كرم الصباغ - سندس الطيبين.. قصة

سلام على الطيبين، ضرب التراب بالعصا ذات الرأس المعكوف، ورنا بعينيه الطيبتين إلى سماء من صفو وزرقة وحليب سحاب ممتزج بالتخوم العلوية. عمامة بيضاء كبيرة، جلباب أبيض، و قلب أشد بياضا، وجه صبوح غازل الصباح الوليد ، مدد...مدد..مدد ، الزرع في الغيطان حلو ،والخضرة حياة ،مدد كلمة من نور عطرت الفم ، هتف الشيخ ،فخرج نشيد العشق من القلب قبل الشفتين ،وغنت سماء خاشعة، البيوت البعيدة قطرات غيث ذابت في مرايا الأفق والنسيم ،فبدت أحطاب القطن فوق الدور قباب مساجد تستحم في الندى الرءوم ،والشيخ عبد القادر جدَّ في الخطو وحيدا ،واللسان الرطب لهج بأوراد الصباح ، بين الغيطان مشى كعادته مرسخا رؤى صوفي ذي بصيرة رأى زروع الحقول أقطابَ طريقةٍ ،ورأى الورد الندي دراويشَ و أهلَ طريقٍ ؛هل أذنبت الزروع يوما؟!! هل خالط الوحل قلب القمح ؟!!،هل خاتلت سنابل الأرز ملذات الوقت ، فاغترفت أطباق الشهوة الخادعة؟!! ،هل باع الورد أحلام الكادحين ؟!! هل عبث الزهر بأوجاع الناس ، فأنطفأ قبس الأريج والمدد؟!! العرق تفصد من جبهة أدمنت السجود ، فنز المسك الشهي ،و تعطَّر الجو بالشذى، طرقٌ على الأبواب ،والوجه الأبيض ذاب في حلاوة الورد والبرد ، والزروع رقصت وتمايلت كصفوف الأقطاب ، ومنشد الطريقة عصفور شفَّ صلصاله، والروح الطيبة تعلقت بحبال الطريق و أغاني الوجد ، روح ملهوفة ستصل دونما كد إلى رحاب سماء بدت قريبة بل أقرب من حبل الوريد ، بينما ظل الشيخ طَرِبا وسط دوائر الخضرة ينتظر عودة الروح المسافرة ،وينتظر رسائل المزور بشوق المحب ويقين الأوابين .
( ٢)
يا عبد القادر : مات أبوك ، تجلد ،دس أوجاعك في خرقة الصالحين ومسوح الرضا، هاك كأس الصبر ، أشربت عند الصدمة الأولى عناب البرد أم تلكأت كعادتك؟!! مات أبوك ، أقرأت وِرْدَ الليلِ أم غلبتك لذة النوم ،وكبلك دفء الفراش ؟!! أوردتَ معينَ السحرِ أم صدرتَ عن خمرته الرائقة ،وشربت خبال الغافلين ؟!! مات أبوك ،والأيتام ثمانية...آه ..أنت العائل في الظاهر ،وعلي أريكة الله ستغني طيور العون...هاك تلك التمرات ؛فأنت صائم لم تفطر بعد ..هل توضأت لصلاة الفجر أم تباطأت كعادتك ؟!! يا ابن السابعة عشرة ،لا تتأفف لن يوقظك أبوك بعد الأن ،انصت؛ فقد هتف الهاتف في الرحاب :إن جئت خاطبا العبير ،فمرحبا بالواردين، وإن جئت قسرا تخشى سوط العقاب ،فلن ترى عيناك الباب حتى تعطر السريرة بكؤوس المحبة والأريج ، شقي يلعب كوتر منفلت أراد التحرر ،فسقط اللحن في الشرك، تبا للحظات الحياد ، تبا لنسج الحكاء، دعوه يبكي قليلا ،فالقلب حزين ، يا عبد القادر مات أبوك ،أيها المكلوم: انتحب لديك فسحة من الوقت قبل مجيء المغسلين ،الثم جسد الشيخ حسن ، واحتضن أباك جيدا ،واشدد عمامتك، قف رجلا؛ فالطريق طويل ،والحمل ثقيل ، هاك تلك عصاه و تلك ثيابه الناصعة استحمت في الصفاء والبياض و شربت عبق أبيك و رائحة عرقه ،و تلك مسبحته تشكو هجر الأنامل الحانية ، يا وارث العهد والطريقة : ألبستَ ثياب حدودك ؟!! أشربتَ عناب مرادك؟!!أأكلتَ تمرات صفائك؟!!يا عبد القادر : لم يمت أبوك ، فالشيخ حسن حلت روحه في صلصالك الشفاف ،فأورثك عذوبة الصوت ، وحلاوة النشيد ، مدد..مدد ..مدد، طرقٌ على الأبواب ، والروحان تعانقا في الرحاب ، فتم الامتزاج والذوبان، فتى أخضر كالغزلان ودَّ اللهو كسائر الفتيان ،وشيخ طريقة مسن أضناه الشوق ،فسافر إلى الله ...والله حي له شفَّ عنفوانُ البحرِ والريح ،له لان قلب الصخور و بأس الحديد، الله سلام بلا حدود ،الله محبة أثلجت وجع المتعبين من الرزايا، ،الله نور في البراح والزوايا ،الله باب القاصدين في أكواخ البائسين وخلوات العابدين وأبراج المترفين ، يا عبد القادر :قم كي تودع أباك ،أما زلت نائما ؟!! أف لفتى أدمن النوم الطويل ؛ فالقلب غافل مازال مشربا بحمى النظر إلى أجساد الجارات اليافعات وفاكهة النساء، والعينان شبعتا من استراق النظر الحرام ، فالتهب الصلصال بجمر الرغبات الزائلة ،ألم تنه عن محاكاة العميان؟!! ؛ فأنت المبصر، ونورك باق، وصلصالك عجين من نوع أخر لم يختم بعد ،لم يحرق بعد ،لم يتلون بعد ،لم يتشكل بعد ، فللصلصال طريق وديدن ، ولنا في العشق طريق ، هاك إبريق الغرائز ،ارتشف منه قطرات دونما إسراف ؛ فالصوم توأم العشق المحض ،و طعمة الإفطار يسيرة بالكاد تقيم الأود ، يا عبد القادر :قد آن أوان الترحال ،اخلع قميص الدنيا من رقبتك، أنت مختار ،فلا تبتئس ،هاك تلك الروح روح أبيك ، قد مزجت بروحك، دسها في الحنايا ، قم واخرج على الناس بوجهك الصبوح.
( ٣ )
الدار رحبة من لبنات نيئة ،والسقف الخشبي وشوش دوائر التواشيح الصاعدة إليه، مليح ألقى زينته وارتحل إلى سماء الله ، فغنت الخضرة، واختمر الوجد ، وشف الصلصال ،السرير ذو الأعمدة النحاسية سفينة الإبحار ، والملاح عبد القادر ابن بكر للشيخ حسن مريز السمالوسي ، ملاح تهجى حروف الدرب ،وقرأ كتب الشوق ، ولهج بأوراد الحب صباح مساء ، ولما تم مراده ،وذاق حلاوة العارفين ، أبحر في يم الكشف أعواما ،وخلع نعومة الزيف ،وكسر خزف الدنيا ، دنيا متخددة هشة كبيوت العناكب ،بالكاد تصلح نعلا ،والمليح انتعل البهرج في قدميه، خلع الأقطان، وارتدى أثمال الزهد، صوفي خالص في سرير أبيه وخلوته، نهار مكتظ بالسعي ، أنت العائل كظلة غمام ، والأيتام هرر جائعة ، أرخيت لها في صدرك أريكة أودعها الله فيك ،وبيديك الحانيتين مسدت أوجاع الهرر، و أطعمتها من أشجار البركة اليانعة ، الحقول واسعة ، والأديم رحم ولود ، والزروع حياة ، والأديم رزق ، والزروع تصلي وتقرأ الفاتحة ، ألم تصل العصر في جماعة الحقول؟!!، ألم تكن إماما للشجر ؟!! ألم يختم الأرز الأوراد معك؟!! ،ألم تسبح بين يديك كيزان الذرة و أعواد القصب ؟!! بشرى للطيبين المنكفئين على الأوجاع وغرس الشتلات ، الحصان جر شتلات الأرز في ملاعب الحقول ، يا عبد القادر : ألم تكن في مقدمة الركب منشدا رتل التواشيح ، فتمايل الغارسون والغارسات طربا رغم الألم المنبعث من الظهور المحنية والأرجل المتعبة في غراء الطمي والأديم ؟!! حلو كالتوت شدوك، شهي كالمسك عرقك، تبا للحظات الحياد ؛ إني أحبك ، إني أبكي الآن وأنا أنظم حبات المسبحة المنفرطة في حجري كعمري المنصرم ،ما بال الدمع الحار يسيل من المآقي كنبع فاضت أحزانه ؟!!؛ لقد تذكرتك ،وهل نسيتك يوما ؟!!، من أنا ؟!!أنا ذلك الشقي المأفون ذلك الحكاء التعس العالق بين سماء الله وأرض الناس العمياء ،في حضرتك ربوت كسيقان الشجر ،في خلوتك شربت الضياء كأغصان التوت الناضرة، ستكون لي رئة ،سأسكب في أذنيك وقلبك أحلامي و أوجاعي ،سأكون أحد دراويشك، ألم تغرس شتلات الحب في قلبي الغض ؟!! ، ألم أحدثك عن حب فتاة لونت ساحات فتى يتلكأ كفراشة فوق جسر الدنيا الخداعة ؟!! ، فضحكت صفيا وبهيا، وحدثتني عن نبع الحب العلوي و أصل العشق المحض ، حدثتني عن حب الله ،وبكيت ، لقد رأيت دموعك كلآلئ ،فلزمت طريقك، رغم توجس مأفون يعربد بين الحين والحين في قلبي الذي لم يتأدب بعد، بشرى للطيبين الجالسين فوق الحصير المتآكل مساء في زاوية فقيرة على شط ترعة النوبارية، اليمام نور يرش الكون بتراتيل النغم و زيتون الأذكار ، وأنت في العقد لؤلؤة الواسطة و منشد الأقطاب ، شهي صوتك الرخيم، و الهرر شبعت من حنانك المغزول، وانهمرت فوقها مطر البركات ، فصارت قططا سمانا، ستطرق باب أبي ، سيضع أمانة شقيقته الوحيدة في كنانتك ، مرحى قدر رحيم يلقي الرسائل من عليين ، صلة بيني و بينك تختمر في سديم الغيب كأرغفة عجين ستنضج بعد سنين، أظننت اللقاء سدى ؟!! أظننت عناق الأرواح هباء ؟!! يا هذا : تأدب ، واقرأ بعناية رسائل الطيبين .
( ٤)
أيها الحكاء التعس: نمت طويلا ، الحق بركب الشيخ ، تمهل يا سيدي عبد القادر، يا درة رأسي ، يا شيخي : أتعبني السير ، وهل يلحق صلصال الشهوة بخيول النور الشفافة؟!! خيلك يعلو، و أنا سأجثو وحيدا في نار سعير أعمى، ستمزقني سيوف العزلة، لن أجد صدرا يحنو أو طبيبا يحسن مداواة الأوجاع ،لن أجد بهاء الصبح الكامن فيك ، من يجلو صدأي الآن ؟!! خيلك يعلو ، لا تتركني ، حلقات الذكر عرائس، و أنت الخاطب ، حقول العشق عنادل ، وأنت العازف ، قلوب الأقطاب رمال ،وأنت الساكب ماء الورد و أرغفة الخضرة ، خيلك يعلو ، يا شيخي: أجهدني الركض، أيها الحكاء المأفون : استيقظ لقد رحل الشيخ ، لقد هجر النور أرضا عمياء ، يا عبد القادر: بشراك؛ لقد ولجت الباب ، وأذن لك ، فتجاوزت الأعتاب ،وأنا ما زلت مكبلا بغراء الصلصال المتعفن ،وأسفاه عليَّ ؛ عدمت الطالب و المطلوب ، أيها الحكاء المأفون :ادخل تلك الدار الرحبة ، قبل اللبنات النيئة ،فطالما قبلتْ تلك اللبنات وجنات الشيخ ، لا تستأذن؛ فسيدك عبد القادر ينتظرك ، عجلْ ،لا تتأخرْ ؛ فالوقت قصير، سيأتي المغسلون كي تتوضأ قلوبهم من يم العطر الساجد بين الأيدي الوجلة، عجل ، احتضن الجسد ، أف لك، لا تبك الآن ، لا تتعجل بكاء مرا ؛ ستبكي - يا هذا - طوال العمر ، خيلك يعلو ، لن ألحق بك وأنت مسجى بين يدي ، أعرني أطباقَ عبيرك، وا كرباه ، دعني أقبلُ أنهارَ بهاءٍ تنساب من وجهك كصفاء رضيع ،دعني ألثم شلال الطهر الواصل بين عطر يديك و تخوم الأعتاب ،دعني أشرب عناب العشق النازف من راحتيك كوداع أخير، يا هذا :استيقظ ، مات الشيخ ، فتلك ثيابه تبكي، وتلك المسبحة لم تتمالك سيلا من جمر بكاء اختلط بتسبيح سرير احتضن الجثمان الطاهر برفق محب ، و تلك عصاه المنتحبة تنتظر الوارث، وتلك الكتب اللاهجة بالأوراد، أيعلوها بعد سنين غبار تراب أعمى يعادي القراء؟!!، لقد أقام سقف الخلوة في حزن سرادق عزائه ،الوقت يمر ، يا هذا :عجل ،ابسط يدك إلى عبير الغرفة و زروع الأرض كي تأخذ عليك العهد ، ما بك ؟!! أراك تتلكأ، هل مات الشيخ فقطعت حباله؟!! هل ستسعى كسوس الأرض تتقمم فضلات الدنيا ؟!! يا هذا : ما بك ؟!! هل أثقلك الصلصال و عفن الشهوات؟!!يا خجلي ،اخرج ولا ترجع ؛ فخلوة شيخك قد جرحت للتو ، لن تسع طنطة الحمقى و تخبط مأفون ،لن تسع تردد عصفور اقتلع عينيه، وثبت في مدار بصيرته حصوات عمياء لن تبصر أبدا، لن تسع الخلوة نزق الشعراء وجدلا مرذولا يبيع كلاما مفقوء العينين ، يا شيخي: خيلك يعلو، لن ألحق بك ؛ فأنا المصلوب على جذع خياناتي ، وأنت نفحة عطر تسري في الملكوت ،أنا ملح أرض بائرة ، وأنت شارات خصوبة أنجبتْ قناديلَ ضياءٍ ،لن ألحق بك ،سامحني ،سأخرج الآن في رداء متسخ منسوج من خزي ،سأحمل أكياسا من عاري بأسف محب ،سأغادر خلوتك منكسرا ،الصلصال المتعفن ينهش بدني يخنق روحي المتبلدة في مرابط تتقمم ، الصلصال سور حجب عبيرك عني ، يا الله : اهدم هذا السور، يا هذا الحكاء التعس : أمامك زروع الأرض ،فثم الأقطاب ،أمامك حقول خضراء ،فثمة خلوة ،روح الشيخ ترابط هناك في سندسها وسط دوائر الخضرة، الآن قد عرفت طريق حبيبك ،هتف الهاتف ،فترددتْ الأصداءُ في أذني كأهازيج الريح ، ولما قلبتُ قلبي المكسور في سماء الله ،لم تسعفني بصيرة عمياء، فأخرجت من طيات ثيابي أورادا كادت أن تنسى ، ولما أطلقت يمام الذكر، وأشعلت بخور التسبيح ، أنار خيط رفيع من نور جنبات الروح المعتمة ، فتوجهت إلى براح الحقول ،ثمة أقطاب يتوافدون ،ويفترشون السندس والعشب ،ويشكلون حلقات أحاطت بها دوائر الزرع و ثمرات النور ، جثوت بعيدا في خجل أراقب دراويش الشيخ وأقطاب الزرع ،فنهض أحد الأقطاب وأعطى الشارة ، فانهمك الجمع في ذكر حار ، تابعت الحضرة من مكمن منبوذ يحرقني ندمُ كسيرٍ؛ فأنا فقير ردته الأبواب ،بكيت بكاء مرا ،وتردد في قلبي صوت النشيج والانتحاب ،لم أشعر إلا بيد حانية تربت على كتفي ، وتأخذ بيدي إلى سندس الطيبين والعشاق ،فلما رفعت البصر الزائغ صوب رفيقي الحاني كي أتبين ملامح وجهه لم يأذن لي ، وهتف: يا هذا ، غضْ الطرفَ؛ لم يأن أوانُ الكشفِ ؛ فقلبك مازال غليظا مشربا بحمى الصلصال لم يشف و لم يتأدب بعد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى