محمد مزيد - الأميرة السلجوقية

في هذه اللحظة، التي أكتب بها هذه القصة، تكون الفتاة الصومالية، التي أمضيت نهاري معها يوم أمس، قد غادرت الى أزمير، ومن هناك ستذهب الى بحر إيجه، تتمنى ان تعبره وسط اجراءات مشددة من خفر السواحل ، حتى تصل الى أحدى الجزر اليونانية أملا بلقاء زوجها الذي تركها.
التقيت بها ظهيرة الامس، وأنا أدخل الى المتحف السلجوقي، وسط الميدان في المدينة التي أسكنها منذ سنوات، تحيط بالمتحف الذي هو عبارة عن بناء قديم أشجار الابنوس، تقع بين الاشجار عند مدخله، نافورة بيضوية بديعة التصميم، ترش مياهها في بعض الليالي على أنغام الموسيقى.
لم يكن قصدي الدحول الى المتحف، فقد زرته من قبل عشرات المرات. كنت جالسا على مصطبة في الحديقة وحدي، اتأمل جمال الطبيعة، وإذا بفتاة سوداء ذات جمال آخاذ، ترتدي فوق جسدها النحيف، بنطلونا من الكتان أبيض مع قميص أبيض، عقصت شعرها الخشن بطريقة أثارتني، كانت تتمشى لوحدها، رأيتها أقتربت من بوابة المتحف، لحقت بها، دخلت خلفها، بحثت في الممرات المتشعبة، والقاعات والغرف، فلم أعثر لها على اثر، أعلم أن المتحف هو قصر لاحد الأمراء السلاجقة .
أخذت أتجول في تلك الممرات المضاءة بمصابيح بيض، وأنظر الى عدد كبير من الدهاليز، تقع أسفل الجدران، تفضي الى قاعات متنوعة، بيضوية ومربعة ومثلثة، ثمة غرف تضم أنواعا شتى من ملابس الأمير، وأزياء زوجاته أو عشيقاته، مع الأسلحة والدروع وأنواع كثيرة من الأحذية ذات الخراطيم الحديدية.
ولما وصلت الى غرفة نوم الأمير، وجدت الفتاة جالسة على مقعد حجري، تتأمل السرير الذي يتسع لمنام خمس زوجات، عريض، يغطيه شرشف اصفر.
جلست بجانبها، ثمة أمر جذبني إليها، سحرني العطر الذي تضعه على جسدها، التفتت باتجاهي، فأبتسمت، كشفت عن اسنانها البيض المتلألئة، كنت أود أن أقول لها: ما الذ ي أجلسك في مخدع الأمير ، كمدخل للحديث معها، غير انها قالت وكأنها علمت بما يدور في ذهني :
- جئت الى هنا، وأنا أعلم إنك ستاتي خلفي، من نظرتك عرفتك، وأنت جالس هناك أمام النافورة، كنت تلاحقني، كأنما تبحث عن ملاذ، عن صحبة، الغرباء يتعارفون بسرعة، كنت أعلم أنك ستاتي الى غرفة نوم الأمير.
نهضت، دخلت الى دهليز أسفل الجدار في الغرفة، لا أعلم كيف قرأت أفكاري، وأنا أهم لاسألها عن سبب مجيئها الى هذه الغرفة. لحقت بها، اريد معرفة الى أين يفضي هذا الدهليز الذي دخلته، وما أن وصلت الى فتحته التي تحتاج الى أن يحنى الانسان ظهره حتى يلجه، فاذا بها تخرج منه وقد ارتدت ملابس مثيرة، خرجت كأنها أميرة بثوب ابيض شفاف لا يغطي الا النزر اليسير من جسدها الأسود الجميل، فقالت:
- هل تتوقع توجد هنا كاميرات مراقبة؟
بحثت في زوايا الغرفة، فلم أعثر على أثر لها، أشرت لها بيدي: كلا.
تمددت على السرير، ثم أشارت الي بالاقتراب.
أنا أعلم بحساسية العبث بممتلكات المتحف، هناك إشارات واشرطة مانعة للسياح بعدم الجلوس او النوم على اسرة او مقاعد امراء السلاجقة، رفضت التماهي مع جنونها، احتراما لشيباتي، لكنني بقيت اتأمل الجسد المتمدد امامي، واحاكي جماله مع النساء اللواتي نمن هنا قبل المئات من السنين، ولما شعرت الفتاة باليأس من عدم خوضي مع مغامرتها ، نهضت، دخلت الى الدهليز ثانية، استبدلت ملابسها، عادت لتجلس بجانبي فقالت :
- غدا سأسافر اليه.
- هل أنت متيقنة من العثور عليه؟
طفرت دموعها، تدحرجت على خديها. ثم نهضت، سبقتني الى الخروج، أردت اللحاق بها، فلم أتمكن من النهوض، تجمدت قدماي في مكاني، بقيت جالسا على المقعد الحجري.
مضت ساعة حتى استعدت قواي ووعي، قررت اللحاق بها، غير انها ضاعت في زحمة السواح الذين دخلوا الى المتحف، خرجت من البوابة الرئيسة فلم اعثر عليها .
ها أنذا، اجلس في هذا الصباح ، اكتب لكم هذه الومضة من القصة، واعلم انها اليوم سافرت الى دهليز آخر من الحياة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى