مرهق أنا.
مشتت.. ومتعب.
و السبب هو ذلك السجين على يساري.
ذلك السجين الغريب، و الذي يزعم أننا السجناء، و أنه وحده الحر الطليق!
سأبدأ الحكاية من بدايتها، كي تستطيعوا فهم معاناتي إذن. أنا أعيش في كهف صغير، رطب ومظلم.
كهف صغير؟!
كلا! بل أنا أعيش في أحلى البقاع، و ألطف الأجواء و أحسنها!
هل أبالغ؟ ربما..حسنا سأحاول أن أتجرد من مشاعري الفياضة تجاه هذا المكان الذي أعيش فيه منذ ولدت؛ فأصفه وصف الرائي من بعيد، لا وصف المنتمي المحب.
في الحقيقة هو كهف، تحوطه الظلمة في جميع أجزائه، إلا من تلك الكوة التي ينبثق منها بعض من النور في بعض اليوم. في الحقيقة نحن لا نرى الكوة، و إنما نتجه بوجوهنا وأبصارنا نحو حائط رطب يقابل فتحة الكهف هذه..هذا الذي أدعوه “حائط” هو كل حياتنا، و جميع دنيانا. إن أردت أن أترك وصف العين الآن فأتبع وصف الفؤاد لقلت إن ذلك الذي دعوته كهفا، إنما هو العالم بأسره. و ما ظلمته لدي إلا كظلمة الرحم الدفئ يحوطنا وقت أن كنا جنينا، وما رطبته إلا رطبة الدم يغذي فيه لحمه و عظمه.
هل أبالغ؟ أنت إذن لم تعش في ذلك الكهف و لذلك لا ألومك.
لا تسلني لماذا لا نتجه بوجوهنا إلا تجاه ذلك الحائط.
هذا السؤال محرم و مجرّم معا.
بل و لضمان عدم الاتفات بعيدا عن الحائط، و الالتفات إلى الوراء مثلا تجاه الكوة التي ينبثق منها ذلك النور، فقد وُضعت حول رقابنا سلاسل، و حول خواصرنا، و معاصمنا، و سيقاننا كذلك. نحن مكبلون. نحن لا نستطيع النظر إلا إلى الحائط. الحائط الرطب. الحائط الرطب الجميل.
أراك متشوقا لتعرف ما سر ذلك الحائط إذن؟ سأقول لك سر حبنا له. على هذا الحائط يا سيدي نرى ما يبهر فينا الحواس و يلهب الأفكار. أذكر وقت أن كنت صغيرا كيف وجدت ذلك الشئ الذي يزقزق. وجدته على الحائط بلونه الرمادي، و هو يرفرف كمن يصفق للحياة. كان صوته كالغناء. كما أذكر أول مرة أرى ذلك الشئ الذي و كأنّه يسير على أربع، و كأنّ لديه رأس عليها قرنان. كان جميلا و رشيقا في آن. كما أذكر ذلك الشئ الرمادي و الذي يسير على قدمين مثلنا! كان يشبهنا كثيرا، غير أنه رمادي..كله رمادي..كان يظهر لحظات على حائطنا الجميل، ثم سرعان ما يختفي..كانت لحظات من المتعة، والسعادة و نحن ناظرون إلي حائطنا و تلك الأشياء تتحرك عليه، محدثة تلك الأصوات العجيبة، كالشدو و الغناء تارة، و كالحركة على الأرض أخرى. لست أعرف تحديدا، غير أن لحظاتنا مع ذلك الحائط هي ما علمتنا معنى الحياة.
و ظللت هكذا سعيدا، و راضيا بما ألفت في حياتي، إلى أن ظهر ذلك السجين على يساري!
لست أعرف له اسما، حتى هيئته و شكله لست متأكدا تماما منهما، غير أني أدعوه في نفسي بالمتمرد، أو الغريب، أو الثائر، غير أن “المتثبت” صديقي على اليمين يدعو ذلك السجين شيطانا!
يقول الشيطان ذاك -حسب وصف صديقي- إنه قد تجرأ و أفلت من سلاسله، بل و تجرأ و نظر إلى الكوة التي أتى منها النور، بل و قام على ساقيه، فخرج من الكهف، و رأى عالما من ورائه، ثم عاد إلينا ليحكي ما وجده خلف تلك الكوة.
يا للشيطان!!
يزعم ذلك المتمرد أن ثمة أرض أخرى وراء تلك الكوة. أرض بلا سلاسل، و لا حوائط!
يا إلهي!
و هل يعقل أن ثمة عالم بلا حائط!
يقول ذلك الشيطان أن السلاسل تلك إنما هي الأغلال التي تكبح فينا الحياة، فتحبطنا عن الخروج من كهفنا، لمعرفة ما يدور هناك. في الخارج!
أغلال..إحباط..الخروج من الكهف.
يبدو لي أن المتمرد ذاك شيطان بالفعل. إنه لا يقوم بانتقاء ألفاظه. يبدو لي أنّه حتى لا يحب حائطنا. إنه حتما متمرد شيطان، و غير شريف.
ورغم ما أدركته عن ذلك المتمرد، إلا أنه يظل بداخلي شيئا يحب أن يسمعه..جزء ما في نفسي يريد أن يحاوره. بل و يصدقه.
يقول ذلك المتمرد أن ما نراه على حائطنا ليس حقيقة! تصور!
يقول إنه مجرد ظلال، و أن الحقيقة خلف تلك الكوة.
يقول أن الرمادي الذي نراه ليس لونا حقيقيا، و أن ما نراه يزقزق و يصفق إنما هو مخلوق لطيف، له جناحان، و له ألوان. ألوان؟! يقول الشيطان أن ثمة ألوان عدة..أحمر و أصفر و أخضر..يا للإغواء!
يقول إن ذلك الذي يمشي على أربع و له قرنان إنما هو مخلوق لطيف كذلك، لطيف و رشيق، يجول في المراعي، مبتهجا سعيدا بحريته. يقول إن ثمة شئ اسمه زهور..لها ألوان و رائحة..كما يزعم أن أولئك الذين نراهم على حائطنا يسيرون على قدمين هم في الحقيقة كيانات مثلنا، تعيش خلف تلك الكوة و تحت ذلك النور، غير أنهم يمرحون في الحياة دونما سلاسل أو قيود أو حوائط !
الحياة دون حائط؟!
تصور!
الحياة دونما سلاسل أو قيود؟
تخيل؟!
العجيب أن ذلك المتمرد قد عاد إلينا. إن كنت صادقا أيها المتمرد فلم عدت إلينا إذن؟ يزعم أنه قد عاد ليسرد إلينا الحقيقة، فينتشلنا من غيابة الكهف إلى نور الشمس.
يا للإغواء..بل يا للشيطان!
في رأسي صداع ثقيل، مرهق و متعب. أركن إلى صديقي المتثبت ليزيد في إيماني بالكهف. ينصحني صديقي المتثبت ألا أسمع لحديث المتمرد ذاك..يقول لي إن المتمرد مجنون.
لا حياة خارج تلك الكوة.
لا حياة بلا حوائط.
لا حياة بلا سلاسل أو قيود.
الأشياء كلها رمادي.
أستمع إليه فأشعر ببعض الراحة.
يزيد في إيماني بكهفي، و حبي لحائطي و قيودي.
نعم أحب ذلك الكهف الجميل. هو الذي ولدت فيه.
أعشق ذلك الحائط فهو كل حياتي.
أقبّل تلك السلاسل حول خاصرتي، و معصمي، و ساقاي.
و ألعن ذلك المتمرد ألف مرة!
د. خالد عجماوي
مشتت.. ومتعب.
و السبب هو ذلك السجين على يساري.
ذلك السجين الغريب، و الذي يزعم أننا السجناء، و أنه وحده الحر الطليق!
سأبدأ الحكاية من بدايتها، كي تستطيعوا فهم معاناتي إذن. أنا أعيش في كهف صغير، رطب ومظلم.
كهف صغير؟!
كلا! بل أنا أعيش في أحلى البقاع، و ألطف الأجواء و أحسنها!
هل أبالغ؟ ربما..حسنا سأحاول أن أتجرد من مشاعري الفياضة تجاه هذا المكان الذي أعيش فيه منذ ولدت؛ فأصفه وصف الرائي من بعيد، لا وصف المنتمي المحب.
في الحقيقة هو كهف، تحوطه الظلمة في جميع أجزائه، إلا من تلك الكوة التي ينبثق منها بعض من النور في بعض اليوم. في الحقيقة نحن لا نرى الكوة، و إنما نتجه بوجوهنا وأبصارنا نحو حائط رطب يقابل فتحة الكهف هذه..هذا الذي أدعوه “حائط” هو كل حياتنا، و جميع دنيانا. إن أردت أن أترك وصف العين الآن فأتبع وصف الفؤاد لقلت إن ذلك الذي دعوته كهفا، إنما هو العالم بأسره. و ما ظلمته لدي إلا كظلمة الرحم الدفئ يحوطنا وقت أن كنا جنينا، وما رطبته إلا رطبة الدم يغذي فيه لحمه و عظمه.
هل أبالغ؟ أنت إذن لم تعش في ذلك الكهف و لذلك لا ألومك.
لا تسلني لماذا لا نتجه بوجوهنا إلا تجاه ذلك الحائط.
هذا السؤال محرم و مجرّم معا.
بل و لضمان عدم الاتفات بعيدا عن الحائط، و الالتفات إلى الوراء مثلا تجاه الكوة التي ينبثق منها ذلك النور، فقد وُضعت حول رقابنا سلاسل، و حول خواصرنا، و معاصمنا، و سيقاننا كذلك. نحن مكبلون. نحن لا نستطيع النظر إلا إلى الحائط. الحائط الرطب. الحائط الرطب الجميل.
أراك متشوقا لتعرف ما سر ذلك الحائط إذن؟ سأقول لك سر حبنا له. على هذا الحائط يا سيدي نرى ما يبهر فينا الحواس و يلهب الأفكار. أذكر وقت أن كنت صغيرا كيف وجدت ذلك الشئ الذي يزقزق. وجدته على الحائط بلونه الرمادي، و هو يرفرف كمن يصفق للحياة. كان صوته كالغناء. كما أذكر أول مرة أرى ذلك الشئ الذي و كأنّه يسير على أربع، و كأنّ لديه رأس عليها قرنان. كان جميلا و رشيقا في آن. كما أذكر ذلك الشئ الرمادي و الذي يسير على قدمين مثلنا! كان يشبهنا كثيرا، غير أنه رمادي..كله رمادي..كان يظهر لحظات على حائطنا الجميل، ثم سرعان ما يختفي..كانت لحظات من المتعة، والسعادة و نحن ناظرون إلي حائطنا و تلك الأشياء تتحرك عليه، محدثة تلك الأصوات العجيبة، كالشدو و الغناء تارة، و كالحركة على الأرض أخرى. لست أعرف تحديدا، غير أن لحظاتنا مع ذلك الحائط هي ما علمتنا معنى الحياة.
و ظللت هكذا سعيدا، و راضيا بما ألفت في حياتي، إلى أن ظهر ذلك السجين على يساري!
لست أعرف له اسما، حتى هيئته و شكله لست متأكدا تماما منهما، غير أني أدعوه في نفسي بالمتمرد، أو الغريب، أو الثائر، غير أن “المتثبت” صديقي على اليمين يدعو ذلك السجين شيطانا!
يقول الشيطان ذاك -حسب وصف صديقي- إنه قد تجرأ و أفلت من سلاسله، بل و تجرأ و نظر إلى الكوة التي أتى منها النور، بل و قام على ساقيه، فخرج من الكهف، و رأى عالما من ورائه، ثم عاد إلينا ليحكي ما وجده خلف تلك الكوة.
يا للشيطان!!
يزعم ذلك المتمرد أن ثمة أرض أخرى وراء تلك الكوة. أرض بلا سلاسل، و لا حوائط!
يا إلهي!
و هل يعقل أن ثمة عالم بلا حائط!
يقول ذلك الشيطان أن السلاسل تلك إنما هي الأغلال التي تكبح فينا الحياة، فتحبطنا عن الخروج من كهفنا، لمعرفة ما يدور هناك. في الخارج!
أغلال..إحباط..الخروج من الكهف.
يبدو لي أن المتمرد ذاك شيطان بالفعل. إنه لا يقوم بانتقاء ألفاظه. يبدو لي أنّه حتى لا يحب حائطنا. إنه حتما متمرد شيطان، و غير شريف.
ورغم ما أدركته عن ذلك المتمرد، إلا أنه يظل بداخلي شيئا يحب أن يسمعه..جزء ما في نفسي يريد أن يحاوره. بل و يصدقه.
يقول ذلك المتمرد أن ما نراه على حائطنا ليس حقيقة! تصور!
يقول إنه مجرد ظلال، و أن الحقيقة خلف تلك الكوة.
يقول أن الرمادي الذي نراه ليس لونا حقيقيا، و أن ما نراه يزقزق و يصفق إنما هو مخلوق لطيف، له جناحان، و له ألوان. ألوان؟! يقول الشيطان أن ثمة ألوان عدة..أحمر و أصفر و أخضر..يا للإغواء!
يقول إن ذلك الذي يمشي على أربع و له قرنان إنما هو مخلوق لطيف كذلك، لطيف و رشيق، يجول في المراعي، مبتهجا سعيدا بحريته. يقول إن ثمة شئ اسمه زهور..لها ألوان و رائحة..كما يزعم أن أولئك الذين نراهم على حائطنا يسيرون على قدمين هم في الحقيقة كيانات مثلنا، تعيش خلف تلك الكوة و تحت ذلك النور، غير أنهم يمرحون في الحياة دونما سلاسل أو قيود أو حوائط !
الحياة دون حائط؟!
تصور!
الحياة دونما سلاسل أو قيود؟
تخيل؟!
العجيب أن ذلك المتمرد قد عاد إلينا. إن كنت صادقا أيها المتمرد فلم عدت إلينا إذن؟ يزعم أنه قد عاد ليسرد إلينا الحقيقة، فينتشلنا من غيابة الكهف إلى نور الشمس.
يا للإغواء..بل يا للشيطان!
في رأسي صداع ثقيل، مرهق و متعب. أركن إلى صديقي المتثبت ليزيد في إيماني بالكهف. ينصحني صديقي المتثبت ألا أسمع لحديث المتمرد ذاك..يقول لي إن المتمرد مجنون.
لا حياة خارج تلك الكوة.
لا حياة بلا حوائط.
لا حياة بلا سلاسل أو قيود.
الأشياء كلها رمادي.
أستمع إليه فأشعر ببعض الراحة.
يزيد في إيماني بكهفي، و حبي لحائطي و قيودي.
نعم أحب ذلك الكهف الجميل. هو الذي ولدت فيه.
أعشق ذلك الحائط فهو كل حياتي.
أقبّل تلك السلاسل حول خاصرتي، و معصمي، و ساقاي.
و ألعن ذلك المتمرد ألف مرة!
د. خالد عجماوي