكنهما خشيا من انتقاده مواجهةً ، فأوحيا لابنتهما ذات السنوات التسع أن تعاتبَ جدَّها لأنهما يعرفان مبلغ حبّه لها ، وقالت الحفيدة التي جلست في حضنه :
-أنت تعلم يا جدّي كم نحبّك ، وكم يروق لي اللعب معك
وزاد الجد من احتضانه للطفلة ، وهدهدها على فخذه حيث تجلس ، وضحك وقال:
- طبعاً ، لا شك في ذلك ، ومن لي في هذه الدنيا غيركم يا حبيبتي ؟
-فلماذا إذن تشعر بالوحدة ؟
وعلم الجدّ أنّ الرسولة الصغيرة تخفي وراء جدرانها آذاناً تستمع من أهلها ، فرفع صوته ليصل جوابه إلى المُرسِلين :
-يا حبيبتي اللطيفة ، أبواكِ يذهبان لأعمالهما وأنت تغيبين في مدرستك في النهار، وأنا سعيدٌ لاهتمامكِ بدروسكِ مساءً ، وأؤكّد على نومك المبكّر لتستيقظي إلى مدرستك بنشاط وهمّة .
-إذن سأترك المدرسة لنلعب طيلة النهار ، وهكذا ستحذف كتابتك تلك ؟
وزاد الجد من هدهدتها على فخذه ، وهمس في أذنها :
-وهل قرأتِ ما كتبت ؟
-لا ، ولكنهم قالوا إنك تشتمنا على الانترنت !
عندها زاد من نبرة صوته وكأنه يلقي خطبةً:
-لا ، لا يا حبيبتي ، أنا فخور بتفوّقك ، أما كتاباتي فلن أحذفها ، فهي مجرّد كلمات لا معنى لها ، إنها كلعبة الكمبيوتر التي تلعبينها ولكنها للكبار أمثالي ، أنا أقذف الكلمات في الهواء كما تقذفين الكرة ، وستعود الكرة إليك وتعاودين قذفها ، وهكذا تربحين نقاطاً افتراضية وتفوزين فوزاً إلكترونياً ، وسيشعرك ذلك بالسعادة .
وشيئاً فشيئاً زادت غربة الجدّ في داره ، وزادت عزلته ، وبالتالي وحدته ، لأنهم صاروا يحسّون أنهم غير مرغوب بهم في عالمه الذي بدأ يضيق ، أما الجد فصار يرى نفسه ضيفاً ثقيل الظل وإن كان في بيته ، وإن كان ابنه وعائلته الصغيرة نزلاء عنده ، وكأنّ البيت صار يغصّ بساكنيه .
ومرّت الأيام على جملته المثيرة للجدل ، وتجاوزَها المعلّقون في خضم زحام اهتماماتهم ، ولم يتناول أحد رقم هاتفه المعلن ، ولا مَن طرَقَ صندوق بريده الالكتروني ليدسّ فيه رسالة ما .
فأضاف يكتب في صفحته ، وإنما ندائي كان لساكني الأقفاص ، لأن القفص به نوافذ كثيرة رغم القضبان ويمكن التواصل من خلالها بالتغريد كالعصافير الحبيسة تجهد صوتها الذي ما زال حرّاً .
وحصدت جملته الأخيرة إعجابات أقلّ رغم كثرة مشاهديها ، فلماذا تثرثر أيها العجوز الهرم إذ تشبّه نفسك بالعصافير ؟ .. يكفيك فخراً أنهم يقدّمون لك طعامك ودواءك في حمأة سعيهم وراء عملهم وأرزاقهم .
ثم أضاف سطوراً وأسطراً بين الفينة والأخرى ، وتتناول نفس الموضوع ، وصار القرّاء يتجاهلونها بطريقة الطفو فوقها ، حتى أن بعضهم قام بحذف صفحة هذا الخرِف الذي يريد أن يضع نفسه في دائرة الضوء ، أما الضوء ففي مداراتٍ أخرى حيث الأقمار البدور الدوّارة والنجوم المتلألئة السيّارة .
وكم كان سعيداً بتناقص قرائه ومتابعيه ! .. وكم كان فرحاً بإزاحته عن دائرة الضوء ، لأن صفحته ما تزال له ، ولأنه صار يكتب بحرّية بلا رقيب ولا حسيب .
وكتب أيضاً ، وحتى السجين في سجنه ينشئ صداقات وعلاقات حديثة مع السجناء أمثاله ، فهم جميعاً بغنى عن نزلاء الهواء الطلق والشمس الشمّوسة ، وجملته تلك مرّت في الظلام ، لأنها موجّهة إلى السجناء أرباب السوابق ، وأولئك عادة ليست لهم صفحات على مواقع التواصل .
كان ابنه الشاب سعيداً بما يكتب والده ، خاصة بعد أن أيقن الجيران والمعارف بأنها هرطقات تخريفية من عجوز يناجي عالمَه الذي سينسحب منه إلى الآخرة التي ضمّت معظم أصدقائه الراحلين ، فصار من المتابعين له ، بل والمعلّقين بعباراتٍ تشجيعية قريبة من التصفيق لشاعرٍ يلقي قصيدة بلا جمهور لأنه خلف الكواليس .
أما الزوجة الشابة التي طفت أيضاً فوق ثرثرات عمّها ، فقد لاحظت أنّ هاتفَه الجوال يرن كثيراً ، ويغلقه ، وينسحب إلى غرفته ليعاود الاتصال بصوت قريب إلى الهمس ، فهل يتآمر عليهم ؟ وهل يتفق مع أحد المكاتب العقارية ليبيع البيت الذي يملكه ، متناسياً أنهم ساكنوه ووارثوه ؟ وأثار ذلك فضولها وقلقها .
ولاحظت أيضاً ، بأن الجدّ صار يهتم بلباسه ، ويستعير من ابنه ربطة عنق أو رشة من عطر ، لا بل لاحظت أنه عاد لتلميع حذائه الذي كان يعتبره ضيّقاً وثقيلاً ، ثم لماذا صار يكثر من الذهاب إلى الحديقة العامة ؟ وهو الذي كان يقول إنها الشمس نفسها التي تسطع على شرفة البيت ، فلماذا نبحث عنها في الحديقة العامة ؟
الحفيدة أيضاً ، المحبّبة لديه ، هي المفتاح ، فلترافقه إلى الحديقة ، لتكشف سرّه قبل أن تتصرّف الزوجة التي تناهبتها الهواجس . وزاد الطين بلّة أن الجدّ رفض مرافقة حفيدته له إلى الحديقة بحجّة البرد لهذا اليوم ، والكورونا المنتشرة ، ولوجود كلبٍ شاردٍ يعضّ الأولاد في الحديقة ، وبأنه لا شك سيعود لحفيدته بلوحٍ كبير من الشوكولا ، كل ذلك جعل الزوجة تتقمّص شخصية المتلصّص الخفيّ على مشوار عمّها ، لتكشف السرّ الذي يُخفيه .
ومن بعيد لبعيد ، كانت تراه ولا يراها ، وتستغرب ما يقوم به ، ها هو يسرق وردات من الحديقة ، ويتلفّت يمنة ويسرة متّقياً صفارة حارسها . ها هو ، وصارت في يده طاقة من زهور متنوعة ، وها هو يُعيد تنسيقها وكأنه سيُقدّمها لمريض في مشفى أو لأحدٍ ما ، قطعاً لن يعود بها إلى البيت لأنه عندها سيرتّبها ضمن مزهريتها ، فلمن ورداتك أيها العجوز ؟
آخر ما فكّرَتْ به تلك المتلصّصة أن تكون باقة الورد لامرأةٍ ما تنتظره !
ليست عجوزاً ، واقتربت منهما أكثر ، لنقل إنها عجوز متصابية ، والطيور على أشكالها تقع ، مصبوغة ومعادٌ ترميمها كعمّها الذي أكثرَ اليوم من الصباغ على حذائه ، وأغرق من العطر على ثيابه ، واختار ربطة عنق زاهية لا تليق بلون بدلته الرمادي .
إنها امرأة إذن تلك التي تشغله ، لا بل ...وتسرقه !
إنها أخطر من المكتب العقاري الذي يبيع البيوت ، إنها تسرقنا كعائلة ، وهذا ما تناهى إلى تفكيرها ، ولم تستطعْ ضبط أعصابها وهي ترى من بعيد ، ورأتها تقف له وتتسلّم منه باقة الورد ، لا بل رأته يزرع وردة حمراء بياقة معطفها ، لا بل رأت في تمازجهما الظاهر إنذاراً ببركان قد ينفجر أو زلزال يميد تحت البيت الموروث .
فاندفعت نحوهما كشرطيّ الآداب يريد أن يوثّق الجريمة ساعة حدوثها ، وما اكترثت لذهول عمها ولا لدهشة تلك المرأة ، وامتدّت يدها نحو الوردة الحمراء التي ما زالت معلّقة كوسام على صدر المرأة وقطفتها ثانية وداستها ، وصاحت :
-ألا تخجلان ؟ تتصرّفان كالمراهقين !
وامتصّ الرجل الكبير ثورتها بأن احتضنها ليُخفي وجهها الغاضب ، وقال لصديقته :
-إنها ابنتي التي تخاف عليّ من الخروج وحيداً
وخجلت الكنّة ، وشعرت بصغرها أمام كبره ، فدفنت رأسها عميقاً في صدره ، وشعر بها تبكي خجلاً ، فعاود القول مبرراً:
-أنا وأم سمير من العصافير ساكني الأقفاص ، نلتقي هنا ، نغيّر هواء أقفاصنا فقط ، نغرّد لبعضنا بطريقة المناجاة والمواساة ، لا تخافي يا ابنتي الحبيبة ، فأم سمير ستستضيفني قريباً بقفصها الذي تسكن فيه لوحدها ، ولن تزاحمنا في قفصنا أي قفصكم الصغير الذي سأتركه لكم !
*******************
هي جملةٌ كتَبَها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وذيّلها برقم هاتفه، وعنوان بريده الإلكتروني. ولم يستغرب قرّاؤه ومتابعوه ممّن يعرفونه تلك العبارة وفحواها، ونسجوا من كلماتها القليلة حكاية مُسهَبة بطريقة الخطف خلفاً، فهم يعرفون بأنه تقاعد حديثاً من وظيفته، ويعرفون أيضاً بأنه فقد زوجته ورفيقة دربه منذ سنتين، لكنهم أوقعوا باللائمة في تعليقاتهم المبطّنة على ابنه المتزوّج والذي يسكن معه في نفس الدار.
واستهجن الابن وزوجته تلك الكتابة وعقابيلها، وما جرّت عليهما من القيل والقال، لكنهما خشيا من انتقاده مواجهةً ، فأوحيا لابنتهما ذات السنوات التسع أن تعاتبَ جدَّها لأنهما يعرفان مبلغ حبّه لها ، وقالت الحفيدة التي جلست في حضنه :
-أنت تعلم يا جدّي كم نحبّك ، وكم يروق لي اللعب معك
وزاد الجد من احتضانه للطفلة ، وهدهدها على فخذه حيث تجلس ، وضحك وقال:
- طبعاً ، لا شك في ذلك ، ومن لي في هذه الدنيا غيركم يا حبيبتي ؟
-فلماذا إذن تشعر بالوحدة ؟
وعلم الجدّ أنّ الرسولة الصغيرة تخفي وراء جدرانها آذاناً تستمع من أهلها ، فرفع صوته ليصل جوابه إلى المُرسِلين :
-يا حبيبتي اللطيفة ، أبواكِ يذهبان لأعمالهما وأنت تغيبين في مدرستك في النهار، وأنا سعيدٌ لاهتمامكِ بدروسكِ مساءً ، وأؤكّد على نومك المبكّر لتستيقظي إلى مدرستك بنشاط وهمّة .
-إذن سأترك المدرسة لنلعب طيلة النهار ، وهكذا ستحذف كتابتك تلك ؟
وزاد الجد من هدهدتها على فخذه ، وهمس في أذنها :
-وهل قرأتِ ما كتبت ؟
-لا ، ولكنهم قالوا إنك تشتمنا على الانترنت !
عندها زاد من نبرة صوته وكأنه يلقي خطبةً:
-لا ، لا يا حبيبتي ، أنا فخور بتفوّقك ، أما كتاباتي فلن أحذفها ، فهي مجرّد كلمات لا معنى لها ، إنها كلعبة الكمبيوتر التي تلعبينها ولكنها للكبار أمثالي ، أنا أقذف الكلمات في الهواء كما تقذفين الكرة ، وستعود الكرة إليك وتعاودين قذفها ، وهكذا تربحين نقاطاً افتراضية وتفوزين فوزاً إلكترونياً ، وسيشعرك ذلك بالسعادة .
وشيئاً فشيئاً زادت غربة الجدّ في داره ، وزادت عزلته ، وبالتالي وحدته ، لأنهم صاروا يحسّون أنهم غير مرغوب بهم في عالمه الذي بدأ يضيق ، أما الجد فصار يرى نفسه ضيفاً ثقيل الظل وإن كان في بيته ، وإن كان ابنه وعائلته الصغيرة نزلاء عنده ، وكأنّ البيت صار يغصّ بساكنيه .
ومرّت الأيام على جملته المثيرة للجدل ، وتجاوزَها المعلّقون في خضم زحام اهتماماتهم ، ولم يتناول أحد رقم هاتفه المعلن ، ولا مَن طرَقَ صندوق بريده الالكتروني ليدسّ فيه رسالة ما .
فأضاف يكتب في صفحته ، وإنما ندائي كان لساكني الأقفاص ، لأن القفص به نوافذ كثيرة رغم القضبان ويمكن التواصل من خلالها بالتغريد كالعصافير الحبيسة تجهد صوتها الذي ما زال حرّاً .
وحصدت جملته الأخيرة إعجابات أقلّ رغم كثرة مشاهديها ، فلماذا تثرثر أيها العجوز الهرم إذ تشبّه نفسك بالعصافير ؟ .. يكفيك فخراً أنهم يقدّمون لك طعامك ودواءك في حمأة سعيهم وراء عملهم وأرزاقهم .
ثم أضاف سطوراً وأسطراً بين الفينة والأخرى ، وتتناول نفس الموضوع ، وصار القرّاء يتجاهلونها بطريقة الطفو فوقها ، حتى أن بعضهم قام بحذف صفحة هذا الخرِف الذي يريد أن يضع نفسه في دائرة الضوء ، أما الضوء ففي مداراتٍ أخرى حيث الأقمار البدور الدوّارة والنجوم المتلألئة السيّارة .
وكم كان سعيداً بتناقص قرائه ومتابعيه ! .. وكم كان فرحاً بإزاحته عن دائرة الضوء ، لأن صفحته ما تزال له ، ولأنه صار يكتب بحرّية بلا رقيب ولا حسيب .
وكتب أيضاً ، وحتى السجين في سجنه ينشئ صداقات وعلاقات حديثة مع السجناء أمثاله ، فهم جميعاً بغنى عن نزلاء الهواء الطلق والشمس الشمّوسة ، وجملته تلك مرّت في الظلام ، لأنها موجّهة إلى السجناء أرباب السوابق ، وأولئك عادة ليست لهم صفحات على مواقع التواصل .
كان ابنه الشاب سعيداً بما يكتب والده ، خاصة بعد أن أيقن الجيران والمعارف بأنها هرطقات تخريفية من عجوز يناجي عالمَه الذي سينسحب منه إلى الآخرة التي ضمّت معظم أصدقائه الراحلين ، فصار من المتابعين له ، بل والمعلّقين بعباراتٍ تشجيعية قريبة من التصفيق لشاعرٍ يلقي قصيدة بلا جمهور لأنه خلف الكواليس .
أما الزوجة الشابة التي طفت أيضاً فوق ثرثرات عمّها ، فقد لاحظت أنّ هاتفَه الجوال يرن كثيراً ، ويغلقه ، وينسحب إلى غرفته ليعاود الاتصال بصوت قريب إلى الهمس ، فهل يتآمر عليهم ؟ وهل يتفق مع أحد المكاتب العقارية ليبيع البيت الذي يملكه ، متناسياً أنهم ساكنوه ووارثوه ؟ وأثار ذلك فضولها وقلقها .
ولاحظت أيضاً ، بأن الجدّ صار يهتم بلباسه ، ويستعير من ابنه ربطة عنق أو رشة من عطر ، لا بل لاحظت أنه عاد لتلميع حذائه الذي كان يعتبره ضيّقاً وثقيلاً ، ثم لماذا صار يكثر من الذهاب إلى الحديقة العامة ؟ وهو الذي كان يقول إنها الشمس نفسها التي تسطع على شرفة البيت ، فلماذا نبحث عنها في الحديقة العامة ؟
الحفيدة أيضاً ، المحبّبة لديه ، هي المفتاح ، فلترافقه إلى الحديقة ، لتكشف سرّه قبل أن تتصرّف الزوجة التي تناهبتها الهواجس . وزاد الطين بلّة أن الجدّ رفض مرافقة حفيدته له إلى الحديقة بحجّة البرد لهذا اليوم ، والكورونا المنتشرة ، ولوجود كلبٍ شاردٍ يعضّ الأولاد في الحديقة ، وبأنه لا شك سيعود لحفيدته بلوحٍ كبير من الشوكولا ، كل ذلك جعل الزوجة تتقمّص شخصية المتلصّص الخفيّ على مشوار عمّها ، لتكشف السرّ الذي يُخفيه .
ومن بعيد لبعيد ، كانت تراه ولا يراها ، وتستغرب ما يقوم به ، ها هو يسرق وردات من الحديقة ، ويتلفّت يمنة ويسرة متّقياً صفارة حارسها . ها هو ، وصارت في يده طاقة من زهور متنوعة ، وها هو يُعيد تنسيقها وكأنه سيُقدّمها لمريض في مشفى أو لأحدٍ ما ، قطعاً لن يعود بها إلى البيت لأنه عندها سيرتّبها ضمن مزهريتها ، فلمن ورداتك أيها العجوز ؟
آخر ما فكّرَتْ به تلك المتلصّصة أن تكون باقة الورد لامرأةٍ ما تنتظره !
ليست عجوزاً ، واقتربت منهما أكثر ، لنقل إنها عجوز متصابية ، والطيور على أشكالها تقع ، مصبوغة ومعادٌ ترميمها كعمّها الذي أكثرَ اليوم من الصباغ على حذائه ، وأغرق من العطر على ثيابه ، واختار ربطة عنق زاهية لا تليق بلون بدلته الرمادي .
إنها امرأة إذن تلك التي تشغله ، لا بل ...وتسرقه !
إنها أخطر من المكتب العقاري الذي يبيع البيوت ، إنها تسرقنا كعائلة ، وهذا ما تناهى إلى تفكيرها ، ولم تستطعْ ضبط أعصابها وهي ترى من بعيد ، ورأتها تقف له وتتسلّم منه باقة الورد ، لا بل رأته يزرع وردة حمراء بياقة معطفها ، لا بل رأت في تمازجهما الظاهر إنذاراً ببركان قد ينفجر أو زلزال يميد تحت البيت الموروث .
فاندفعت نحوهما كشرطيّ الآداب يريد أن يوثّق الجريمة ساعة حدوثها ، وما اكترثت لذهول عمها ولا لدهشة تلك المرأة ، وامتدّت يدها نحو الوردة الحمراء التي ما زالت معلّقة كوسام على صدر المرأة وقطفتها ثانية وداستها ، وصاحت :
-ألا تخجلان ؟ تتصرّفان كالمراهقين !
وامتصّ الرجل الكبير ثورتها بأن احتضنها ليُخفي وجهها الغاضب ، وقال لصديقته :
-إنها ابنتي التي تخاف عليّ من الخروج وحيداً
وخجلت الكنّة ، وشعرت بصغرها أمام كبره ، فدفنت رأسها عميقاً في صدره ، وشعر بها تبكي خجلاً ، فعاود القول مبرراً:
-أنا وأم سمير من العصافير ساكني الأقفاص ، نلتقي هنا ، نغيّر هواء أقفاصنا فقط ، نغرّد لبعضنا بطريقة المناجاة والمواساة ، لا تخافي يا ابنتي الحبيبة ، فأم سمير ستستضيفني قريباً بقفصها الذي تسكن فيه لوحدها ، ولن تزاحمنا في قفصنا أي قفصكم الصغير الذي سأتركه لكم !
*******************