أ. د. عادل الأسطة - تلك القدس... ذلك السبت

من ماتوا ماتوا مرة
وأعاقر كأس الموت هنا في أيام السبت المرة
ألفي مرة
أمقتها، كم أمقتها أيام السبت
أرشقها بنبال الرفض وحشرجة القلب المذبوح
وأجدف تحت معاناتي وأئن وصدري مفتوح
يا وطني .. آه يا وطني

فدوى طوقان



حين أخذت أحدق في الساعة التي ثبتت على دوار الحسين في مدينة نابلس ترددت كثيراً قبل أن أذهب إلى مدينة القدس، وأمعنت النظر مرة أخرى لأرى عقارب الساعة، غير أنها ظلت في مكانها وكأن الزمن قد توقف في مدينة نابلس غير راغب في المسير. كانت الشوارع خالية إلا من بعض الباعة وبعض السيارات التي تقل الركاب، وكان صوت عبد الحليم حافظ يرتفع من إحدى المسجلات المثبته على عربة لبيع الأشرطة، ومع ارتفاع صوته كان بائع الأشرطة يرفع صوته مكرراً مردداً ما يكرره المغني: كل ما أملي معاي معاي وبأيدي سلاح. ولعلي تساءلت لحظتها إن كان بائع الأشرطة هو الذي أوقف الساعة عمداً، ليظل يعيش على الذكريات، غير أبه بالحاضر وبالمستقبل وما يحمله من تطورات، وقلت: لعله أدرك أن القادم أسوأ فقرر أن لا يعيش الانكسارات والهزائم.

كان الجو خريفياً، وطلبة المدارس الذين عادوا إلى بيوتهم لم يفضلوا التسكع هذا النهار، ذلك أن دوريات حرس الحدود كانت تجوب شوارع المدينة بكثرة، على عادتها كل سبت. وعدت بذاكرتي إلى الوراء: لقد كانت المدينة قبل شهرين مكتظة بالمواطنين، ليس أيام السبت وحسب، بل أيام الأسبوع كلها، لقد كان أبناء المدينة موجودين فيها بعد عودتهم من دول الخليج التي يعملون فيها، ثم غادروها بعد انتهاء أجازاتهم. وعادت المدينة خاوية إلا من شباب قليلي العدد وشيوخ ونساء وطلبة.

نطرت إلى الساعة مرة ثالثة، كانت عقاربها على ما هي عليه: واقفة لا تتحرك، وبدا زجاجها متسخاً، لدرجة أن أحد العقارب لم يكن واضحاً إلا قليلاً، ولقد ارتفع صوت وردة الجزائرية فيما خفت صوت عبد الحليم، وأخذت أسير نحو موقف سيارات القدس ملغياً حالة التردد التي كانت قد أصابتني. لقد كنت أود الذهاب لأعرف السبب الذي حال دون صدور الصفحة الأدبية في جريدة الشعب.

قبل أن أصل إلى موقف السيارات كان بائعو الخضار يصرخون لتسويق بضاعتهم مكررين مفردة: يا بلاش، وكان أحد المارة الذي يسير بمحاذاتي ينظر إلى الفاكهة، ولكنه أبداً لم يجرؤ على الاقتراب من العربات و "يابلاش" هذه كانت مزعجة له أشد ما يكون الإزعاج، ولقد أتضح لي ذلك حين علق على العبارة: انا ببلاش. ولقد كان محقاً فيما قاله، ذلك أن الأسعار كانت ترتفع بشكل لا يصدق، ولم تعد للنقود الإسرائيلية قيمة على الإطلاق، وكان الناس في نابلس كثيراً ما يقولون: ما ظل شيء أرخص من الإنسان.

ولقد زالت حالة التردد التي كانت قد اعترتني لحظة وصلت إلى موقف السيارات، ولم يعد من مقاعد السيارة فارغاً إلا مقعد واحد، وبلا أدنى تفكير وجدت نفسي جالساً على المقعد الشاغر. في البداية بدأت أقلب صفحات جريدة القدس التي اشتريتها صباحاً، ثم سرعان ما لفت انتباهي حديث بين شخصين بدا أنهما موظفان في أحد المعاهد العليا في الضفة الغربية. تحدثا عن المنح التي توفرها مؤسسة (الأمدايست) الأميركية للجامعات والمعاهد والبعثة التي سيحصل عليها احدهما. إذ كان قد قابل قبل، فترة، لتحديد موعد السفر، وكان عليه أن يتذكر موعد المقابلة، غير أنه أخفق في تحديد اليوم والتاريخ فطلب مساعدة زميله، الذي لم يتذكر من موعد المقابلة المذكور إلا حضور زميلة لهما كانت قد أحضرت معها ذلك اليوم سلة من التين. وهكذا فقد تذكرا يوم المقابلة: يوم أحضرت فلانة سلة التين. لقد ضحكت ضحكة مسموعة، حين علقت: تماماً كما ولد أخي يوم الثلجة.

وتذكرت الساعة التي ثبتتها بلدية نابلس على الدوار، وقلت: هل أصبحت الساعة شاهداً على عادات النابلسيين، وأبت إلا أن تصبح تماماً مثلهم؟

كنت أمعن النظر على جانبي الطريق حتى أنفق الوقت وأصل إلى القدس، فلقد كنت متلهفاً لمعرفة السبب، ولعلني قلت: لعلهم استغنوا عن خدماتي، كان معسكر حوارة هادئاً، ولم يبد حزيناً على الإطلاق. وقلت: أتراه لا يحزن على الأيام الخوالي؟ لقد كان معسكر حوارة معسكراً للجيش الأردني قبل عام 1967. ولا أذكر اليوم بالضبط أول مرة جئت إلى هذا المكان، غير أني ما زلت أذكر السبب: يومها كنت طالباً في الابتدائية، وبلا مقدمات طلب منا الأساتذة الاستعداد لاستقبال الملك حسين، ذلك أننا كثيراً ما كنا نخرج لاستقبال زائر أو ضيف أو مسؤول كبير. والمرة التي فجعنا فيها يوم كنا صغاراً، كانت يوم زار الحبيب بورقيبة القدس والضفة الغربية. ما زلت أذكر أننا وقفنا، نحن جميع طلبة المدارس، منذ الصباح لرؤية الرئيس، وكان الحر شديداً يومها، غير أننا لم ندر إن مر أو لا، وعدنا إلى بيوتنا نتساءل: هل مر الرئيس؟ قلت وأنا أرى بعض جنود جيش الدفاع الإسرائيلي: تلك الأيام دول؟ ولكنني أضفت: أما زال جيشاً للدفاع ؟.

كانت عقارب الساعة تسير ببطء شديد، والسائق الذي فتح المذياع على أخبار الظهيرة لم يبد معنياً بالوصول سريعاً. كانت يده اليمنى على المقود، فيما يده اليسرى على شباك السيارة، وكان يسير، لعله كان يفكر في أشياء كثيرة، لا أدري لم لم يتكلم عن ضريبة الدخل والضريبة الإضافية التي فرضتها سلطات الاحتلال قبل ثلاثة أعوام؟ لعله وجد أن الحديث مضيعة للوقت الضائع، وأن لا جدوى من الشكوى. وكنت الوحيد الذي علق على سائق سيارة إسرائيلية كان يسير بلا اكتراث في وسط الطريق: إذا كان العرب لا يسألون عنا فلم لا يستلطخنا؟

ولعل الجميع كان ينظر إلى المستوطنات التي أقيمت حديثاً، والى الطرق التي شقتها الجرافات الإسرائيلية، ولقد تذكرت لحظتها أقوال احد إخواننا من عرب الداخل يوم قال: تستطيع التمييز بين القرية العربية والمستوطنة الإسرائيلية من خلال نظرتك للشارع، فإذا كان واسعاً مسفلتا فاعلم أنه يؤدي إلى مستوطنة.

وحين وصلنا مشارف رام الله كان ثمة حاجز تفتيش. وبحركة لا إرادية وجدتني أضع يدي على جيبي لأتحسس الهوية الإسرائيلية، كانت ذات لون أزرق قاتل كسماء ذاك اليوم، لقد ناولته الهوية دون أن أتفوه بأية كلمة، وحين تحدث بالعبرية فهمت ما قال ولكنني تجاهلت تجاهل العارف، فما زلت اذكر ذلك اليوم الذي صفعت فيه صفعة لا تنسى. كنت ذاهباً إلى المدرسة التي أعلم فيها وطلب مني أحد حرس الحدود العودة، وحين حاولت أن أكلمه بالعبرية التي تعلمت قليلاً منها حديثاً أجابني:

- أنا أكلمك عربي.

كان ضجراً، ولعله كان حزيناً أيضاً، ولم أشأ يومها الإطالة في الحديث، ولكنني قلت: أنه درس ينبغي ألا ينسى.

في الطريق من رام الله إلى القدس، كانت البنايات تنتشر على طرفي الشارع، نظيفة أخاذة لافتة للنظر، وكان جميع من في السيارة ينظر حواليه، فيما همس أحد الموظفين لزميله:

- حي الصمود

وعقب الآخر.

- حقاً انه حي الصمود.

لقد كان الحديث يومها كثيراً عن الأموال التي ينفقها هؤلاء في غير مكانه، ويبدو أنهم نجحوا في الحصول على ما يريدون بعد أن خدعوا إخواننا الذين هناك، أي في خارج الوطن حين كانوا يزعمون أن القدس تضيع رويداً رويداً بسبب الصراع على الأرض وتعميرها، ولقد كانت الطريق من مستشفى العيون إلى جمعية الشبان المسيحية، فالقنصلية الأميركية، فموقف السيارات، قرب باب العامود، شبه فارغة وحين فتحت باب السيارة صرخ علي السائق:

- الأجرة

لقد كنت الوحيد الذي لم يعطه الأجرة، ويبدو أن إمعان النظر في جانبي الطريق هو الذي شغلني عن ذلك.

حين نظرت إلى باب العامود، وجدت سيلاً هائلاً من البشر، كأن المدينة هذه غير المدينة التي أعرفها وتساءلت: هل هي القدس؟؟ عشرات من البشر: رجال ونساء وأطفال من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرق. قلت: يا الهي. أأحلم؟ أين أنا؟

اتجهت يساراً، كانت الإشارة الضوئية تحول دون قطع الشارع، فقد كان اللون البادي هو اللون الأحمر، كنت أحاول الانتقال إلى طرف الشارع ولكن الشرطي على مقربة مني. همست: كل شيء ضدنا، حتى الإشارة الضوئية. فكرت للحظات في أن أعود واستقل السيارة عائداً إلى نابلس، ولكني عزفت عن ذلك، نظرت إلى الأمام: كان الطريق الممتد من باب العامود إلى مكتب البريد مكتظاً بالبشر. كانوا كأولئك الذين أبصرتهم وهم يتجمعون أمام باب العامود. البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرق. ولقد بدوت للحظة شاذاً غريباً.

- أهذه هي القدس ؟

أذكر أول مرة جئت فيها إلى هذه المدينة. كان ذلك عام 1964م حين نظمت المدرسة التي كنت فيها رحلة مدرسية إلى البحر الميت فالقدس. كان الطقس ربيعياً وكان منظر السماء جميلاً. يومها اقتادنا المدرس عبر شوارع القدس وأزقتها حتى وصلنا إلى الصخرة. ويومها نظرت إلى السماء وأنا جالس على السور الذي يحيط بالمسجد الأقصى فأبصرت نوراً قلت لعله نور الجنة. كانت القدس في مخيلتي فيضا من الاشراقات، ولحظة غادرنا المكان حزنت كثيرا، كنت أتمنى لو أبقى هناك إلى الأبد، أقيم فيها وأظل حتى أدفن في مقابرها. أنظر إلى الناس فأرى وجوها أليفة وديعة هادئة. أما الآن فأبدو نغماً نشازاً فرداً فريداً، كأنما هبط من السماء، فجأة، على مكان لم يألفه ولم يره من قبل.

هبطت الطريق الفرعية المؤدية إلى مكاتب جريدة الشعب مسرعاً. صعدت الدرج درجتين درجتين، وفتحت الباب بلا استئذان، وسرت باتجاه رئيس التحرير الذي رحب بي كعادته، وبادرته متسائلاً عن السبب الذي حال دون صدور الصفحة الأدبية يوم الخميس، فقال إن الرقابة حذفت أجزاء كبيرة من مقال، ورفضت نشر مقال آخر وقصة قصيرة وقصيدة، ولم نكن طبعنا المواد الاحتياطية التي أرسلتها.

تحدثنا قليلاً عن الأدب والأوضاع السياسية والقدس يوم السبت، وبدا حزيناً. وقال: إذا ظلت الأوضاع على ما هي عليه فهذا حسن، وكنت أنظر إلى لوحة كتب عليها: تذكر أن الجريدة ستصدر غداً. ابتسم لقد كان الرقيب حاضراً حين كنت أحرر الصفحة ويحتل جزءاً من ذاكرتي، كما احتل أولئك الذين يسيرون في الشوارع مساحة القلب ليصاب بالتجلط. ودعته وقفلت عائداً إلى المدينة التي أتيت منها. ولأول مرة لم أفكر بالذهاب إلى مكتبة المحتسب في شارع صلاح الدين لرؤية الكتب وشراء ما أراه مناسباً. كنت أسير بخطى سريعة لأصل إلى موقف سيارات نابلس، غير آبه أيضا ببائع الكعك المقدسي الذي كان مشغولا ببيع ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر، ذلك الذي عرفني لكثرة ما اشتريت منه، فقد كان لزاما علي أن اشتري، كلما زرت القدس، كعكا مقدسياً، ذلك أن أمي كانت توصيني باستمرار أن أحضره معي لأنه من المدينة المقدسة التي زارها الرسول وأسرى منها ليلاً. وتمنيت لو أنني أصل نابلس فجأة، فقد كانت القدس تختفي ولا أرى منها ما كنت أراه، وبدا لي – وأنا أسير – أنني في مكان آخر غير القدس، مكان لا أشعر فيه بالدفء، مكان يبعث في القلق والرعب والخوف، وحين اقتربت من المقهى القريب من موقف السيارات كانت إذاعة عربية تبث نشرة أخبار الساعة الثانية ظهراً، وكان المذيع يتحدث عن القدس والأهل الصامدين بصوت حاد، غير أنه بدا لي تافهاً وغير ذي بال، فقد كنت أصغر وأصغر ولا أقوى إطلاقاً على التحديق في وجوه الآخرين. لقد كنت فرداً شاذاً في هذا الجمع البشري الهادر. ولا شعورياً – وأنا أصعد السيارة – بدأت أقرأ سورة الفاتحة على المدينة التي كنت أعرفها.

(الشعب 1986م)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى