حاميد اليوسفي - الطاكسي يجري..

يعتقد عبد الله بأنه مواطن صالح، قَيَّدَ حياته داخل مثلث البيت والدكان والمسجد. لا يدخن ولا يشرب ولا يزني ولا يرافق أشرارا. قال له والداه الآن كبرت، ولا بد أن تُكمّل دينك. سألته أمه هل سبق له أن وضع عينه على فتاة أحلامه، أم يتركها تختار له واحدة من بنات الحي ؟ وإذا كان قد ارتبط بإحدى الفتيات، عليه أن يخبرهما من هي؟ ليسألا عن أصلها وفصلها.
والدته من الجيل القديم، لا تثق في المظاهر. قبل أن تُخطَب لوالده أخذتها جدته إلى الحمام، وفحصت جسمها عضوا عضوا من فوق إلى تحت، كما يفعل التاجر المقبل على اقتناء سلعة غالية الثمن، ويخشى أن يكون بها عيب، ولا يُقبل على شرائها أحد. ولا بد أن تجلس مع العروس، وتتبادل معها الكلام حتى تتأكد ما إذا كانت رزينة وراجحة العقل، أم تطير من المقلاة. وعليها أن تختبر مهارتها في الطبخ. أمه تعتقد أنه بهذه الطريقة يمكن أن تضمن نجاح الزواج بنسبة تفوق المعدل، والباقي على الله والزوج.
المهم عثرت له الوالدة على فتاة، ووقف الحظ ورضا الوالدين والأولياء الصالحين بجانبه، فتزوج وأنجب أربعة أبناء، واعتقد أنه رباهم أحسن تربية.
كبر الأبناء، وبدأت المشاكل تكبر. البنتان حصلتا على شهادتين جامعيتين. رجاء عثرت على عمل بأجر يكفي لسد الحد الأدنى من حاجياتها ، وبعد عام تزوجت. هناء لم يحالفها الحظ، لم تعمل، ولم تتزوج. بدأت تكبر وقطار العمر يجري بسرعة. أما الولدان فقد تمكنا من الحصول أيضا على شهادات من الجامعة، لكنهما ظلا عاطلين عن العمل.
أحمد توسط له أحد أصدقائه في عمل مؤقت حتى يفتح الله عليه باب الرزق، فاشتغل كاتبا يجيب على الهاتف، ويضبط المواعيد لفنانة تحترف الرقص الشعبي، مقابل أجر يسد مصروف المقهى والسجائر والتنقل، وتناول بعض الأكلات الرخيصة خارج البيت.
أصغرهم عماد منذ أن أطلق لحيته، وهو يطوف على المساجد. كلما تذمر من خطبة أو طريقة إمامة الصلاة، بدّل المسجد بآخر حتى طاف على أغلب مساجد المدينة. ولأنه لم يجد ضالّته، فقد بدأ يخرج للصلاة في المساجد المحيطة بالهامش. أصبح كل حلمه أن (يحرك)* إلى الخارج، وينتقل للانفجار في أي بلد إسلامي مثل سوريا والعراق وليبيا ومالي، ويرحل بسرعة إلى العالم الآخر. يرى دائما نفسه يتكئ على أريكة، ويستمتع بما لم تره عين، أو تسمع به أذن. يعيش مع عشر حوريات، ويخدمه خمسة غلمان، يأكل ويشرب ويغني ويرقص في جنة تجري من تحتها الأنهار.
لم يعد يقتسم أي شيء مع أسرته غير الطعام الذي يتناوله في أغلب الأحيان بمفرده. يستيقظ مع الفجر، ويختفي يومان أو ثلاثة، ثم يعود إلى البيت. كلما اصطدم بأخته هناء خارج غرفتها إلا وأنّبها، وتشاجر معها، بعد أن يُلقى عليها محاضرة في اللباس والأخلاق عند زوجات سيدنا محمد (ص) أيام الهجرة إلى المدينة.
ترتعب المسكينة، وتقول مع نفسها:
ـ الحمد لله أن هذا الأحمق لا يعلم بأني أذهب إلى المقهى، وأدخن الشيشة، وأرقص مع صديقي جمال. لو علم بالأمر لذبحني من الوريد إلى الوريد. أنا أعيش مع قنبلة يمكن أن تنفجر في وجهي في أية لحظة! الله يستر.
بعد شهر وقع ما لم يكن في الحسبان. أسرّ إليه صديق ملتح مثله من أبناء الجيران بكل ما تفعله أخته.
عاد إلى البيت غاضبا، أخرج خنجرا من تحت الوسادة التي يضع عليها رأسه، وخرج من الغرفة يصرخ، ويسأل عن أخته! يلعن ويشتم كل النساء، ومن تحت الحزام، حتى شعرت أمه بالخجل، وخفضت بصرها إلى الأرض، وتوسلت إليه أن يجلس ويهدأ، ويضع الخنجر من يده، ويلعن الشيطان. ولأنها ذُهلت من شدة الصدمة، وأحسّت بتثاقل في لسانها، ذهبت إلى المطبخ لتأتي بكأس ماء. وعندما رجعت إلى الصالون لم تجده، وكأنه فصّ ملح.
لبست بسرعة جلبابها، ووضعت نعلين في رجليها كيفما اتفق، وخرجت تصرخ وتجري خلفه مثل الحمقاء.
أخذت هناء نفسا طويلا من النرجيلة، وطلب جمال من صاحب المقهى تشغيل أغنية (طاكسي حليمة). قاما يرقصان مثل عصفورين يرفرفان فوق شجرة
صفصاف وارفة الظلال، وصوت المغني يصدح:
ـ (الطاكسي يجري
في الكونطور ميا شادين
شكون الشيفور ؟ رشيد ولّى وحدة في البنات...)*



المعجم:
ـ (يحرك) : لفظ من العامية يُنطق بثلاث نقط فوق الكاف يعني يهاجر بطريقة غير شرعية.
ـ الكونطور : العداد
ـ ميا شادين : نسوق بسرعة مائة كلم .
ـ شكون الشيفور؟ : من السائق ؟
ـ ولّى : تقوم مقام أم في الفصحى.
*المقطع مقتبس من أغنية شعبية تحمل عنوان طاكسي حليمة، وقد لقيت رواجا كبيرا في الفترة الأخيرة.


مراكش 12 غشت 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى