محمد مخلص حمشو - الجنرال.. قصة قصيرة

-1-
وصلت الحافلة التي تقل والد الجنرال إلى العاصمة الواقعة في جنوبي البلاد قادمة من أقصى شمالها ، بعد عناء مشقة سفر وتعب دام أكثر من سبع ساعات قاسى فيها الرجل المسن من أوجاع مرضه وألم مفاصله ما كان يجبره بين الفينة والأخرى أن يغادر مقعده ويقف في الممر الضيق بين صفوف مقاعد المسافرين ليرتاح قليلاً من ألم ظهره ووخز كأنه سكاكين تحز مفاصله، كان يخذله جسمه الهزيل وتخونه قواه الخائرة ، حتى ليكاد أن يقع أثناء تمايل الحافلة في سيرها ، أو التفافها حسبما يقتضي طريق السفر أو عند تجاوز الحافلة لسيارات عابرة أخرى . اشتاق العجوز لولده الجنرال الذي منعته مقتضيات مهام عمله وضيق وقته لزيارة والده في بلده الريفي البعيد، لكن والده الفلاح يعرف أن هناك مانعاً آخراً يمنعه أيضاً ، وهو أن زوجة ابنه سليلة الحسب والنعمة وابنة العاصمة كانت تتمنع أو لاتحب مرافقة زوجها لزيارة أهله في بلده الريفي، وحتى وإن تمت الزيارة فستكون قصيرة جداً ولاتعدل مشقة سفر، وكان الجميع يلاحظ أنها كانت تعنف أولادها ، وتمنعهم من اللعب مع أولاد الأقارب في الريف متذرعة أن ذلك مخافة أن تتسخ ثيابهم، لكن الجميع يعرف أن شعوراً فوقياً وتمايزاً خفياً كان يتملكها عند الاجتماع مع الأهل والأقارب أو على موائد دعوات الطعام، وهذا كان من بعض مايحرج زوجها الجنرال ويخفي شعور امتعاض منها ومن تصرفاتها غير اللائقة ، وما يحدوه أن يرفع صوته عليها غاضباً في نقاش حاد معها عندما يخلوان مساءً في مخدعهما. ويعقبه سفر مفاجئ في صباح اليوم التالي معتذراً أو مدعياً أن مهام عمله تحتم عليه قطع إجازته والالتحاق بعمله في العاصمة. لقد طال غياب ولده واشتاق إليه كثيراً هذه المرة، صحيح أن ولده الجنرال يتصل به يومياً ويطمئن عليه ، لكنه يحب أن يأخذه بين ذراعيه ويغمره بقبلاته بل ويشم رقبته وأنفاسه مثلما يفعل على عادته عندما كان ولده طفلاً صغيراً، وأن نار أشواقه لايطفئها صوت ولده يسمعه عبر أسلاك الهاتف ، أو في تقليب صوره في ألبوم الذكريات . لقد كان ولده الجنرال بكر أولاده وكان نعم الود الرضي لأبيه وأمه المرحومة، ونعم المعين على شقاوة الحياة ومساعدة جميع أخوته وأهله وأهل بلده وكان من يقصده في العاصمة بطلب أو أمر يستطيع أن يساعد في حله. -2- أحب الوالد العجوز أن تكون زيارته لولده هذه المرة مفاجأة ولن يطيل فيها الإقامة، لأنه يعرف مسبقاً أن امتعاضاً ضمنياً سيعتري زوجة ابنه، وربما إحراجاً لها أمام ضيوفها من ملابسه الريفية التي لايتخلى عنها وكوفيته وعقاله ،كان هذا الإحراج يقرؤه في نظراتها ، لكنه كان يتجاهل ويتغاضى إكراماً لولده وحباً بأحفاده. أخيراً وصل بيت ابنه الجنرال ووضع سلال الطعام الريفي وفاكهة البستان التي يحبها ابنه وقرع جرس الباب ، عاود الكرة ، فتحت الباب خادمة يبدو عليها أنها جديدة لأنها لم تعرفه . قال السيد أبو أحمد هنا ؟ ردت بلكنة أجنبية: الجنرال؟ هز رأسه ، نعم ،هزت رأسها بالمقابل : لا ليس موجوداً ، قال: نادي على سيدتك . نادت الخادمة: ماما ماما هناك من يطلبك على الباب أتت لكنها فوجئت كمن تلقى صفعة على خده ، صمتت ولم تسلم أو ترحب به، ورانت فترة من الصمت قطعها العجوز قال:أعرف أن ولدي في العمل من الخادمة، سلمي عليه عندما يرجع وناول الخادمة السلال ، وردت السيدة يوصل السلام ولكن .. لم يتركها تتابع حديثها لأن في برودة اللقاء وعدم الترحيب مايكفي عن تفاهة أي حديث بعده . غادر بيت ولده بقلب كسير وعين دامعة. يقصد الكراج والعودة من حيث أتى . ولو كلفه إرهاق السفر صحته المتبقية بل وحياته ، فما عاد يحب البقاء حتى للقاء ولده المشتاق إليه ، وما عاد يطيق حتى انتظار دقائق يتصل به هاتفيا . -3- عند مدخل بناية ولده اصطدم برجل كان يهم بالدخول ، رفع رأسه ، ياللصدفة كان الرجل عسكرياً إنه سائق ولده الجنرال وكان يعرفه ، قال العسكري: مرحباً ياعماه تفضل . رد العجود: لا أنا ذاهب ، رد: إلى أين أوصلك؟ قال: لاداعي : فقط سلم على معلمك ومضى ، ووجهه ينمّ عن حزن عميق وغضب معاً. صعد العسكري بيت الجنرال وعرف من الخادمة ماجرى وجلب ظرفاً من البيت ناولته إياه السيدة ولم تعرف بحديث الخادمة للسائق، وعاد السائق بسرعة البرق يخبر سيده الجنرال بما جرى مع والد سيده في البيت . وعلى غير وعي رمى الجنرال الظرف على الطاولة ، ونادى السائق: هيا أسرع بنا كالبرق إلى الكراج كي نحصل والدي قبل سفره ، كان الجنرال يشعر من دقات قلبه المتسارعة وخلجات نبضه في عروقه والدم الذي يجري في شرايينه ساخناً أن والده يقصد الكراج ، وفعلاً حظي بوالده عند بداية مغادرة الحافلة لباب الكراج ، ولقاء وقبلات وعناق بين العجوز وولده، أثار دمع النساء والمتفرجين ،جنرال يقبل يد الفلاح العجوز البسيط ويركبه السيارة ويمضيان باتجاه البيت. سأل الجنرال والده: متى وصلت؟ ماذا حصل حتى تعود راجعاً؟ لماذا لم تخبرني أنك آت؟ لم يرد العجوز لكن عيناه كانتا تدمعان ، وصلوا البيت جميعاً ، قرع الجنرال الجرس ، فتحت الخادمة الباب ،تأكد الجنرال من صحة كلام السائق والخادمة، أمر الجنرال الخادمة أن تنادي على سيدتها، أتت السيدة لكنها هذه المرة رسمت علامات ترحيب كاذبة على وجهها ،وقالت بفتور ياللمفاجأة أهلاً عمي ، قال الجنرال وهو ينظر إليها بغضب: الآن فقط عرفت بمقدمه أيتها الكاذبة؟ والتفت إلى والده الذي بدا وجهه مستغرباً ومستنكراً كل مايراه أمامه. -4- التفت الجنرال إلى زوجته وقد أمسك بيدها وهو يصرخ بها : اخرجي من البيت حالاً أنت طالق ، لكن العجوز هجم على ولده وأطبق بيده على فمه وهو يقول عالياً : لاتكمل ، لاتكمل سأغضب عليك إن طلقتها ، سأغضب عليك،سأغضب عليك. وبكى العجوز وبكى الجنرال وبكت معه زوجته والخادمة والسائق ، والتفت الجنرال إلى أبيه وقال: موتي أشرف من حياة أحياها ويهان فيها والدي وأنا على وجه الأرض، ووالله ستكون امرأتي طالق ثلاثاً إن لم تعبر عتبة البيت وتدخله بمداسك هذا وفوق رقبتي . واستلقى الجنرال على الأرض بكامل أناقة بزته العسكرية ورتبته ذا الشريطة الحمراء والسيفين المتصالبين والنسر والنجوم، وأوسمته ونياشينه تملأ معظم صدره وقال: تفضل يا والدي ، أحجم العجوز لكن تهديد ولده بطلاق زوجته أرغمه بأن يمثل أنه يفعل، وبخاصة أنه يعرف عناد ولده مذ كان صغيراً ، لكن المفاجأة كانت أن استلقت زوجة الجنرال بجوار زوجها أيضاً على الأرض وهي تبكي وتقول ،وفوق رقبتي أيضاً ياعماه! وفوق رقبتي أيضاً ياعماه! وفوق رقبتي!‏


محمد مخلص حمشو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى