خيرة الساكت - رغبة مقنّعة.. قصة قصيرة

ما الذي يجعلنا نرقص على أنغام الموسيقى ؟
أسأل أمي المنهمكة في أعمال المنزل .تصمت .
لا تجيبني .و لا تبدّد حيرة في نفسي .
تبدو دائما شاردة الذهن و كأنها تسكن عالما آخر .تنهي الطبخ و تمرّ إلى الكنس .تتمّ الكنس و تنتقل إلى غسل الثياب و هكذا هي حالها من التعب الصامت .لا تتوقّف إلّا للصلاة .
ثم تعود إلى نفس الدوّامة مرة أخرى تدور بداخلها حتى تستنفذ كل طاقتها و تلتهم من جسدها النحيل أجزاء و أجزاء .
مؤخّرا صارت أمي تصلي جالسة على كرسي
ظهرها يؤلمها .لا تشتكي أبدا .
أدركت ألمها لأن أختي الكبيرة حدثتني مرة أن جدتي كانت تؤدّي صلاتها جالسة على كرسي . .
إذا أمّي تتألّم ! ممّ تتألّم أيضا يا ربي ؟
أمام صمتها أتركها و أبتعد ..
أدخل قاعة الجلوس ...أقف فوق السجّاد...
أجيل بصري في المكان .
لا أجد ما ألهو به ..جهاز التلفاز يعرض صورا متحرّكة تشغّلها أختي دائما .
لا يسمح لنا سوى بمشاهدة الصور المتحركة..
أمسك بجهاز التحكم و أبدأ بالضغط على أزراره الملوّنة واحدا تلو الآخر كلعبة الهاتف التي تملكها ابنة عمتي .
مرّت أصوات القنوات بسرعة كسمفونية متقطّعة .توقفت ضاحكة .كانت القناة التي حططت الرّحال فيها تبثّ أغنية شعبية راقصة . الفنان يغني و الفتيات يتمايلن كعرائس البحر .
بدأت بتحريك خصري و صرت أهزّه بسرعة ضاحكة . لم أستطع مقاومة سحر الأغنية . رفعت الصوت أكثر . صفقت بكفي مسايرة الإيقاع .
قدمت أختي راكضة نحوي :
_ مالذي تفعلينه ؟سيعاقبنا أبي و تستاء أمي !
حاولت أن تفتك جهاز التحكم مني و لكني أبعدته قائلة متوسّلة :
أرجوك ! أرجوك ! فقط قليلا ! ارقصي معي !
تحت إلحاحي .رقصت أختي و كان رقصها أقرب إلى رقص فتيات الأغنية من رقصي أنا الشبيه بقفز الأرانب .
_ هزّي ! هزّي ! هيا ! ههههه
ردّدت أختي كلمات الأغنية التي لم أفهمها .
كانت بارعة في الرقص تهزّ خصرها بإتقان .
اقتربت منها و قلت بتنفّس متسارع :
_ كيف تتقنين الرقص هكذا ؟
_إنه جنّي الاهتزاز . ما أن تلتقط أذني صوت الإيقاع حتى يتلبّسني و يسيّر خصري حسب ما يريد..
هزّي هيّا ! هههه
رقصت معها .و في كل حركة أحاول أن أهتزّ أكثر. أنا أيضا يتلبّسني جنّي الاهتزاز . يا سلام !
أحبك يا جنّي الاهتزاز .!
رعشات و خفقان و عالم من السعادة و الحريّة .
جنّي بجناحين مثل حمامة خالي سلاّم تنشد الحرية دائما ..
كان خالي مولعا بتربية الحمام .يعتني به .يحادثه عن كل ما يفكر فيه .تراه لساعات طويلة ماكثا بجانب الحمام و هو يطعمه .
و ما أن يبدأ بتعليمه إيصال الرسائل حتى يعيش الانتكاسة تلو الأخرى .
يربط الرسالة في رجل الحمامة و يطيّرها .
تطير هذه الأخيرة و لا تعود أبدا و هكذا خسرهنّ جميعا لكنه لم يتوقف .
- دعك مما تحاول الوصول إليه ! هدفك لا معنى له !
يؤنّبه جدي داعيا له بالهداية .
ظلّ خالي يطيّر الحمام و لم يفقد الأمل من عودة إحداهنّ يوما ما .
و أنا في قمّة السعادة أحلق مع الحمامات اذ بشبح ضخم الجثة يسد منافذ النور و يبسط العتمة على الغرفة . يسحب كامل الأكسجين و يخنقني ممسكا إياي من شعري و رقبتي في قبضة واحدة .
صرخت بأعلى صوتي متألّمة من القبضة التي تمزّق شعري .
كانت أختي قد تنبّهت لقدومه فتيبّست في مكانها أما أنا فقد اعتقدته سيتأخر في العمل كالعادة فتماهيت مع الرقص و نسيت نفسي .
أرعد والدي :
- عليكما اللعنة ! ألا يكفي أني ابتليت بالبنات و ترقصن أيضا ؟
دفعني أمامه مردفا ذلك بضربة قوية كلسعة سوط على مؤخرتي .
صرخت من الألم و انكفأت على وجهي .
التفت نحو أختي المتجمّدة كصنم تنتظر قدرها . رفع يده و صفعها صفعة مدوية . ترنّحت و وقعت أرضا دون أن تصرخ أو تبكي .
الصراخ و البكاء يعني هلع الجيران و فزعهم و قدومهم لاستطلاع الأمر .
و هذا أمر مرفوض . البيوت أسرار و لا يجوز للجيران الاطلاع عليها . إذا يجوز لوالدي ان يرعبنا دون أن نستنجد بأحد .
و لكنه لم يستطع منع هلع أمي التي ارتمت بيني
و بينه متوسّلة بقلب مرتجف خافق يكاد يقفز من صدرها :
- أرجوك ! يكفي !
- أين كنت ؟
- في السطح ، أنشر الثياب !
- كيف لم تتفطني لما يفعلنه بناتك ؟
عدت إلى فجورك مرة أخرى ؟ عليك اللعنة !
- لا ! لا ! أبدا ....
و قبل أن تكمل أمي كلامها توجّه نحو المطبخ .فتّشه جيّدا . قلب جميع محتوياته .ثم غرف النوم و بعد ذلك كامل المنزل .أحدث فوضى عارمة كالإعصار .
لم يترك شيئا في مكانه .خرّب المنزل .
- عن ماذا يبحث يا ترى ؟ تساءلت بهمس مرتجف .
- شع شعر كراسة ......تلعثمت أختي فلم أفهم شيئا
سمعت أبي يصرخ " أين الدفتر يا فاجرة ؟ "
- لقد مزّقته في المرة الفارطة . كفّ عن إرعابنا .
- دفترك المشؤوم يتناسخ و يتوالد . سأجده .
في هذه المرة سأمزّقك أنت بدلا عنه .
قلب المنزل رأسا على عقب و عندما لم يجد شيئا كسر صحونا عليها نقوش ذهبية كانت أمي تحبها كثيرا لأنها هدية من جدتي المتوفّاة .
ضرب الباب بقوة و خرج هائجا كثور في حلبة الصراع .
بكت أمي طويلا كليل عذابها الذي لا ينتهي . لقد أتلف بابا ذكرى عزيزة تحتفظ بها من أمها .
في كل مرة يفتعل المشاكل و يكسر شيئا عزيزا على قلب أمي .
حتى انكسرت أمي .
ظللنا واجمتين ننظر بأسى لحالة أمي .
- يظنّ أبي أن أمي مازالت تكتب الشعر و تخفي الأمر عنه ...
تكلّمت أختي بحزن .
ساءت حالة أمي . أودعها أبي المستشفى و لم يسمح لنا بزيارتنا .
في صباح من تلك الصباحات الغامضة , تعطّر و ارتدى ثيابا جديدة .
تطلّعنا نحوه أنا و أختي دون أن ننطق .
ابتسم . و قال لنا :
- هيا افرحن يا بنات سآتي بأمّكما اليوم إلى المنزل !
عمّنا الحبور . زيّنّا المنزل . و رتّبنا كل شيء .
حلّ ركب أبي مهلّلا تتبعه امرأة ترتدي ثوبا أبيض
و محاطة بنساء يزغردن .
شغّل غناء شعبي راقص في المنزل . الجميع سعداء
و يرقصون .
و أنا و أختي نبحث عن أمّنا وسط الثوب الأبيض .
امرأة الثوب الأبيض سعيدة و يبدو عليها الانتصار .
هي أيضا لديها جنّيها و لكنّها لا تهزّ خصرها
لأنه تلبّس أبي الذي رأيته يرقص فرحا بعروسه الجديدة ...


خيرة الساكت / تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى