أ. د. عادل الأسطة - مكان آخر للعشب

حين صحا مبكراً، كان أول شيء فعله قبل أن ينهض من فراشه أن تحسس قدميه، حمد الله حين تأكد من أنهما ما زالتا بخير، ولكن شعوره بالارتياح لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما انتابته حالة من الملل التي كثيراً ما تنتابه في ظهيرة أيام الصيف الحار أو في ضحى أيام الخريف، حين تبدو نابلس فارغة إلا من أولئك الرجال الطاعنين في السن، أو من حرس الحدود الذين يجوبون شوارع المدينة.

نهض من فراشه، ولم يلق تحية الصباح على زميله الذي يسكن معه في الغرفة نفسها، واتجه صوب المرحاض فالمغسلة، حيث اقتطع صاحب البيت جزءاً من مساحة الغرفة لانشائهما يوم فكر في تأجير الغرفة للطلبة. أشعل الغاز ووضع إناء الماء ثم توقف جانباً ينتظر حتى يسخن الماء. كان الجو بارداً جداً والثلوج التي تساقطت على حي الأشرفية في اليومين السابقين ما تزال آثارها باقية، وعاد بذاكرته الى أيامه الخوالي في نابلس، ولم يعده إلى لحظته إلا صوت فقاقيع الماء. أطفأ الغاز، وأخذ يفرغه في أبريق صنع من البلاستيك، ثم صب الماء على يده اليمنى، وفجأة أخرج صوتاً حاداً. كانت درجة حرارة الماء مرتفعة، ولم يفطن إلى تبريده. وجاء صوت زميله:

- تستحق،! حتى صباح الخير لم تقلها.

أشعل زميله النور، فقد كانت الغرفة مظلمة بعض الشيء، لكونها تقع في أسفل البناية، ولأن الغيوم كانت تحجب أشعة الشمس، ولم يحاول أن يتفوه بأية لفظة، واختلطت الأمكنة في ذهنه، ولم يعد الأمر يعينه كثيراً في تلك اللحظة، ولعله أيضاً أخذ لا يرى كبير فرق بين السواد الذي كان أسفل الإناء، بسبب وضعه، في بعض الأحايين، على صوبة علاء الدين التي أنعم عليهما بها بعض أقارب زميله، وبين ظلمة الغرفة التي بدت مثل زنزانة كان قد اعتقل فيها ذات مرة، على الرغم من ضوء الكهرباء. وحين انتهى من غسل وجهه أخذ يبحث عن المنشفة التي علقها على مسمار كان قد وضعه في مكان ما من الحائط، كانت المنشفة في مكانها، ولكنه في البداية لم يرها فأدار نظره في الغرفة، ثم أخرج صوتاً غير مفهوم مما أزعج صديقه الذي كان قد عاد إلى الفراش ليغفو بعض لحظات، عله يسرق من الوقت نصف ساعة نوم أخرى إضافية، ذلك أنه قد تأخر في عمله الإضافي الليلة الماضية، فقد كان على زميله أن يعمل ليل نهار لإرسال بعض النقود إلى أهله في مخيم عسكر قرب نابلس ولأخيه الذي يدرس في أميركا، ثم لينفق على نفسه أيضاً، فقد ترك له والده خمسة أخوة بين ذكور وإناث. ولما كان والده كبيراً في السن يوم تزوج، فقد كان عليه أن يكد ليطعم إخوته، ذلك أن والده فوق ذلك لم يعمر طويلاً بعد زواجه، ولقد بادره الكلام قائلاً:

- ماذا حدث؟

غير أنه لم يلق إجابة، إذ التزم الصمت ولم ير فائدة في إخباره، ثم أنه هو، فوق ذلك، لم يدر ما يقول، ففي اللحظة التي صحا فيها من نومه تحسس قدميه فوجدهما على ما هما عليه. ولكنه قال لزميله أن لا وقت لكي تنام، فالساعة السابعة والنصف، وليس أمامك سوى نصف ساعة للوصول إلى البنك العربي، وإلا فإن غضب الإدارة سيحل بك.

كان كل صباح يسير وزميله، يهبطان إلى قاع المدينة سيراً على الأقدام ليوفرا اثني عشر قرشاً على نفسيهما، وفي الطريق يتحدثان معاً عن المخيم والأهل والأصدقاء، وحين يصلان أول سقف السيل ينتهي الزمان الأول ليبدأ زمان آخر، ويزول المخيم من الذاكرة ليحتل سقف السيل سقف عقليهما معاً، العمال المصريون الذين تركوا مصر وجاءوا ليسببوا أزمة السير الخانقة، الإشارات الضوئية الخربة، وذلك السائق الذي يحاول رشوة الشرطي حتى لا يحرر له مخالفة قد لا يجمع نقودها طيلة يومين من العمل المتواصل، ثم بائعو الفلافل الذين كثروا كثرة مفرطة في أواخر السبعينات.

وفي ذلك الصباح اتجه نحو الباب ليرى إن كانت الغيوم تنزل خيراتها على رؤوس الناس، لاحظ الجو ماطراً، ثم أغلق الباب، فقد بدأ البرد يتسرب، وقال لزميله:

- سندفع اثني عشر قرشاً.

وعلى الرغم من أنه سيدفع، إلا أنه لم يشتم، لم يشتم الغيوم، ولم يشتم إدارة الجامعة التي لم توفر السكن للطلبة، ولم يشتم السواقين الذين رفعوا الأجرة مؤخراً، وبدا ذلك نشازاً، ولاحظ زميله ذلك، ثم علق:

- خيراً. لم تشتم هذا الصباح أحداً.

- ولكني قد أشتم عنك في المساء. لم يبق طويل وقت، والساعة تقارب الثامنة. كان باستمرار يكثر من التفوه بالشتائم على ذلك المسؤول الذي سرعان ما يوجه له إنذارا يوم يتأخر عن عمله خمس دقائق. ولم يكن ذاك المسؤول ليقتنع أن تأخيره إنما يعود إلى أزمة المواصلات، كان يقول له دائماً:

- اشتر سيارة. هذه مشكلتك.

خرجا من الغرفة، ولم يكترثا للشتيمة التي سمعاها من جارهما، فقد كان ذلك الجار كثيرا ما يشتمهما ويشتم صاحبة البيت التي أجرت الغرفة لشباب غير متزوجين، ثم كثيراً ما يشتم زوجته وأولاده حين لا يعطونه مبلغاً من المال، ليشتري به بعض المشروبات الروحية. لقد تعودا معاً على صراخ ذلك الرجل ولم يحاولا معرفة السبب الذي كان يدفع به للإكثار من شرب الخمر وشتيمة الآخرين، فقد كانا يريان حالات كثيرة في المخيم الذي كانا يسكنانه، وكانا يعرفان السبب الذي يدفع بهؤلاء الأشخاص إلى سلوك هذا السلوك.

كانت الغيوم قد شكلت حاجزاً كثيفاً بين الأرض وبين السماء، تماماً مثل ذلك الحاجز الذي حال بينه وبين الفرح في ذلك الصباح والذي يحول بينه وبين الفرح في كل صباح. لقد كانت الغربة، والدراسة المملة، ونشرات الأخبار وعناوين الجرائد والشوارع المتسخة ورائحة الفلافل، وقلة النقود، والطلبة المملون، وأزمة المواصلات، وصفارة الشرطي، لقد كانت هذه الأشياء كلها كريهة له، ولم يكن ليغض النظر عنها وينسى أنه إنما يقيم مؤقتاً في هذه المدينة التي لم يألفها منذ جاء إليها. وعلى الرغم من الأمطار الغزيرة، فقد كان الطلبة ينتظرون الحافلات لتقلهم إلى الجامعة، ومنهم من يردد بصوت خفيض أغنية لوردة كانت قد وصلت حديثاً مع آخر طائرة، كما أشارت لافتة كتبها بائع الأشرطة الذي يواجه موقف الباصات. وقف مع الواقفين ينتظر صعوده إلى الحافلة، ولما طال مجيئها استقل سيارة نقل إلى العبدلي ليتابع المسير من هناك. في السيارة كان ثمة طالبتان تقطنان جبل اللوبيدة، كانتا ترتديان ملابس أنيقة ورائحة العطر تفوح منهما.

قالت إحداهما للأخرى:

- لقد بلل المطر شعري، يا للخسارة لن يبدو منظري جميلاً.

وعلقت الثانية:

- لقد أخذ والدي سيارتي هذا الصباح، لأن سيارته خربة، ثم سخرتا من مدرس اللغة العربية لأنه يجهد نفسه في أثناء الحديث، ولا يتكلم إلا باللغة العربية الفصيحة، وأشارتا إلى أن اللغة الفرنسية تبدو أكثر جمالاً، كالأزياء الباريسية، وكقصة الشعر الفرنسية التي غالباً ما تكون أكثر القصات ملاءمة لوجهها.

كان يتابع حديث الفتاتين، ولكنه في اللحظة ذاتها ينظر إلى قدميه، يشعر قليلاً بالارتياح فينظر من زجاج نافذة السيارة، ولكن الخارج لا يبدو واضح الرؤية، فثمة طبقة خفيفة قد تراكمت على نافذة السيارة بحكم الاختلاف في درجة الحرارة، ولكنه يرى الشوارع خالية من حوادث الطرق ودماء الجرحى التي غالباً ما تبقى أثارها لساعات قليلة في الشارع.

على جانبي الشارع كانت البنايات ما زالت تكثر، وكان ينظر إلى هذه البنايات التي لم تكن قبل سنوات قليلة خلت على الإطلاق، وإنه ما زال يذكر تماماً كيف كانت الطريق بين دوار الداخلية والجامعة الأردنية خلوا إلا من المدينة الرياضية ومكاتب جريدة الرأي، أما الآن فالفنادق الكثيرة والعمارات السكنية الضخمة، والكلية العربية ومباني جريدة الشعب، والجسور الهوائية، والشوارع العريضة، ولكنها لم تبد له ذات قيمة أو ذات حضور، فقد كان يعاود النظر إلى قدميه ليراهما إن كانتا ما زالتا على ما هما عليه حتى مساء أمس. قبل حلم الليلة الماضية، الحلم الذي يتذكره الآن:

قدماه وقد ابيضتا ابيضاضاً لافتاً للنظر، وقد كبرتا أكثر ما يكون وفجأة كان العشب ينمو وينمو ويتطاول، إلى أعلى ثم ينفذ إلى أعمق أعماق قدميه. يحاول الوقوف فلا يستطيع، يحاول مرة أخرى فتتقصف الأعشاب ويبدأ الدم الأخضر.

كانت السيارة قد توقفت أمام بوابة الجامعة الأردنية، فيما أخذ الطلبة يركضون حتى لا يبللهم المطر، وكان هو يسير ببطء ينظر إلى قدميه تارة وطوراً إلى الفتيات اللاتي بدون أنيقات وهن يركضن أكثر مما بدون وهن داخل الحافلة.

*فلاش باك*

كانت نابلس هادئة تماما، فلقد انتهى ذلك الضجيج الذي تسببه باصات (ايجد) كل صباح حين تأتي لنقل العمال العرب إلى فلسطين، ولم يكن شارع فيصل يضج بالسيارات ذلك أن الطلبة لم يغادروا بيوتهم بسبب العطلة الصيفية، كان خالياً إلا من سيارات قليلة، وأما المحلات فما زالت مغلقة أبوابها، باستثناء بعض الباعة الذين كانوا ينتظرون السيارات التي تقل لهم الخبز، والفلاحات اللاتي يأتين من قرى سالم ودير الحطب وعزموط وروجيب ليبعن بعض ما أنتجنه من حليب وجبن ولبن. وكانت سيارة من سيارات حرس الحدود تجوب الشوارع ذهاباً وإياباً. في هذه الأثناء كان يغادر بيته من اجل الذهاب إلى مدينة حيفا ليحصل على بعض المعلومات من جريدة الاتحاد ومجلة الجديد اللتين تصدران في حيفا ويمنع توزيعهما في المناطق المحتلة، ولقد كان عليه أن يسير على الأقدام مسافة كيلو ونصف الكيلو حتى يصعد سيارة تقله إلى المدينة، وكان ينقل نظره بين القرى العربية النائمة وبين مستوطنة ألون موريه التي أقيمت حديثاً، ليرى الفرق بين البيوت التي بنيت بطريقة عشوائية وتلك البيوت التي بنيت بطريقة منظمة، ولأول مرة كان يرى القبح في الجمال والجمال في القبح، ولم ينقذه من محاولة فلسفة الأمر إلا رؤيته أحد الناس الذين قد عادوا لتوّهم من المدينة، ولقد أخذته الريبة مآخذ شتى، فلماذا يعود أبو محمد إلى بيته الآن في الصباح المبكر، ولما اقترب منه لم يترك له أبو محمد فرصة ليبادره السؤال، فقد قال له: ثمة انفجار هز المدينة كلها، ارجع إلى بيتك. ولكنه تابع مسيره واستقل سيارة إلى المدينة، كان الناس يخرجون من بيوتهم ليعرفوا ماذا حدث، وكل منهم يسأل الآخر، ولكن أحداً لم يعرف ماذا حدث بالضبط وثمت أقاويل غير مؤكدة كانت تدور على الألسن، فمنهم من زعم أن هناك اشتباكاً حصل، ومنهم من قال أن باصاً للعمال قد فجر، وآخرون قال أن الانفجار وقع بالقرب من بيت رئيس البلدية، فيما كانت سيارة الشرطة تسير في الشوارع معلنة فرض نظام منع التجول على البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها. وفجأة بدأ الناس يتراكضون صوب بيوتهم، فيما كان قسم من السيارات يسير في الطريق المؤدية صوب مستشفى رفيديا حيث تجمع عدد كبير من الناس، كانت الحركة قد هدأت رويداً رويداً، وبعد لحظات قدمت سيارات حرس الحدود لتفرق الجموع الكبيرة. وكان الخبر قد انتشر بين الناس، وبخاصة أن وكالات الأنباء قد عممته وأذاعته محطات الإذاعة. لقد فجر المستوطنون سيارات رؤساء البلديات في الضفة الغربية.

في منتصف الظهر كانت بعض السيارات تجوب شوارع المدينة التي لم يفرض عليها منع التجول، وكان التنقل يتم في الشوارع الفرعية، الجبل الشمالي، بليبوس، رأس العين، المقبرة الغربية، كان يجلس مع مجموعة من أولئك الرجال يثرثرون حول الذي حدث صبيحة هذا النهار، وعن الحكومة التي تقلب الدنيا رأسا على قدم حين يرجم طفل حجراً على سيارة وتدعي أنها لا تعرف شيئاً عن هذا الذي حدث، ولم يقطع عليهم حوارهم سوى صوت سيارة الإسعاف التي كانت تقترب من مكانهم، فيما ردد أحدهم:

- لقد مات الشكعة.

اقتربت السيارة، وحين أوقفها سائقها نزل منها رجلان، أحدهما شاب في العشرين، والثاني في الأربعين من العمر، كان القلق يبدو على وجهيهما وكان في يد الكبير كيس من الخيش مربوط من أعلاه، فيما عاد هذا ليحضر من السيارة فأساً ومجرفة أحضرهما معه لدفن من في الكيس. كان يسأل نفسه: ما الذي يريدان فعله؟ في تلك الأثناء لم يفكر كما كان يفكر دائماً حين يمر بالقرب من المقبرة الغربية في أمر بدا له عجيباً، ولعله سيبدو له أيضا في المستقبل، ولكنه في تلك اللحظة لم يبد كذلك، لم يفكر فيما كان يفكر فيه، ولم يسأل نفسه عن السر الذي يجعل بعض أغنياء المدينة يخصصون لأنفسهم جزءاً خاصا من المقبرة يدفنون فيه موتاهم، ويسيجون ذلك الجزء، ثم يزرعونه نخلاً، ولقد بدا مثل هذا التفكير ضرباً من الهبل إذ ثمة سؤال واحد كان يلح على تفكيره وهو: كيف يدفن الإنسان جزءاً من جسده ويبقى حياً؟

لقد كان الكيس يضم قدمي بسام الشكعة وفردتي حذائه، وكان الدم يكسوهما معاً. وحين انتهيا من دفن القدمين والحذاء، كان الرجلان قد غادرا وكان هو ينظر إلى المكان فيرى العشب وقد نما هنا، ويرى الأرض وقد اكتست العشب الأحمر، ولم يتساءل قط عن لون التراب المائل إلى الحمرة، فقد كان أدرك منذ زمن أن لون التراب إنما مال إلى الحمرة لأنه سقي بدماء الناس. ظل واقفاً للحظات، حاول النزول إلى قاع المدينة لكنه تذكر أن منطقة دوار تل الزعتر/ الحسين سابقاً، خاضعة أيضا لنظام منع التجول الذي فرض على المدينة هذا الصباح، ومع ذلك فقد غذ السير صوب شارع المطحنة، ليستقل من هناك سيارة إلى الحي الذي يقطن فيه، وفيما هو سائر كان ينظر إلى جانبي الشارع الخاليين إلا من مبان قليلة تبدو قديمة باهتة، ولم يكن منظر دفن القدمين وفردتي الحذاء الملطختين بالدم ليفارقة. كان يرى القدمين وقد بدتا تراباً وعليهما ينمو العشب، وينظر حوله فلا يرى سوى أقدام مورقة.

(مجلة الجديد 1981)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى