د. محمد الهادي الطاهري - تخيل نفسك وحيدا

تخيل نفسك وحيدا في مدينة كبيرة عشت فيها ردحا من الزمن. ستظلّ تسير في شوارعها الرئيسية وتتفحّص وجوه المارّة لعلّك تعثر فيهم على صديق قديم. ستجوب الشوارع والأنهج التي كنت تجوبها منذ عقدين أو يزيد، وستزور الأماكن التي كنت ترتادها، ستتوقّف طويلا عند واجهات المتاجر دون أن تشتري شيئا، ستنظر من حين إلى آخر في ساعة هاتفك الجوّال توهم نفسك بموعد لا وجود له. ستدور وتدور حتى يأخذ الإعياء منك مأخذه ثمّ ستقصد أشهى المقاهي التي أمضيت فيها مع الأصدقاء ساعات طويلة. ستدخل المقهى ويصيبك شيء من الدوار. الزمان لم يعد هو الزمان، والمكان أيضا لم يعد هو. أشياء كثيرة ستبدو لك غير مألوفة. الطاولات القديمة المستطيلة صارت موائد مستديرة لا تتّسع لأكثر من شخصين. والنادل القديم الحريص على نظافة الطاولات لم يعد موجودا. رغم ذلك ستجلس في ركن من أركان ذلك المقهى وستطلب قهوتك القديمة وستدفع ثمنا آخر غير الذي كنت تدفعه، وستلقى معاملة أخرى غير التي كانوا يعاملونك بها. ستجد للقهوة مذاقا جديدا ولكنّك ستظل جالسا هناك ساعة أو بضع ساعة، وستظل عيناك على كلّ وافد على المقهى لعلّه يكون قادما من الماضي. لابدّ أن شيئا من الملل سيصيبك، ولكي تدفعه عنك ستتناول هاتفك الجوّال وستبحث في قائمة الأسماء المحفوظة فيه فلا تجد فيها اسما يطابق قائمة الأصدقاء القدامى المحفورة في ذاكرتك. أنت الآن أغرب من يكون في هذه المدينة وعليك أن تغادر هذا المقهى وأن تظل ماشيا في شوارع المدينة وأزقّتها لعلّ صفحة من صفحات الماضي تنفتح أمامك فجأة. سينقضي النهار وتأزف ساعة العودة من حيث أتيت، وعليك أن تحشر نفسك في سيارة الأجرة التي أقلّتك إلى هذه المدينة لتعود بك من حيث أتيت. ستقول في نفسك وأنت في الطريق: "ما الذي جاء بي إلى هذه المدينة؟" وسيأتيك الجواب بينك وبين نفسك: "حنين إلى زمن لا يعود". ما أبشع أن تكون في مدينة عشت فيها ردحا من الزمن يستحيل أن يعود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى