أجلس على نار في انتظار أن تكتمل الكراسي. عيناي تَمرَّان على وجوه الرُّكّاب في الأتوبيس، أحملُ هَمًّا يُقطِّعني: أن أرى "علاء" جالسا بينهم، أو قادما للركُوب. حينها سأضطرُّ إلى ابتسامة صعبة، تُحرّك عضلات وجهي بالإجبار. لساني سيقول كلمة أو كلمتين من تحت الضّرس. أنظر في الساعة، أنفخُ، أشعر بِضَربات في رأسي تتجسّد وتتجاوز إيقاع النبضات، شيء في بطني يتكوّر ويلفُّ مُحدِثا وجَعًا.
أَعدُّ الكراسي الباقية: اثنان، ثلاثة، أربعة فقط ونتحرّك.
على وشك أن أُرحَم من وجهه، من عينيه اللتين لا أرى فيهما تعبيرا عن هدوء أو استكانة أو غضب. نظرتُه إلى الأمام، دون أي لفتة إلى اليمين أو الشِّمال. فمه المقفول على كلمات لن تخرج. سُكوته غير الشّجي، سُكوت شخص غير مشغول بي وبنظراتي التي تُقلّب فيه. أكظِمُ لساني الراغب في الصراخ: "انتَ يا بني آدم، اتكَلّم يا أرخَم خَلق الله".
أكثر من خمسة عشر عاما، وعلاء يعمل في نفس المدينة. في الصباح نركب المواصلات من قريتنا. يخرج هو قبلي فلا أراه، وفي الرجوع نتقابل في حدود الثانية أو الثانية والربع ظهرا. طوال تلك السنوات وأنا مُحتشِد بالتفتيش في الوجوه، حتى إذا اكتمل العدد وتحرّكَ الأتوبيس أو الميكروباص بدونه؛ أتنفّس من أعماقي، أُكافئ نفسي على المصادفة الحلوة بنظرة سارحة تطوف بارتياح على وجوه الشارع ومحلاته. أعيش لحظتي، أطردُ أي لمحة تفكير في قلق الغد والانضغاط القادم. أما إذا سبقني وجلس فيا سواد نهاري، تضطرب ساقاي في الطُّرقة بين المقاعد، تَغُزُّني في رأسي إِبَر وذَبذبات وامضة: هل أتخطّى كُرسيه كأنني لم أره، أم أكتفي بالسلام العابر وأُنهي توتُّري بالإسراع إلى آخر الأتوبيس؟ أقطعُ عِرْقَ الارتباك بسرعة بأن أميل وأرمي جسدي في أقرب مكان خالٍ.
يمكنني أن أعدّ الكلمات التي تبادلتُها معه. أقول له: "إيه الأخبار؟"، يردّ: "مفيش جديد". في مرة أخرى أحاول أن أناقشه في أي شيء، مثل احتمال تغيير التوقيع في دفتر الحضور والانصراف إلى نظام بصمة الوجه. يكون ردّه: "مُمكن". لا يصلني شيء من "مُمكن"، لم أسأله لحظتها: "مُمكن إيه؟". يمرُّ بي خاطر أنه يُخفي أشياء لا يريد الكشف عنها، أو هو في الأساس لا يستريح للكلام معي، رُوحه تستقبل مني النّفور فتردُّه بأحسن منه. الغريب أنني بعد كل مرة أتلقّى فيها رُدوده الشحيحة؛ أُوشكُ أن أخلع حذائي وأُنَفِّض رأسي. أتمادَى في تأنيب نفسي: أستأهل ما يحدث لي، طالما أتكلم مع هذا الكائن. أتردد في الاعتراف أنّ مغناطيسا يجذبُني إلى مَنْ أكرههم. أُفكر في انشغالي بهؤلاء، أكثر مِن الذين أُحبّهم ويُحبونني. سبقَني "كاظم الساهر" في أُغنيته الغريبة التي لازَمَتني أيام الجامعة: "أَكرَهُهَا وأشتَهِي وَصْلَها، وإنّني أُحِبُّ كُرهِي لَها..". أبدأ في إحصاء المكروهين، تطول القائمة لتصل إلى أسماء تُربِك تَوقُّعاتي.
ما معنى هذا؟
لم أجد وقتا كي أصل إلى إجابة، انحَبسَ نَفَسي في صدري. عيناي تجمَّدتا على "علاء" الواقف بين المقاعد. خطا نحو المكان المُتبقّي في الكرسي الأخير. في مروره بجواري رآني. التقت عيوننا في نفس الجزء من الثانية، لكنه حوَّلَ نظرته بخطفة بارعة، خطفة تنزع العين من العين دون أن ينحرف مُؤشر الزمن. تَصرُّف مُتَعمَّد تمَّ بمنتهي التلقائيّة. عضضتُ شفتي، تلاحقت أنفاسي. أغمضتُ عينَيّ على زغلَلَة بصريّة، جَسَّدها ذهني المشحون. رأيتُه يرفعني بقوة ويضعُني في كرسي آخر، ثم يعود ويقعد مكاني. أتفاجَأ بنفسي في بيته، أتجوّل في الحجرات، أُبصر امرأة تقف في ركن، وهو هناك في مُواجهتها. من جسديهما تخرج أشعة صفراء قوية تتداخل في دوَّامة كبرى. صدري مُعبّأ بدُخان ضاغط. سأقوم حالا وأخنقه، لن أتركه حتى تخرج روحه. آه لو أرى روحه، أتأمّل شكلها، أقترب منها وألمسها. تحدث المعجزة، أَمدُّ يدي، وبمجرد أن أمسك ذلك الشيء وأتحسس رخاوة المطاط اللاصق؛ تَرجُّني رعشة قوية، أرميه وأجري.
أفيق من تَوهُّماتي، أتململ في الكرسي.
أنا وهو في مكان واحد، يجري بنا الأتوبيس إلى نهاية الخَطّ. أستبشِرُ بأنني أجلس أمامه، وبالتالي سأنزل بسرعة دون إعطائه فرصة ليتخطَّاني. في مرات سابقة حين حدث ذلك؛ كنتُ أتَتبَّعُ ظهره ثم أنحرف عن الشارع الذي يمشي فيه. أتشاغَل بالنظر إلى اليمين عبر الزجاج، تنبسط ترعة مملوءة بماء جارٍ. أتحوَّل إلى الشِّمال، حيث وجوه الجالسين في مُوازاتي، وفرار البيوت والغيطان وأعمدة الكهرباء. على بُعد خطوتين تجلس أُم حبيبة، زميلتي البيضاء المعسّلة، التي تُعاتبني دوما على سرعة انفعالي في مواقف لا تستدعي. أطوف بوجوه أغلبية الرُّكاب المُنكفئين فوق شاشات التليفونات. لا أنظر إلى الخلف، لو انطبقت السماء على الأرض لن أنظر خلفي. في اللحظة التي سألتفت فيها ستقع عيناي في عينيه. أُردّد بلساني داخل فمي: لا تلتفت، إياك أن تُدير رقبتك، وجهه في انتظارك، يترصّدكَ أينما كُنتَ. أُريح رأسي على مسند الكرسي. يُشتّتُني هاجس أنه ينظر ناحيتي بمُعدّل نظرة كل ثانية، ويفكر في لحظة التقاء نظرتينا، ثم الشرارة التي ستطق في منتصف المسافة بيننا. لابد أنّ ما يتلوَّى بداخلي، وعلى وشك الانفجار، قد وصل إليه، والدليل إحساسي بموجات ساخنة، قادمة من الخلف وتكاد أن تُشعِل قفاي.
يرتجُّ الأتوبيس في لفتة غشيمة.
تتعالى الأصوات: "بالرَّاحة شويّة يا أسطَى".
آخر ما يخطر على بالي، في أسوأ الظّروف القَدَريّة، أن ننقلب في الترعة، وأكون مع هذا الشخص في عناق إجباري، يستميت على النجاة. سأدفعه عني بكل طاقتي المكبوتة، لا يمكن أن يكون وجهه آخر الوجوه التي آخُذها معي إلى الأبد.
انتفضتُ واقفا، وخطوتُ إلى الباب. أشرتُ للسائق: "على جَنب يا أسطَى".
نَويتُ أن أتمَشَّى المائة متر الباقية.
***
حسام المقدم
أَعدُّ الكراسي الباقية: اثنان، ثلاثة، أربعة فقط ونتحرّك.
على وشك أن أُرحَم من وجهه، من عينيه اللتين لا أرى فيهما تعبيرا عن هدوء أو استكانة أو غضب. نظرتُه إلى الأمام، دون أي لفتة إلى اليمين أو الشِّمال. فمه المقفول على كلمات لن تخرج. سُكوته غير الشّجي، سُكوت شخص غير مشغول بي وبنظراتي التي تُقلّب فيه. أكظِمُ لساني الراغب في الصراخ: "انتَ يا بني آدم، اتكَلّم يا أرخَم خَلق الله".
أكثر من خمسة عشر عاما، وعلاء يعمل في نفس المدينة. في الصباح نركب المواصلات من قريتنا. يخرج هو قبلي فلا أراه، وفي الرجوع نتقابل في حدود الثانية أو الثانية والربع ظهرا. طوال تلك السنوات وأنا مُحتشِد بالتفتيش في الوجوه، حتى إذا اكتمل العدد وتحرّكَ الأتوبيس أو الميكروباص بدونه؛ أتنفّس من أعماقي، أُكافئ نفسي على المصادفة الحلوة بنظرة سارحة تطوف بارتياح على وجوه الشارع ومحلاته. أعيش لحظتي، أطردُ أي لمحة تفكير في قلق الغد والانضغاط القادم. أما إذا سبقني وجلس فيا سواد نهاري، تضطرب ساقاي في الطُّرقة بين المقاعد، تَغُزُّني في رأسي إِبَر وذَبذبات وامضة: هل أتخطّى كُرسيه كأنني لم أره، أم أكتفي بالسلام العابر وأُنهي توتُّري بالإسراع إلى آخر الأتوبيس؟ أقطعُ عِرْقَ الارتباك بسرعة بأن أميل وأرمي جسدي في أقرب مكان خالٍ.
يمكنني أن أعدّ الكلمات التي تبادلتُها معه. أقول له: "إيه الأخبار؟"، يردّ: "مفيش جديد". في مرة أخرى أحاول أن أناقشه في أي شيء، مثل احتمال تغيير التوقيع في دفتر الحضور والانصراف إلى نظام بصمة الوجه. يكون ردّه: "مُمكن". لا يصلني شيء من "مُمكن"، لم أسأله لحظتها: "مُمكن إيه؟". يمرُّ بي خاطر أنه يُخفي أشياء لا يريد الكشف عنها، أو هو في الأساس لا يستريح للكلام معي، رُوحه تستقبل مني النّفور فتردُّه بأحسن منه. الغريب أنني بعد كل مرة أتلقّى فيها رُدوده الشحيحة؛ أُوشكُ أن أخلع حذائي وأُنَفِّض رأسي. أتمادَى في تأنيب نفسي: أستأهل ما يحدث لي، طالما أتكلم مع هذا الكائن. أتردد في الاعتراف أنّ مغناطيسا يجذبُني إلى مَنْ أكرههم. أُفكر في انشغالي بهؤلاء، أكثر مِن الذين أُحبّهم ويُحبونني. سبقَني "كاظم الساهر" في أُغنيته الغريبة التي لازَمَتني أيام الجامعة: "أَكرَهُهَا وأشتَهِي وَصْلَها، وإنّني أُحِبُّ كُرهِي لَها..". أبدأ في إحصاء المكروهين، تطول القائمة لتصل إلى أسماء تُربِك تَوقُّعاتي.
ما معنى هذا؟
لم أجد وقتا كي أصل إلى إجابة، انحَبسَ نَفَسي في صدري. عيناي تجمَّدتا على "علاء" الواقف بين المقاعد. خطا نحو المكان المُتبقّي في الكرسي الأخير. في مروره بجواري رآني. التقت عيوننا في نفس الجزء من الثانية، لكنه حوَّلَ نظرته بخطفة بارعة، خطفة تنزع العين من العين دون أن ينحرف مُؤشر الزمن. تَصرُّف مُتَعمَّد تمَّ بمنتهي التلقائيّة. عضضتُ شفتي، تلاحقت أنفاسي. أغمضتُ عينَيّ على زغلَلَة بصريّة، جَسَّدها ذهني المشحون. رأيتُه يرفعني بقوة ويضعُني في كرسي آخر، ثم يعود ويقعد مكاني. أتفاجَأ بنفسي في بيته، أتجوّل في الحجرات، أُبصر امرأة تقف في ركن، وهو هناك في مُواجهتها. من جسديهما تخرج أشعة صفراء قوية تتداخل في دوَّامة كبرى. صدري مُعبّأ بدُخان ضاغط. سأقوم حالا وأخنقه، لن أتركه حتى تخرج روحه. آه لو أرى روحه، أتأمّل شكلها، أقترب منها وألمسها. تحدث المعجزة، أَمدُّ يدي، وبمجرد أن أمسك ذلك الشيء وأتحسس رخاوة المطاط اللاصق؛ تَرجُّني رعشة قوية، أرميه وأجري.
أفيق من تَوهُّماتي، أتململ في الكرسي.
أنا وهو في مكان واحد، يجري بنا الأتوبيس إلى نهاية الخَطّ. أستبشِرُ بأنني أجلس أمامه، وبالتالي سأنزل بسرعة دون إعطائه فرصة ليتخطَّاني. في مرات سابقة حين حدث ذلك؛ كنتُ أتَتبَّعُ ظهره ثم أنحرف عن الشارع الذي يمشي فيه. أتشاغَل بالنظر إلى اليمين عبر الزجاج، تنبسط ترعة مملوءة بماء جارٍ. أتحوَّل إلى الشِّمال، حيث وجوه الجالسين في مُوازاتي، وفرار البيوت والغيطان وأعمدة الكهرباء. على بُعد خطوتين تجلس أُم حبيبة، زميلتي البيضاء المعسّلة، التي تُعاتبني دوما على سرعة انفعالي في مواقف لا تستدعي. أطوف بوجوه أغلبية الرُّكاب المُنكفئين فوق شاشات التليفونات. لا أنظر إلى الخلف، لو انطبقت السماء على الأرض لن أنظر خلفي. في اللحظة التي سألتفت فيها ستقع عيناي في عينيه. أُردّد بلساني داخل فمي: لا تلتفت، إياك أن تُدير رقبتك، وجهه في انتظارك، يترصّدكَ أينما كُنتَ. أُريح رأسي على مسند الكرسي. يُشتّتُني هاجس أنه ينظر ناحيتي بمُعدّل نظرة كل ثانية، ويفكر في لحظة التقاء نظرتينا، ثم الشرارة التي ستطق في منتصف المسافة بيننا. لابد أنّ ما يتلوَّى بداخلي، وعلى وشك الانفجار، قد وصل إليه، والدليل إحساسي بموجات ساخنة، قادمة من الخلف وتكاد أن تُشعِل قفاي.
يرتجُّ الأتوبيس في لفتة غشيمة.
تتعالى الأصوات: "بالرَّاحة شويّة يا أسطَى".
آخر ما يخطر على بالي، في أسوأ الظّروف القَدَريّة، أن ننقلب في الترعة، وأكون مع هذا الشخص في عناق إجباري، يستميت على النجاة. سأدفعه عني بكل طاقتي المكبوتة، لا يمكن أن يكون وجهه آخر الوجوه التي آخُذها معي إلى الأبد.
انتفضتُ واقفا، وخطوتُ إلى الباب. أشرتُ للسائق: "على جَنب يا أسطَى".
نَويتُ أن أتمَشَّى المائة متر الباقية.
***
حسام المقدم