تشكل الضوضاء العالية خلفية مزعجة اعتادتها أذني فلم تنتبه إليها إلا حين شذ نفير عال متصل أشعر أنه موجه لي أنا بالذات، فأسرع الخطى دون أن ألتفت لمصدره، وهكذا في خطوات سريعة واثقة أعبر الميدان كي أواجه مدخل المحطة الأرضية، وقبل أن ألتهم سلالم المحطة تمر عيني سريعًا على بائع الساعات، والمتسول ذي اليد المسلوخة، وبائع الولاعات والملابس الداخلية، ولا ينجح في شد انتباهي سوى بائع الصحف والمجلات فأقف أمامه برهة أطالع بعيني العناوين سريعًا.. وتنقبض خلايا وجهي في امتعاض حين أرى صورة -تكررت كثيرًا- لكلب يتبول على أسد تثقله الأغلال، ويزداد انقباضي حين أرى صورة لمجموعة كلاب تقف كاشفة عن أسنانها القذرة أمام أنقاض أحد البيوت، لكني أبتسم في سخرية حين أرى كلمة صفر وقد احتلت عنوانًا كبيرًا بإحدى الصحف الرياضية، وكان تمثال رمسيس هو آخر لقطة في سماء الميدان ترصدها عيني قبل أن أهبط مع أمواج البشر إلى المحطة..
التكييف في هذا الجو يُعَدّ اختراعًا مدهشًا وأنفاق المحطة لا تخلو منه، كما لا تخلو من الإعلانات الكبيرة في كل اتجاه..
رباه ما أجمل هذا الإعلان.. إن الشاب المفتول يشرب بنهم شديد شيئًا مثلجًا ويعتلي في نفس الوقت موجة بحر عالية باستخدام لوح رياضي رشيق.. إنه أحد أحلامي -حين كنت أحلم قديمًا دون قيود- أن أخوض البحر وأن تضايقني الأمواج في عاصفة رهيبة أتغلب عليها، الأمر الآن لا يختلف كثيرًا فأنفاق المترو تبتلعني كالبحر وأمواج الزحام تضايقني كثيرًا، لكني في الواقع أحب هذا المكان ربما بسبب السرعة المنظمة، أو لأني ما لم أكن أتقدم فأنا أتأخر والمترو دائمًا يتقدم نحو هدف واضح.
إحساس رائع أن أكون تحت الأرض.. لو أني أملك النظارة ذات الأشعة تحت الحمراء أو عين سوبرمان البطل الأمريكي الصنع لرأيت الآن المترو القديم يسير فوقي، ورأيت بائع الأخبار يسير فوق الجميع، أجمل ما في المترو المحطات تحت الأرضية، وأجمل ما فيها أنها تخلو من المتسولين، لو أن الشهيد ياسين البطل ذا الشلل الرباعي والذي يعجز عن إبعاد ذبابة عن وجهه احترف مهنة التسول لحقق ثروة هائلة..
حين وصل تفكيري لهذا الجزء وضعت ذراعي اليمنى -وأنا جالس- فوق فخذي، وتأملت تناسق العضلات فيه وقبضت على تذكرة المترو بقوة كي تنتفخ أوردتي في مشهد أحب أن أكرره من حين لآخر، لكني رفقت بحال التذكرة الرقيقة فأخرجتها من بين أصابعي دون أن يمسها أدنى أذى...
ملساء هي ومرنة ولا غنى عنها -تمامًا كالمرأة- للدخول أو الخروج من الأنفاق، وضعتها في جيب القميص حين دوى صوت عجلات المترو معلنًا وصوله وبقوة الدفع (لا المشي) وجدت نفسي داخل إحدى العربات وقد التصقت الأجساد أو كادت..
كنت أتمنى أن أكون جالسًا الآن كي أفسح مكانًا لهذا الطفل الرضيع هو وأمه أو جدته لا أدري فهي أكبر من أمي سنًّا لا شك. أحاول دائمًا أن أغض بصري داخل العربة، لكنه يصطدم برغم إرادتي بعشرات النساء.
كنت آمل أن يخف الزحام في المحطة التالية، لكنه ازداد حتى إني ازددت التصاقًا بالباب، على يساري شاب يحمل مصحفًا صغيرًا يكاد يلصقه في وجهه، استحسنت قراءته حين ميزت بعض الآيات، وحاولت أن أحصل على هواء جديد من الشباك المفتوح على يميني وأنا قابض على الجزء المعدني من الكرسي في قوة كي لا أترنح مع فرملة المترو، وإن لاحظت أن أحدهم قصير القامة يميل بشدة على زوجته الشابة حتى ليكاد يوقعها أكثر من مرة، طالعت التذكرة في جيبي فوجدتها في أسوأ حال...
ثم بدأ الزحام يخف تدريجيًّا بعد المحطة الرابعة فوجدت الزوجة تطلب ممن اعتقدته أنا زوجها أن يبتعد قليلاً فلقد خف الزحام، وهنا ولدهشتي أنا وجميع الركاب وجدت الرجل يعيب فيها وفي النساء العاملات جميعًا، وقبل أن أتصدى له وجدت رجلاً عظيم الجثة -يقف خلف المرأة موليًا إياها ظهره- يخبره في هدوء أنه زوجها وإن لم يبتلع لسانه فسوف يجعله أضحوكة المترو.. وفعلاً لم ينطق القصير بكلمة حتى أني ابتسمت وكل من تابع الموقف...
وبمجرد أن هبط ذلك القصير من المترو، وتأكد أن الأبواب قد أغلقت وجدناه يقترب من الشباك ويصيح بألفاظ تمس عرض المرأة وزوجها.. نقلت نظري بينه وبين الزوج فوجدته يبتسم في ثقة، وكأنه يقول: كلب ينبح فلا تلتفتوا له.
لكن ذراعي رفض الفكرة فوجدت يدي اليمنى تمتد بسرعة من الشباك كي تقبض على عنق القصير، لكنها تفشل ولا تنجح سوى في إمساك القميص، وهنا كان المترو قد بدأ في التحرك بالفعل و...
ومرت اللحظات كدهور.. فيدي قابضة على القميص بشدة وهتاف بعض الركاب أن اتركه فهو كلب لا يستحق غضبي اختلط بالنباح خارج المترو...
وصلت الآن حلمية الزيتون فنزلت في خطوات لم يفارقها الغضب بعد.. وكلما تذكرت نظرته المذعورة وتوسله وهو يجري كي يجاري سرعة المترو، وحين تركته فتدحرج على الأرض وقام مسرعًا كي يعلو سبابه مرة أخرى دون أن يصلنا منه شيء..
أزداد غضبًا، وأتمنى لو فرملت المترو ونزلت له كي أؤدبه.
ومرة أخرى تطالعني صورة الكلب الذي يبول على الأسد، والكلاب الواقفين على أنقاض بيت تهدم حديثًا فيزداد غضبي حتى أكاد أنفجر...
أريد أن أفعل شيئًا.. الآن
أحدهم يهمس في أذني: تحب أخذ ثواب؟
أطالعه بدهشة كي أجد رجلاً في عمر والدي، وقبل أن أفحص باقي جسده أجيب بعفوية: طبعًا..
... أنظر إلى الدم وهو ينساب في نعومة من وريدي المنتفخ عبر أنبوبة شفافة كي يملأ كيسًا صغيرًا فأشعر براحة كبيرة.. وأبتسم.
ثم أتابع حوار الطبيب الشاب وهو يحاول أن يقنع سيدة تقف خارج سيارة الإسعاف بأن ضغطها منخفض ولا تصلح للتبرع بينما تجادله هي محاولة إقناعه بالتبرع وأنها تتلقى علاجًا منتظمًا، وقد أخبرها طبيبها المعالج أن لا مانع من التبرع بنصف لتر...
وما زال الطبيب يشيح بوجهه ويحاول إقناعها..
.. استرخيت في المقعد.. واتسعت ابتسامتي
التكييف في هذا الجو يُعَدّ اختراعًا مدهشًا وأنفاق المحطة لا تخلو منه، كما لا تخلو من الإعلانات الكبيرة في كل اتجاه..
رباه ما أجمل هذا الإعلان.. إن الشاب المفتول يشرب بنهم شديد شيئًا مثلجًا ويعتلي في نفس الوقت موجة بحر عالية باستخدام لوح رياضي رشيق.. إنه أحد أحلامي -حين كنت أحلم قديمًا دون قيود- أن أخوض البحر وأن تضايقني الأمواج في عاصفة رهيبة أتغلب عليها، الأمر الآن لا يختلف كثيرًا فأنفاق المترو تبتلعني كالبحر وأمواج الزحام تضايقني كثيرًا، لكني في الواقع أحب هذا المكان ربما بسبب السرعة المنظمة، أو لأني ما لم أكن أتقدم فأنا أتأخر والمترو دائمًا يتقدم نحو هدف واضح.
إحساس رائع أن أكون تحت الأرض.. لو أني أملك النظارة ذات الأشعة تحت الحمراء أو عين سوبرمان البطل الأمريكي الصنع لرأيت الآن المترو القديم يسير فوقي، ورأيت بائع الأخبار يسير فوق الجميع، أجمل ما في المترو المحطات تحت الأرضية، وأجمل ما فيها أنها تخلو من المتسولين، لو أن الشهيد ياسين البطل ذا الشلل الرباعي والذي يعجز عن إبعاد ذبابة عن وجهه احترف مهنة التسول لحقق ثروة هائلة..
حين وصل تفكيري لهذا الجزء وضعت ذراعي اليمنى -وأنا جالس- فوق فخذي، وتأملت تناسق العضلات فيه وقبضت على تذكرة المترو بقوة كي تنتفخ أوردتي في مشهد أحب أن أكرره من حين لآخر، لكني رفقت بحال التذكرة الرقيقة فأخرجتها من بين أصابعي دون أن يمسها أدنى أذى...
ملساء هي ومرنة ولا غنى عنها -تمامًا كالمرأة- للدخول أو الخروج من الأنفاق، وضعتها في جيب القميص حين دوى صوت عجلات المترو معلنًا وصوله وبقوة الدفع (لا المشي) وجدت نفسي داخل إحدى العربات وقد التصقت الأجساد أو كادت..
كنت أتمنى أن أكون جالسًا الآن كي أفسح مكانًا لهذا الطفل الرضيع هو وأمه أو جدته لا أدري فهي أكبر من أمي سنًّا لا شك. أحاول دائمًا أن أغض بصري داخل العربة، لكنه يصطدم برغم إرادتي بعشرات النساء.
كنت آمل أن يخف الزحام في المحطة التالية، لكنه ازداد حتى إني ازددت التصاقًا بالباب، على يساري شاب يحمل مصحفًا صغيرًا يكاد يلصقه في وجهه، استحسنت قراءته حين ميزت بعض الآيات، وحاولت أن أحصل على هواء جديد من الشباك المفتوح على يميني وأنا قابض على الجزء المعدني من الكرسي في قوة كي لا أترنح مع فرملة المترو، وإن لاحظت أن أحدهم قصير القامة يميل بشدة على زوجته الشابة حتى ليكاد يوقعها أكثر من مرة، طالعت التذكرة في جيبي فوجدتها في أسوأ حال...
ثم بدأ الزحام يخف تدريجيًّا بعد المحطة الرابعة فوجدت الزوجة تطلب ممن اعتقدته أنا زوجها أن يبتعد قليلاً فلقد خف الزحام، وهنا ولدهشتي أنا وجميع الركاب وجدت الرجل يعيب فيها وفي النساء العاملات جميعًا، وقبل أن أتصدى له وجدت رجلاً عظيم الجثة -يقف خلف المرأة موليًا إياها ظهره- يخبره في هدوء أنه زوجها وإن لم يبتلع لسانه فسوف يجعله أضحوكة المترو.. وفعلاً لم ينطق القصير بكلمة حتى أني ابتسمت وكل من تابع الموقف...
وبمجرد أن هبط ذلك القصير من المترو، وتأكد أن الأبواب قد أغلقت وجدناه يقترب من الشباك ويصيح بألفاظ تمس عرض المرأة وزوجها.. نقلت نظري بينه وبين الزوج فوجدته يبتسم في ثقة، وكأنه يقول: كلب ينبح فلا تلتفتوا له.
لكن ذراعي رفض الفكرة فوجدت يدي اليمنى تمتد بسرعة من الشباك كي تقبض على عنق القصير، لكنها تفشل ولا تنجح سوى في إمساك القميص، وهنا كان المترو قد بدأ في التحرك بالفعل و...
ومرت اللحظات كدهور.. فيدي قابضة على القميص بشدة وهتاف بعض الركاب أن اتركه فهو كلب لا يستحق غضبي اختلط بالنباح خارج المترو...
وصلت الآن حلمية الزيتون فنزلت في خطوات لم يفارقها الغضب بعد.. وكلما تذكرت نظرته المذعورة وتوسله وهو يجري كي يجاري سرعة المترو، وحين تركته فتدحرج على الأرض وقام مسرعًا كي يعلو سبابه مرة أخرى دون أن يصلنا منه شيء..
أزداد غضبًا، وأتمنى لو فرملت المترو ونزلت له كي أؤدبه.
ومرة أخرى تطالعني صورة الكلب الذي يبول على الأسد، والكلاب الواقفين على أنقاض بيت تهدم حديثًا فيزداد غضبي حتى أكاد أنفجر...
أريد أن أفعل شيئًا.. الآن
أحدهم يهمس في أذني: تحب أخذ ثواب؟
أطالعه بدهشة كي أجد رجلاً في عمر والدي، وقبل أن أفحص باقي جسده أجيب بعفوية: طبعًا..
... أنظر إلى الدم وهو ينساب في نعومة من وريدي المنتفخ عبر أنبوبة شفافة كي يملأ كيسًا صغيرًا فأشعر براحة كبيرة.. وأبتسم.
ثم أتابع حوار الطبيب الشاب وهو يحاول أن يقنع سيدة تقف خارج سيارة الإسعاف بأن ضغطها منخفض ولا تصلح للتبرع بينما تجادله هي محاولة إقناعه بالتبرع وأنها تتلقى علاجًا منتظمًا، وقد أخبرها طبيبها المعالج أن لا مانع من التبرع بنصف لتر...
وما زال الطبيب يشيح بوجهه ويحاول إقناعها..
.. استرخيت في المقعد.. واتسعت ابتسامتي