سعيد رفيع - الخالة فضة

الجميع يطلقون عليها الخالة فضة، حتى شيوخ القرية وعجائزها، وهي تجوب الشوارع الترابية، حاملة صرتها الثقيلة فوق رأسها ، تبيع المناديل النسائية وزجاجات العطر، وقد انحنى ظهرها قليلا الى الأمام، وتسللت من تحت الصرة احدی خصلات شعرها المخضب بالحناء.
ومع أن الرجال ينفرون عادة من كل مايثير غريزة الشراء لدى نسائهم، فان رجال القرية لم يشعروا قط بالنفور من الخالة فضة، فهي تقنع بالقليل، ولاتمانع من مقايضة المنديل او زجاجة العطر بدجاجة او قالب من الجبن.
والخالة فضة ليست مجرد بائعة متجولة، فهي قابلة ماهرة، ولد على يديها كل أطفال وشباب القرية، وطبيبة اطفال حاذقة، تعالج الكسور والكدمات بجبيرة سحرية من الدقيق وزلال البيض، وهي ايضا الخاطبة التي اثمرت مساعيها عن معظم الزيجات السعيدة في القرية، فهي تعرف كل الفتيات، الجميلات منهن والدميمات، وكل الشبان، العاقل منهم والطائش.
ومما رفع من شأنها، قدرتها على طرد النكد من البيوت، فهي ترتاد احواش المنازل، وتنحنى إلى الأرض، لترسم بسبابتها تمساحا على الرمال، ومن فوقه كومة من الحطب تشعل فيها النيران. وكما تزعم الخالة فضة، ويصدقها الناس، فان خروج النكد من البيت يكون مضمونا إذا أضرمت النيران في التمساح المزيف، صباحا بعد بزوغ الشمس، أو مساء قبل حلول الظلام.
ولأن الزمن لايتوقف أمام إنسان واحد مهما كان موهوبا، فقد جاء اليوم الذي كسدت فيه تجارتها من العطر والمناديل، وفقدت جبائر الدقيق والبيض سحرها، بعد أن أصاب قريتنا ما أصاب غيرها من تطور محتوم، فرصفت شوارعها الترابية، وغزتها أعمدة الكهرباء، وقامت في اركانها دكاكين متخمة بالبضائع، وعلى مشارفها مستشفي كبير يعج بالأطباء والممرضات.
ورغم انصراف الناس بأطفالهم الى المستشفى، وتكالب النساء على الدكاكين التي تخطف الأبصار، فإن الخالة فضة ماتزال تجوب شوارع القرية، وقد تخففت من عناء الصرة، وبدت قامتها أكثر اعتدالا، فتفتح لها الأبواب، لتخطب البنات وتحرق التماسيح.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى