أ. د. عادل الأسطة - البحث عن بحر وشمس

في تمام الساعة السابعة مساء خرج والده يسأل عنه، ذهب إلى أصحابه واحداً واحداً وكان يسألهم السؤال ذاته:

- لقد مر يومان ولم يعد. ألم يأت عندكم. يضرب كفاً بكف، يدخن السيجارة تلو السيجارة ولا يستطيع الجلوس. كانوا يأتون له بكوب الشاي فلا يشرب سوى نصفه، يعتذر عن فعلته ويغادر إلى بيت صديق آخر لابنه، ذهب إلى المخيم المجاور بحثاً عن زملاء ابنه الآخرين. أخذ عناوين كثيرة لأصدقاء آخرين. وبدأ رحلة أخرى.

في البيت كانت أمه تنتظره ويدها على قلبها تجلس على عتبة الدار، وكلما تسمع صوت سيارة قادمة تنتفض واقفة عل زوجها يحمل خبراً. أما الصغار فقد ذهبوا إلى غرفتهم يذرفون الدمع. كانت الصغيرة تود أن تشاهد الحلقة الأخيرة من المسلسل، لكنها خافت أن يحضر والدها العصبي فيكسر شاشة التلفاز ويضربها.

بدأ المساء يلف جدران البيت بخيوطه السود، ولأول مرة تشعر الأم بثقل الليل.

- ترى لماذا فعل هذا؟ أين ذهب؟ هل اعتقل على عادة أبناء جيله. لكن الإثباتات تدل أنه ليس موجوداً خلف الجدران. ترى هل حدث معه اصطدام؟ كل المستشفيات تنفي وجود شخص بهذا الاسم.

في منتصف الليل جاء والده حزيناً مهموماً، وجد زوجته نائمة على عتبة البيت، والأطفال بلا غطاء. أيقظ زوجته لتصنع له فنجاناً من القهوة، وعادت لتسأله:

- هل ذهبت إلى أصدقائه جميعهم؟ ماذا قالوا لك؟ ألم يروه هذا النهار؟ ألم يروه أمس؟ ألم يقل لهم ؟ نظرت إلى يدها كانت اسوارتان من الذهب تلفان معصمها. تخيلته عريساً جميلاً. وبحركة لا إرادية نزعت الاسوارتين من يدها لتضعهما في يد زوجها.

- ماذا جرى لك؟ ما الذي تفعلينه.

- كنت وعدته أن أنقطه بالاسوارتين. أليس ابننا؟ نود أن نفرح به.

بكى الزوج دون أن تلحظ زوجته دمعتيه المنسابتين على خده، تطلع إلى صورته على الحائط وقال:

- لماذا فعلت هذا؟ لو قلت لنا أين ذهبت.

في الصباح جاءهم الجيران يسألونهم أن كانوا سمعوا خبراً أو عرفوا شيئاً: وجدوا الأب مهموماً حزيناً، لم يتكلم أية كلمة. الأم كانت تبكي. وحين أوشك الجيران أن يغادروا صرخت بأطفالها الذين لم يصنعوا القهوة للجيران، قال الجيران كلمات ليخففوا من ثورة الأم، ولكنهم لم يفلحوا في إيقاف الدموع الغزيرة التي ذرفتها عيناها. وأمام الجيران صرخ الزوج بزوجته:

- والله إن لم تكفي عن البكاء فسأهرب مثله، لاحظ الجيران استخدامه لفظة أهرب فأيقنوا أنه غادر بإرادته، طمأنوا الأم قائلين:

- لا بد سيعود.

وغادر الجيران. الرجال ذهبوا إلى أعمالهم والنسوة لممارسة أعمالهن المنزلية.

وخاطب الأب أبناءه:

- ألا تودون الذهاب إلى المدرسة؟

نظر الأطفال في وجوه بعضهم لا يدرون ما يفعلون. لم تجهز لهم أمهم طعامهم كالمعتاد. لم تصنع الشاي. لم توقظهم مبكرين. كان وقت المدرسة قد ولى.

ذهب الأب إلى المدينة ليبحث من جديد عله يسمع خبراً فيطمئن أمه، ويعودوا لممارسة حياتهم من جديد.

وظلت الأم جالسة على عتبة البيت تنتظر عودة ابنها.

أمه تروي حكاياته لجاراتها

الله يرضى عليه، كان يحمل الدنيا على كتفه، نقول له مثلنا مثل الناس فلا يعجبه كلامي، كان والده يلح عليه كثيراً بأن لا يخالط الآخرين فينفر من والده وقد يتصايحان، كثيراً ما هددنا بالرحيل، كثيراً ما كان يشكو من العائلة ويقول لو أنه خلق وحيداً. لو أنه لم يخلق، لم تعجبه تصرفات والده ولا تصرفات أخوته ولا تصرفاتي، قلنا له نود أن نزوجك، كان يرفض، لو أنه تزوج واستقر. الله يرضى عليه تركنا هكذا ولم يقل لنا أين ذهب، ربما هرب لأنه أصر أن يتزوج من فتاة رفضنا أن نذهب لخطبتها له.

كان مصراً على ذلك. قلت له: ليست جميلة فلم يعجبه كلامي. قلت له نود أن نزوجك فتاة جميلة، فقال عندما تصبحين رجلاً تزوجي الفتاة التي تودين، لست أدري إن كان ينسج من أحلامه، قال أنه حلم أنه يسير مرتديا حلة خضراء ويمشي في حقول خضراء يمشي إلى ما لا نهاية.

وقال لي مؤخراً: سوف أهاجر. الحياة هنا مملة. فرحنا لذلك، قلنا عله يذهب إلى الخليج يعمل هناك، فيعود بعد عام أو عامين، يبني بيتاً ونزوجه، ربما نسي الفتاة، لكنه ذهب ولم يودعنا. لم يقل. خرج كالمعتاد، تناول إفطاره، شرب الشاي، مازح أخوته، ولم يظهر أي سلوك غريب.

نسيت أن أقول أنه كان يتصايح ووالده دائما. كان والده يود أن يمنعه من الذهاب إلى النادي، كان والده يشتم كل الناس فيهب واقفاً: لا تشتم الآخرين، ذهب والده إلى أصدقائه وطلب منهم أن يتركوا ابنه في حاله، وحين علم تصايح مع والده. كانا كالديكة يتنافران في الصباح وعند الظهر وفي المساء، فكر أكثر من مرة أن يستأجر بيتاً، ولكنه كان يعدل عن فكرته حين يلحظ حالتي، آخر مرة قال لي عندما أصررت على تزويجه من فتاة جميلة: حتى أنت؟ لم أكن أتوقع منك هذا، ذكرني بالخلافات التي كانت تتم مع أبيه، لعن عيشته منذ الطفولة. ظل يبصق على العمر الضائع. لست أدري إن كان أصحابه مثله. طول عمره تفكيره غير، الله يرضى عليه لو قال لنا أين ذهب؟

الأصدقاء يتساءلون

حين كان الأصدقاء يجتمعون كانوا يقضون أوقاتهم في الثرثرة عن سلوكه الغريب،

- هكذا فعلها فجأة.

هذا ما يؤرقهم، كان صديقاً ثرثاراً، لكنه في أخر أيامه التزم الصمت المطبق، حين كانوا يرونه كان يلاحظون انطواءه على نفسه، حتى أن احدهم قال له ذلك مباشرة، لكنه لم يجد إجابة سوى الصمت.

كان برجوازياً صغيراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. كان نزقاً قلقاً لا يلتزم بموعد. يستمع كثيراً. يؤمن بما نؤمن، لكنه لا يفعل شيئاً جماعياً. نقول له يجب أن تشاركنا فعلنا، فيجيب بالإيجاب. نطلب منه أن يلتزم، فيرفض ذلك بشدة، نحاوره فيعترف بأنه على خطأ. يأتينا. يسير معنا، يناقشنا، يتحدث عن الأوضاع بأسلوب علمي ولكنه، لكنه برجوازي صغير،

إنه حالم رغم أنه عملي. أنه متشائم رغم أن سلوكه اليومي عكس ذلك.

مؤخراً وصلته رسالة من صديق له لا أدري محتواها بالضبط، ولكنه حين قرأها علق:

- مساكين يحلمون.

أظنه تحدث لي عن هذا الصديق وحواره معه. كان يقول لي، أنهم يُنظّرون هناك لأنهم يفترشون مساحة الوطن العربي، لأنهم بعيدون عن الواقع الذي نحيا.

أظنه كان يعني حالة المفارقة التي يحياها الآخرون، تلك الحالة التي تجعلهم يحلمون ويحلمون فقط. كان برجوازياً صغيراً يريد أن يدمر العالم كله فجأة، ليبني عالماً آخر. كان يريد أن يختصر الطريق.

معه الحق في ذلك. كان نشيطاً جداً. صحيح أنه متشائم، ولكنه أكثرنا عملاً. يأتي من عمله إلى المؤسسة ليعمل. كل أصدقائه كانوا يلومونه. كانوا فاقدي الأمل في المؤسسة، لكنه كان يأتي ويعمل. استمع إلى إهانات كثيرة شتمه اقرب الناس إليه، لم يسيء إلى أحد.

يمازح الصغار والكبار فيعلق الآخرون:

- يريد صوتاً انتخابياً.

كان يذهب إلى السوق يجمع التبرعات، يشتري الكتب. يكتب الجريدة ويسطرها ويعلقها، كان نشيطا جداً. كان يتحدث عن بشر آخرين. في الأشهر الأخيرة أصيب بردة فعل رهيبة. لعله قرر أن يقاطع الناس كلهم، مرة قال: سوف أجلس في غرفتي وحيداً، لا أريد أن أحدث أحدا يأتيني عزرائيل فيقتلني أو أقتله، ولكنه كان يأتينا يومياً لنذهب معاً. أخذ يردد مقولات لم يكن ليرددها. بل أنه كان يسخر ممن يرددونها. في أيامه الأخيرة قال:

مجتمعنا متخلف اجتماعيا ولا أمل، ولا بد من معجزة، قلنا له تزوج، فقد تستقر بعض الشيء. ضحك وقال: لماذا؟ أمي تود أن تزوجني كذلك.

أنا عارف، هذا ليس كأهله. لو تركوه يفعل ما يشاء. هل تذكر يا جهاد حين جلس مكانك أخر مرة. تحدث عن الحياة كما يتحدث عنها كهل، لم أر شاباً في سنه متشائماً إلى هذه الدرجة، كان يشرب الشاي عندنا وينظر في الأرض طويلاً، كان ساهماً حزيناً. قلت له ما رأيك أن تعيش بيننا فرفض، قال إنه سيهاجر. قلت له: لماذا تهاجر ؟ لم يجب.

في أيامه الأخيرة كان مختلفا تماما. حين كنا نختلي معاً كان يحدثني عن الهجرة إلى غير رجعة. ولكنه كان يتراجع عن هذه الفكرة حين يلحظ الأرض المزروعة بالمعادن، ويضيف: لو أننا أسياد أنفسنا لهاجرت فوراً. صحيح أنني لا أفعل شيئاً، لكن وجودي يجعلني أشعر أني أفعل شيئاً. كان يردد لفظة الهجرة بعد أن كان يحاربها. قال سأهاجر إلى أوروبا وأعيش متسكعا في شوارعها وباراتها. هذه البلاد قاتلة. كان يقول لي كلاماً كثيراً عن الأصدقاء والأهل والمؤسسة. حين كنا نعود من العمل كان يتأمل جبال بلاده بشكل لافت للنظر ويهمس:

- بلادنا جميلة لكننا لا نعرف كيف نستمتع بها. شتم العمر الضائع مرات كثيرة. لكنه أخذ يلتزم الصمت رويداً رويداً. فقد الأمل بكل شيء لكنه كان أكثرنا نشاطاً. لم يحل اليأس بينه وبين العمل. في البداية كان يناقش الزملاء في العمل. يحتدون معاً. في النهاية أخذ يردد: كلنا ضحية. كان يسأل دوماً عن مسافر ليحمله رسائل كثيرة. لست أدري إلى أين يرسلها. كنت أتوقع أن يفعل هذا. لم يكن يخشى شيئاً لدرجة أننا كنا دوماً نقول: أنه متسرع.

المهرة الجامحة

كان يكتب هذه العبارة على أوراقه بكثرة. لم يدر أحد سر هذه المفردة، غير أنه كان يحلم كثيراً ويحدث أحلامه للجميع: أرض خضراء، وشمس ربيعية وبيوت أنيقة، شوارع واسعة وأطفال ونساء ورجال يذهبون نحو البحر، يسبحون ويقضون أيام عطلهم، يعودون متأخرين في المساء دون خوف أو فزع، دون أن يراقب احد الآخر. دون أن يوقف جندي الآخرين ليسألهم عن ورقة يثبتون بها أنهم هم. كان يحلم كثيراً بمهرة جامحة. يرسمها ويتخيلها تضرب الأرض بقدميها مسرعة مسرعة.

(مجلة الكاتب 1981)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى