محمد مزيد - انكسار الضوء

صعدت في القطار الذاهب الى أنقرة، من المدينة التي أسكنها، تكتظ العربة بالمسافرين، يقف بعضهم في الممر، أنا في الخمسين من العمر، لا اتحمل الوقوف سبع ساعات، لعنت صاحبي الذي أقترح عليّ بصعود قطارات الليل، بزعم انهم يغضون النظر عن المدخنين بين فوصل العربات او في التواليت.
نظرت الى وجوه الرجال والنساء وهم جالسون على مقاعدهم، بعضهم نائم، والبعض الاخر يقلب بهواتفهم، لا أحد يرأف بعمري ليجلسني مكانه.
في آخر العربة، وجدت فتاة ذات سحنة سمراء شديد السواد، تجلس على حقيبة كبيرة تقرأ كتابا، يا للجمال، في هذه الزحمة البشرية، يمكنك أن تعثر على امرأة تقرأ، فذهبت اليها، ثمة شيء ما جذبني نحوها.
وقفت بجانب الفتاة السوداء، ترتدي بنطلونا من الكتان الأبيض وقميصا ازرق يبرز مفاتنها. وجهها دائري، يشع بابتسامة حزينة، وهي تقرأ، كأنما تجري حوارا مع الكتاب الذي تحمله بيدها اليمنى، واليد الأخرى وضعتها تحت مؤخرتها، لم ترفع الفتاة رأسها الى الواقف بجانبها، كنت أحاول معرفة عنوان الكتاب.
فجأة، اكتشفت الفتاة انني اقف فوق رأسها، أبحلق بحروف الكتاب، لكن ضعف بصري لم يسمح لي بمعرفة لغة الحروف، نظرت الي مبتسمة، لاحظت عينيها سوداوين شديدة السواد، لكن حزنا عجيبا يغلفهما، تزحزحت الى الطرف الايسر من الحقيبة، وأشارت لي بالجلوس بجانبها، لم أتردد، جلست فورا، متجنبا الاحتكاك بفخذها الأيمن، جسدها ضعيف، خمنت ان طولها معتدل، تبدو أقصر مني، اتسعت ابتسامتها اكثر، غمرني وجهها الملائكي وهي تبتسم لي بحنو بالغ . " ما هذه السعادة التي هبطت على فجأة " قلت ذلك في نفسي.
نحن الان في منتصف الليل، هناك سبع ساعات طويلة مملة، حتى يصل القطار الى انقرة،أبتسمت لها أيضا، سألتها " ما عنوان الكتاب من لطفك؟ " لم تجبني، غير انها قلبت الكتاب الى جهة الغلاف، قرأت " إنكسار الضوء " عنوان رواية لكاتب لا أعرفه، باعتباري دودة كتب، اذن الفتاة عربية، فقالت " أنا من الصومال، وأنت ؟ " قلت لها " أنا عراقي من بغداد، أعيش بتركيا بصفة لاجئ " .
لا أعرف، إن كانت مستعدة للحديث معي، لكن أبتسامتها وهي تظهر صف أسنانها البيض مثل اللؤلؤ، شجعني للقول " إنكسار الضوء، عنوان غريب، ماذا يعني ؟ " فقالت، وقد اختفت ابتسامتها، حل الوجوم والحزن على وجهها المدور الجميل " هذه الرواية تتحدث عن عاشقين ألتقيا على ساحل بحر العرب، لكنهما " توقفت عن الكلام، ترقرقت الدموع بعينيها، تعاطفت معها، لم أستوعب أن تسبب رواية، كل هذا الحزن المدمر، فقالت " هذه الرواية تتحدث عني، كتبها المؤلف عن حياتي " ثم اجهشت بالبكاء، فذعرت، لا أعرف ماذا أفعل؟ وماذا أقول؟ خشيت أن يتدخل الركاب، ليستفهموا عن سبب بكاء هذه الفتاة الجميلة، سألتها : هل المؤلف على صلة بك ؟ " قالت " نعم، هو حبيبي، قبل مقتله، كتب هذه الرواية ".. تأسفت حقا لأن صوتها الناعم الذي دخل الى مسامعي مثل الموسيقى، بدأ يتغير بحشرجات ونبرات حزن مترسب كثيف، لا يمكنني احتواءه، تحدثت " انكسار الضوء، يعني أنا، يسميني عصفورة السماء، دخلت حياته مثل الضوء، أنا من قرية تطل على بحر العرب، وهو من العاصمة مقديشو، يعمل مبرمجا على الحاسبات، جاء الى قريتنا، مع أمه وأخته، هربا من الجماعات المتشددة، ألتقيت به مصادفة على ساحل البحر، كنت أنا في ذلك اليوم، وكل يوم، أقف على الساحل، أراقب النوارس، أتمنى الطيران مثلها، هو كأي غريب، لابد أن يلجأ الى البحر .
لاحظت أن عربة القطار تحولت الى ما يشبه قاعة زرقاء، يلوذ البشر فيها بالصمت والنوم، سحرني صوتها، بدأت أستمع الى دقات قلبها أو هكذا خيل اليّ ، قالت " بعد اللقاء الأول، التقيت به ثانية، وثالثة، وفي يوم الرابع سبحنا في البحر، جردني من كل شيء، هناك في أعماق البحر، ونحن نمارس الحب ، شاهدنا معا إنكسار الضوء " .
صعدت في داخلي أنواع غريبة من الهسهسة، تتحدث هذه الفتاة بحرية وجرأة، كما لو كانت تتحدث مع نفسها، ثم قالت " عندما خرجنا من البحر، لاحظت أن عصافير زرق تصعد من أمواج البحر الى السماء " أعجبتُ بكلامها، قلت لها " يا للتشبيه !! عصافير زرق؟ " فقالت " نعم، أنا وأنت وكل هؤلاء البشر، سيتحولون الى عصافير زرق في الأعلى " .
توشوشت، الى درجة انني، بدلا من الخوض في هذا الحديث الحلمي، صمتُ، أريد أن أستمع الى المزيد من عزف موسيقى صوتها الحزين، قالت " بعد أيام سلمني أوراقا، كتبها في ليلة واحدة، قال لي هذه قصتنا " ولم تمض سوى أيام معدودة، حتى قتل، قتلوه لانهم أكتشفوا انه على علاقة معي، أنا هربت من الصومال عبر مساعدة بحارة غرباء، ومعي الرواية "، ناولتني الرواية، كي اقلب بها ، قرأت السطر الأول ، " سيقتلون حبنا، ثم ينكسر الضوء، ولا يتركون لنا مساحة من الحرية للعيش " .. قلت لها بداية مشجعة ومثيرة " فقالت " يمكنك الاحتفاظ بالكتاب، لأنني أحمل في داخل الحقيبة عددا لا بأس بها " .
طر الفجر، وصلنا الى انقرة، بدأ الركاب يستعدون للنزول، ولما توقف القطار في المحطة الأخيرة، قالت " ساعدني بحمل الحقيبة رجاء " سرت خلفها وأنا أنوء بحملها، تمشي أمامي بخطواتها المثيرة، وصلت الى الباب خلفها، كدت التصق بها، فالتفتت اليّ، وأبتسمت تلك الابتسامة الحزينة الساحرة، ثم افردت جناحيها وطارت، حلقت مثل العصفور في سماء انقرة الزرقاء .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى