مهند يونس - هروب

ينهض الروائي لمكبته، ليهمّ بإكمال الفصل الثالث من روايته، ينظر باستغراب، تجحظ عيناه، ينسحب بجسده إلى الخلف، يفرك عينيه أكثر من مرة، ويلقي باللائمة على نوع سجائره الذي قام بتغييره مؤخرا، لكن لا شيء بإمكانه فعله، يقلب الصفحات، يبحث هنا، يبحث هناك، كل أسماء الشخصيات وضمائر الملكية وضمائر الغائبين تبخرت، ولم يبق من المشاهد سوى الأزمنة والأمكنة الخاوية!

يستيقظ الآباء من نومهم كما كل صباح ليوقظوا أبناءهم، ينكزونهم من تحت أغطيتهم، ليجدوا أنهم لا يستفزون سوى بضع وسائد مخبأة تحت الأغطية بعد أن يسحبوا الأغطية فجأة، كما يقلب أحدهم ورقة كتاب ليجدوا لا شيء، لقد تبخروا!

يتناهى إلى مسامع الصدى، صوت صرير الأراجيح وسلاسلها الصدئة. تَذَر نسمة هواء، حبات الرمال في أشكال أعاصير مصغرة. وتتوقف رويدا رويدا، تلك المراجيح، كأغنية في نهايتها أو كبندول يلفظ اهتزازاته الأخيرة. ولا أحد موجود هنا، ليلحظ آخر آثار أقدام الأطفال في الحديقة ولا الدفء الأخير الذي يتسلل من أحد تلك الكراسي الصغيرة!

من مسقط عمودي يبدو الشاطئ على طول مداه كخطٍ أسود في صور الحِداد، لا موج للبحر ليمده ويجزره، بعد أن لفظ كل ما في جوفه، واستحال بعدها لمستنقع راكد بليدٍ، مُنكر هديره إلا من قوقعة احتفظت بصوته، يضعها على بعد أميال منه، طفل على أذنيه ليحيي ذكرى البحر!

يتردد في صالة الأوبرا آخر حرف موسيقي، يظل دائرا بين الزوايا، يصطدم صداه في ركن ليرتد إلى آخر، بحثا عن حرف آخر يكمل إيقاعه، وفوق تلك المفاتيح المتناوبة في أضدادها، يقارب عنكبوت على الانتهاء من بناء بيتٍ من الألحان والنسيج!

تلك الدائرة بنت الصدفة والأبد، لم تنفك تلد نفسها وتشيخ في كل لحظة، تظل تحتوي نفسها داخل نفسها، كحلقات جذع شجرة قُصت بمقطع عرضي، ما زالت تبحث عن حدود البحيرة وعن لعنة الحجر!



* عن الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى