ليلى ناسمي - طقس الغجرية في قنص النص

طَقْسُ الغَجَرِية في قَنْصِ النّص
أو جازمان

ثَوْبٌ على ثوبٍ على خَرزٍ على محارٍ
على صَدَفٍ أبْهى من كلِّ الصُّدَفِ
الطّينُ وصَهيلُ الّليلِ في أوْرِدَتي
قَرْقَعَة الأصْفادِ وسَوْطُ الجلادِ
مَرْجانُ الجُزُرِ الموؤدة في قاعِ الأطلسي
خُيوطُ الشّمسِ الَّلاهِبَة
في صَحاري مَامَّا أفْريكا
ألْوانُ قُزحَ البَارِدَة
في سماءِ مُوكَادُورْ
وَصايا الجدّاتِ
وهُنَّ يَعبُرنَ النَّهر نحْوَ الأبَدِ
بقايا نَشا القَصَبِ
في الصّحْنِ الخَشَبي
هدِيرُ المَوجِ في جَوْفِ المحّارِ
بعْضُ أدَواتِ الغجرية
لقَنْصِ النَّصِ
هَسْ لا تشي بما رأيتَ
ذاكَ نصٌّ حُبِّرَ بحِبْر النَّوايا السِّري...
الآنَ سَأكْتُب بياضَ فِكْرةٍ لا يُقْرأُ
سَأَسْكُبُ ريقَ الحَرْفِ
على قَصَبِ الحقْل
لينموَ في حوْضِ الظَّنِ
الجَسدُ الخزانةُ
الجسدُ المشْجَبُ
الجسَدُ العلامةُ الفارِقةُ
جَسدُ الغَجَريَّةِ
مَعْبَرُ الفرحِ الهَشِّ
مَحْمَلُ الألَمِ الصَّلْدِ
مَرْقَدُ الحُلُمِ في مَنْفاه
آه يا سِوارَ جدَّتي
يا خُلخالَها...
آه يا سلالَ أرَقي
يا اشتِعالَ الأبْيضِ في مَفْرِقي
آه يا جِلْدَ البَامْبُولاسْ
لا تَذْكُرُ الغجَريةُ كَم مِن الزّمَنِ مَضى
ولا كمْ مِن الألَمِ بَقِي
تَجلِسُ على حَافَّة الضّوْءِ المُنْسابِ
مِن قُرْصِ القَمرِ
تَرْقُبُ الشَّطَ
تَلُمُّ المحّارَ
تَحمِلُه إلى أذُنِها
تُصيخُ السّمْعَ
تَدْمَعُ عَيْناها تارَةً
وَطَوْرا تُشِعُّ بِفَرحِ طفْلَة
لمْ تَنْحَرْ أحلامَها بَعْدُ
أَعْرافُ القبيلة
تَزْعُمُ الغجرية أنّها كانَتْ هناكَ
عندما عَبَرُوا...
عَلى طَرَفِ الصَّخْرة
شَمالَ شَطِّ مُوكادُورْ
كانَ جِلْدُ وَالَامْبُو الفَتِيُ المُتَيَبِّسُ
يُلاحِقُ لاهِثا صَلِيلَ سَلاسِلهم
خَطْوَهم المُتَثاقِل بأكْداسِ العظامِ
والأجسادِ المنْخورَةِ بمَناقيرِ الطَّيْرِ
وأنْيابِ الوُحوشِ
مَضى حَوْلٌ أو حَوْلانِ وَرُبَّما ثَلات
مُذُ فارَقَت الرُّوحُ الجَسَدَ
هُناكَ في وَادِي العَبيدِ
على مَشارِفِ قَرْيَةِ ابْزُو
الغافيةُ في حُضْنِ جبالِ الأطْلَسِ
لمْ يكُنْ يُمَيِّزُ بَيْنَهُ حَيًّا أمْ مَيّتا،
لَكِنَّهُ لازالَ يَسْكُنُ قِطْعَةً مِنْ جِلْدِهِ،
جِلْدُهُ الذي يَئِنُّ كُلّما مَرّتْ قَوافِلُ الرّجالِ المُصَفَّدينَ...
داسَتْهُ قَدَمٌ يعرِفُها،
قَدمٌ شَقَّقَها المَشْيُ الطّويلُ
مِنْ دَغْلِ القبيلةِ إلى شَطِّ مُوكادُورْ...
"أنا وَالامْبُو... لمْ أعْبُرْ يا أُمي،
أنا وَالامْبُو يا أمي،
مِتُّ وَلَم تَمُتْ روحِي بَعْدُ،
ماتُوا كَثيراً مَعي،
قُطِفُوا تَحْتَ جُنْحِ الظّلامِ
وبَقيْتُ واقِفا يا أمي
الغِربانُ نَقَرَتْ عَيْنَيَ،
نَقَرَتْ كُلّ أحْشائي،
رَأيْتُها ورأيْتُهم يَعْبُرونَ نَحْوَ المَراكِبِ،
لمْ أحْيَا لأرْكَبَ مَعَهم...
هُنا مِتُّ نِصْفَ مِيتَةٍ.
سَتَظَلُّ روحي تَزْحَفُ
مِنْ وادي العبيدِ لِشَطِّ مُوكادُورْ...
وسَيَظَلُّ غَضَبي يَنْمُو،
يَنْمو، يَنْمو، ينمو
حتى يَصِلَ الشطَّ البَعيدَ هُناك "
تَزْعُمُ الغجرية أنَّ امرأةً
كَثَّةَ الشَّعْرِ
سَوْداءَ البَشْرَة،
بَيْضاءَ البَسْمَة،
مَشْدُودَةً كانَتْ إلى رُقْعَة جِلْدٍ
تُكَلِّمُها فَتَرُدُّ!
"وَالامْبُو يا كَبِدَي
لا تَنَمْ فَيَطولُ مَوْتُكَ وَيقْصُرُ أَمَدِي،
اِبْقَ مَعي ولا تَخَفْ،
أنا أُمُّكَ التّي لمْ تَنَمْ بَعْدكَ،
أُمُكَ الّتي تَشَمّعَ في مَحاجِرِها الدّمْعُ
ها يُكابِدُ بِبُعْدِك جَسَدي
ها أراكَ تَهْرُبُ مِنْ بَطْشِهم
ولا تُدْرِكُ بَرًّا
ها أراكَ تُرَبَّي الحِقْدَ في جِلْدِك
وتعْتَصَرُ الحُزنَ في يَدي
كُنْ الطّيْرَ يا وَلَدي
ولا تَسْقُطْ حَيْثُ سَقَطُوا...
جَيّدٌ أنّكَ لَمْ تَمُتْ إلّا قَليلا...
جَيّدٌ أنّكَ لَمْ تَمُتْ إلّا قَليلا"
تَزْعُمُ الغَجريَّةُ أنّ وَالامْبُو يَرُدُّ
وَالامْبُو يَئِنُّ
" إنّي رَأيْتُ يا أُمّي بُقَعَ ضَوْءٍ
تَنْبَثِقُ مِنْ أَجْسادِهم
تلُوذُ بِهَدِيرِ المَوْجِ في
جَوْفِ المَحّارِ نَهاراً
تَنْتشِرُ في اللّيْلِ على الماءِ
تَقْفُو انْحِدارَ المَراكِبِ وعُلُوِّها مَعَ المَوْجِ
تَحْرُسُ الأحْياءَ مِنّا
وتَحْرُسُ رُسُوّهم
على الشّطِ البَعيدِ هُناك
رأيْتُ يا أمّي
أرْواحَهم قَناديلَ
تَطْفو على الماءِ
تَصِلُ الشّطَ البعيدَ
ثُمَّ تَعُود معَ خُيوطِ الصّبْحِ إليَّ
تُرَبّتُ على يَباسِ جِلْدي وتَقولُ:
لنْ تُحَلّقَ في شَساعَةِ الأُفْقِ
قَبْلَ دَقِّ الطّبْلِ الحَيِّ
في ساحَةِ الكُونْغُو...
وساحَةُ الكُونْغُو لَمْ تَكُنْ بَعْدُ يا أمّي
فَإلى مَتى أظَلُّ ها هُنا
أزْحَفُ بَيْنَ وادي العَبيدِ
وشَطّ مُوكادُورْ...؟
تَزْعُم الغَجَريةُ
أنّ الأُم
السّوداءَ البَشْرَةِ
البَيْضاءَ البَسْمَةِ
رَكِبَت المَرْكَبَ،
المركبُ الّذي رَبُّهُ رَجُلٌ مُتَلَوِّنٌ
حِرْبائِيُ السّيرَةِ
مَجْرورَةً كانَتْ
كَبَقَرَةٍ مِنْ حَلَقَةٍ في أنْفِها
تَصْرُخُ:
الجِلْد، الجِلْد، إبْنِيَ الجِلْدُ
وتَذْكُرُ أنّهم ضَحِكُوا كَثيراً
وأنّهم لَمْ يَفْقَهُوا قَوْلَها...
وتَزْعُمُ الغَجَريةُ
أنّها لَحِقَتْها حتّى المَرْكَبِ
وسَلَّمَتْها ابْنها الجِلْد...
وتَزْعُمُ
أنّ قَناديلَ خافِتَة
شَيّعَتْهم تَتَراقَصُ
كما لو كانَت جَذْلى تُوَدّعُهم
وأنّها ظَلَّتْ تَعُودُ في غَبَشِ الصُّبْحِ
تَخُطُّ على رَمْل الشّطِ
مَوالاً حَزيناً
يَظَلُّ يَئِنُّ حتى يَمْتَدَّ المَدُّ
يَجْرِفُه إلى القَاعِ حَيثُ يَلُوذُ
بِجَوْفِ المَحّارِ
العَامِرِ بِهَديرِ المَوْجِ
تَزْعُمُ الغجَريةُ
أنّ بُقَعَ الضّوْءِ تِلك
شَيَّعَتْ مَرْكبَ الرّجلِ المُتَلوّنِ
والرّجالِ المُصَفّدينَ
لآخِر مَرّةٍ
وأنّها لمْ تَعُدْ بَعْدها للشّطِ
وأنّها – بُقَعُ الضوءِ تلك –
كَتَبَتْ يَومَها على الرّمْلِ
وَصِية الجَدّة لابْنها
"أنْ احْمِلْ جِلْدَ ابْني
إلى السّاحاتِ ليُغَنّي...
فَمهْما طالَ أَمَدُ الزّحْفِ
سَيَجيئُ زَمَنُ العَزْفِ"...
خَرجَ الجِلْدُ في الحُلُمِ
يَرْقُصُ
يَقْفِزُ
"هَيا امْضِ بي اليَوْمَ إلى جَلّاِد الطّبُولِ"
ها صارَ الجِلدُ
الإبْنُ
بَامْبُولاسْ...
دَخلَ وَالامْبُو ساحَةَ الكُونْغُو
غَرَّدَ
ودَقَّ
وكانَ هَدِيرُه شَجِيّاً
كانَ ثَوْرِياً
كانَ صافِياً
نَقِيّاً
كانَ عَصِياً
حَيًّا
يَنْبُضُ كالقَلْبِ...
تَزْعُمُ الغجريةُ
أنّها أَيَقَنَتْ يَوْمَها
أنّ وصايا الجَدّاتِ
بتحْريرِ الهَديرِ مِنْ جَوْفِ المحّارِ
قَدْ تَحَقّقَتْ
وأنّ شَجَرَةَ التّفاحِ الغَريبِ
قَدْ أيْنَعَتْ بالدّمِ الأسْوَدِ
فكانتْ الثَّورَةُ
وكانَ النّشيدُ
وكانَتْ أرْواحُهم
المُتَدَلِيَة كثِمارِ الشّجَرَةِ الغَريِبَة
نُوطاتٍ تَرْقُدُ على الأغْصانِ
ثُمّ صارَتْ قَنادِيلَ
تَحُفُّ أنينَهم
ثُمّ أغَاريدَ
يَصْدَحُ بها الجَازْمَانُ
في ساحَةِ الكُونْغُو....
وأنا
أزْعُمُ أنّي الغَجَرِيةُ
وأزْعُمُ
أنّي دَخَلْتُ الكَهْفَ،
كَهْفَ قَلْبي
فَوَجَدْتُهم مُتَحَلّقينَ
حَوْلَ رَسْمٍ لِيَدٍ
كانتْ أبَداً تدْمي
فَلا يَجِفُّ الرَّسْمُ
ولا يَنْضُبُ الأسى
أو يخفت النّغمُ
كانُوا جازْماناتٍ
يَرْتَجِلُونَ الحُزْنَ المُعَتّقَ
في أقْبِيَةِ الوَقْتِ
وكنتُ الغَجَرية
أرْتَجِلُ الكلامَ
والحياةَ الغافِيَةَ
في قَعْرِ بِئْرٍ مَهْجُورَةٍ
تُدْعى مَجازاً الرّوح...
تُهرِّبُ الغجَريةُ في مَحّاراتِ الشّطِ
هَديرَ الموجِ للأبَدِ
وللماءِ أنْ يُبَدّدَ شَهْوةَ النّارِ
عِنْدَ مُضّجَعِ الأزلِ
رائحةُ الصّنْدَلِ
نَقْعُ ذاكِرَةِ الآلهَةِ
في النّدَمِ
هلْ كانَ لابُدَّ مِنْ آدَمَ
لتَنْضُجَ حِكْمَةُ الخَلْقِ
في أوانيهم؟
مَنْ بَدّدَ أبجَدِيَةَ الخَلْقِ
في بَرْدياتِ المعابِدِ إذًا؟
على الكَفِّ المُخَضّبِ
برِضابِ غَضَبِ الرّبِ
مُدّتْ حاءُ الحُبّ
وانْقبَضَتْ باءُه
كتاءٍ ربَطَها النَّحَويونَ
فعزَّ العِشْقُ
الحَرفُ روحٌ جلّلَها الفَقْدُ
راودَتْها الغَجَريةُ
ولمْ تَظْفُرْ بغَيْرِ الحُزْنِ المعَتّقِ
في المقَلِ العابِرة
قبسٌ من فتيلِ شهْوة الحياةِ في كَفِّ الغَجريةِ
يكْفي لإضْرامِ حَرائِقِ روما
قَطْرةٌ منْ عِنَبِ قَبْوِها
تكْفي ليَسْكَرَ عسَسُ القيْصرِ
ويثُورَ على القَصرِ
ها يسْحَبُني ظلامُ الكهْفِ إليْها
أدْخُلُ قَلْبَ الغَجريةِ الكَهْفُ.
وقِيثارَةُ الجازِ
مَجازٌ تَجاوَزَ حِبالَ الفِتْيةِ الحُفاةِ
يَرقُصونَ على جَمْرِ مَباخِرِ الأرْبابِ
في عَرضِ الأطْلَسِي
"جَلْدْ هَادْ لْبَنْدِيرْ
بَامْبْراوي مَسْلُووووخْ مَنْ عَامْ جُوووعْ..."
الخَرَزُ
النّايُ
البخورُ
الفحْمُ
العيْنُ
النَّغَمُ
الألْوانُ
فِخاخُ الغَجَريَةِ
عِنْدَ انْدِلاعِ قَهْقَهاتِ أرْواحِهم
وهم يَزْحَفونَ
عُراةً
حُفاةً
نَحْوَ البَحْرِ
ها تدْلقُ شلّالاً مِنَ الهَمْهَماتِ
عِنْدَ أقْدامِهم
ثُمّ تَعودُ وتَلُمّها
كما لو كانَتْ أشواكًا تَخْشى أن تُدْمِيهم
هَل يَنُقُصُ صَدى الوتَرِ حينَ الشّدِ
لو غَمَرهُ حَرْفٌ
مُصَفّدٌ بالفَقْدِ؟
" جلْد الشّاةِ آه كَمْ... وكَمْ...
حتّى بَعْد سَلخِها...
يا أيُها المسْحُول
على رمالِ الشّط..."
لمّا خَذَلَها القلبُ العاشِقِ
مادَتْ الارْضُ تحتَ قَدمها
دَخَلتْ دَغْلَ الدّواخِلِ
ولم تَخْرُج
إلا وقَدْ رتّبتَ قُصاصاتِها
الحُبّ لُعْبةُ الخَلْقِ
والخَلْقُ لُعْبَتُها
الغجريةُ
لا تكتبُ
الغجريةُ تَنْكتبُ بلا نِقاطٍ ولا فَواصِلَ
نِكايَةً بثَرثَرةِ الجاراتِ عنْدَ النّبْعِ
على جِيدِها المشْجَبِ
تُعلّقُ أمنِياتِها المشْغولَة مِن عقيقٍ وخرزٍ وأصدافٍ
التَقَطَتْها منْ عُمْق نَهرٍ أو شطّ بَحر
الآن تَكفي طَرْفَةُ رِمْشٍ،
نَقْرةٌ على لَوْحٍ
لتُعيدَ الغجرية تَرْتيبَ
الفَرَحِ والحُزْنِ معاً.
تَكْفي لتَوْزيعِ الدّهْشةِ
على الحُروفِ جميعاً
ها ظَفَرْنا
بالنّصِ والقَصِّ معاً...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى