أمل الكردفاني- العنكبوت العجوز..

الساعة الرابعة وست وأربعون دقيقة، الوقت الذي يسمونه عصراً، أو.. ذلك الوقت الذي تتجمع فيه بعضُ الغيمات لتمارس نميمة ما قبل الغروب. غيمات بائسة كخفير المقابر. هو الوقت نفسه الذي أجلس فيه دائماً في نقطة لا زمنية بين مدارين. هاهنا تلتئم كآبات الماضي كضباع البريَّة فوق جثة الدماغ، حيث أبدأ بعدِّ الفول؛ فولة فولتان، ثلاث فولات..أربع..الخ.. كل فولة تتكون من أربع وعشرين ساعة ثم أشهر فسنوات، هي سنوات أحسب أنها مرت من هنا..أمامي. نعم.. من هنا أمامي. ربما من خلفي.. أو فوقي أو تحتي، المهم أنها مرت..وحين يتبدد الغمام بسديم الليل فتتغشاني العتمة رويداً رويداً، أدير رأسي قليلاً نحو النافذة التي لم أغلقها حتى أرى السنوات العابرة. فأشعر بلطمة ريح خفيفة على عظم صدغي، أدرك حينها بأنني أحمل جمجمة فقط بلا لحم. لأنني أرى انعكاس نجم وحيد فوق عظم ساعدي، عظم أبيض. ويلفني صمت مريب معتاد. أحرك سبابتي ذات المخلب البني المتسخ فيتبخر التراب ويتحرك عنكبوت عجوز حول رقبتي هابطاً ببطء عبر كتفي إلى ذراعي ثم إلى سبابتي ويقفز قفزة واحد باقراً بطنه بمخلب السبابة. لقد انتحر.. لا أعرف ما الفرق؟ حقاً لا أعرف.. الفرق هو أنه خسر الأمل.. لا شيء أكثر من ذلك. لقد ظل حياً يلازمني لسنوات فلم أفكر فيه فلسفياً إلا حين قتل نفسه. هكذا هو الإنسان لا يفكر في الأشياء إلا بعد فقدها. وإزاء هذه الحقيقة، ألزمت نفسي باسترجاع كل ماضيَّ مع ذلك العنكبوت العجوز.. كلَّ الماضي المشترك الذي تقاسمنا لا شيئيته معاً. على هذا الأساس؛ فلا شيء يمكن استرداده، لا وقائع، لا أحداث، لا حديث ولا شجار، بل وئاماً صامتاً، لذلك خيل إليَّ بأن الأزواج الذين لا يتشاجرون يعيشون من أجل لحظة الموت. اللحظة التي يتخذ أحدهما قراراً بالقفز فوق مخلب حاد وبقر بطنه. إنه الحدث الأعظم. وحتى إن لم ينتحر أحدهما بل مات حتف أنفه؛ فسيكون حدثاً عظيماً يمنح تلك العلاقة الإتحادية معناها الأول والأخير. شيء ما يكمن في الأزل، ويكمن في نفس الوقت في الأبد. شيء ما أنا والعنكبوت عشنا عليه. انكمشت أرجل العنكبوت الفقارية وتخشبت كزهرة الشيطان. ثم أخذ جسده ينغمر في ذاته حتى تحول لكرة صغيرة مقرفة، ارتعشت على إثر مشهد تكورها سبابتي، فتدحرجت جثته الكروية واختفت أسفلي في الظلمة الحالكة. واكتشفت بأن العنكبوت العجوز منحني شيئاً ما قبل أن يموت. شيء من لا شيء يمكنني أن أحظى فيه ببعض الحكمة. وكان ذلك رائعاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى