حميد محمد الهاشم - الاسوار والرماد..

هذا طائر فوق الوادي، ثمة شيء مكتوب عنه.
لا وقتَ يناسبُ أَنْ أقرأ ،لكنني سوف أقرأ، وفي جِواري ارتفعتْ موسيقى شقتْ عنان السماء.
لاوقتَ مناسب لأَنْ اكتب، لكنني كتبتُ :"في عام1980 طار من فوق الجبل."
لترتيبِ إيهما الأولى،أعدتُ ترتيبَ طرفي المعادلة:الموتُ أولاً ثم تاريخ الموت.
"طار من فوق الجبل في عام 1980،" هكذا.
طريقة الخلاص أولا، كما ظنها هو ، ثم تاريخ الخلاص ثانيا ، لا تفاصيلَ أخرى ، البقيةُ لم أعرف قراءتها ، وأنا حياديّ إلى الحد الذي لا أستطيع أن أدّعي أكثر مما كان مكتوبا ،لكنني قرأتُ أقل مما كُتِب، بلون أزرقٍ على لوحةِ خشبٍ محشورةٍ داخل المرصد.
بينما كانت البندقية معلقة على كتفي الذي أرخى لها العنان، وخوذةٌ تعتمر رأسي حتى أذُنيّ ،كانت يدي تمسح غبار السنين على تلك الحروف، وكأنني منقّبّ في تاريخ الأثار الميتة ، أموات طيبون قبل أن يقرروا الحرية كانوا قد قرورا كتابةَ شيءٍ عما قبلها، فليس من المعقول أن يطير أحدهم من فوق قمة ذلك الجبل الشاهق إلى قاع ذلك الوادي دون أن يترك لنا ذكرى مجنونة !! دون أن يترك خربشة تتحول الى تاريخ.!!
في اليوم الثاني لأرتقائنا ذلك الجبل؛ رحت أنقّب بين ذكريات أولئك الجنود، أثارني جدا طائرهم، كما يثيرني هاجسي الذي يرافقني دائما.
الآن نحن في القمة،لكن ثمة شيء فينا يهبط إلى الأسفل،لا...قمتنا هي أسفلنا، حالنا حال ذلك البغل الذي توقفتْ موسيقاه الصاخبة قبل لحظات،لا أدري إن كان يدري أي قمة أو أسفل يعيش،أو أيهما يفضّل، أو إنْ كان يميّز بينهما أصلا.
هذه خربشتي أنا في مخيلتي أنا،و التي انقطعت سلسلة خيالاتها المشفرة حين سمعتُ الضابط يصك أذني.
_ أنت يا قشمر*،ماذا تقرأ،دع عنك هذا..الربيّة* مليئة بالذكريات.
ألتفتُ نحوه فقط،لم أقل شيئا ،وهاجسي بين الخربشتين.
_ خذ بندقيتك وقف في المرصد الثالث.."وبطّلْ من هاي السوالف* التعبانة،تنتهي الحرب وأقرأ وأكتبْ شعر على كيفك".
هذه تكملة أوامر سيدي القائد.
ستنتهي الحرب ثم أبدأ بكتابة الشعر!
ما أن استلمتُ أوامر الضابط في متى أحارب ومتى أكتب الشعر ،حتى صدحت موسيقى البغل مرة أخرى.
أعدت ترتيب طرفي هذه المعادلة أيضا.
" ما أن كفّ الضابط عن سياط أوامره حتى تعالى استنكار البغل".
لكني مسحت هذه العبارة، لم تعجبني، لم أكتبها في مخيلتي.
أصبحت الجملة هكذا.
" بدأ البغل نهيقه معترضاً ،حينما وصل القائد عند نهاية أوامره."
لكي أكون منصفا وفي تمام أصغائي، أدرتُ وجهي نحو البغل،وكنتُ منصفاً مرة أخرى؛ وأنا ألتفت صوب البغل الثاني _وجه القائد العبوس_
ممتعٌ أن تستمع لبغلين ،واحد إثر آخر، أحدهما عبد والآخرطاغية.
كي أكون أكثر انصافا وكجندي باسل و صعلوك معا؛ حملت بندقيتي التي كنت أحملها أصلاً، وتوجهت إلى المرصد الثالث، تاركاً ذكرى الجندي الطائر واعتراض البغل وعبوس القائد،
طيلة وقوفي في المرصد الثالث،والذي كان بلا ذكريات، إلاّ من أسم إمرأة وقلب حُب ،كنتُ افكر بمذكرات خشبة 1980.
استمر البغل في اعتراضه حتى بعد أن دخل قائدنا الهمام إلى مهجعه.
يحلو لي أن أفسر الأشياء كما يحلو لي .
حسنٌ.. غداً سيكون ظهر الحمار المسكين وقد أعتلاه أربعة من جليكانات الماء، نهبط به إلى الوادي_ حيث عين الماء_ محملاً بحمولة الهواء فقط، ثم نصعد به جبلنا الأشّم بحمولة ضغط الماء، نصف ساعة للهبوط ونصف للصعود،خادمنا وصديقنا هذا يقاوم رغبتنا في الهواء هبوطا، ويقاوم رغبتنا في الماء صعودا،لكنه يعلن استسلاما كاملا لنا فيما بعد، للعبيد أحياناأجسام قوية تتحمل سياط الرغبات،لكن للعبيد أيضا لحظة استسلام تعلن انتصارنا نحن الطغاة الكبار و "الصغار"،الذين ربما يقفز أحدنا بكامل جنونه إلى وادي الخلاص الذي تحتنا ،من أجل ما يعتقد أنه خلاصه.
بعد شروق الشمس بساعتين،وقبل مغيبها بساعتين، نطوّق قوائمه الأربعة بدائرة من الحبال كي لا يتذكر إنَّ عليه أن يقوم بالزكيط والرفس، فمن للقائد من مأكل ومشرب إذا كان الرفس والزكيط يقرّب الحرية له، مؤسف جد أن تبدأ عبوديته ببزوغ شمسنا ،نحن الذين نسكن الذروة الآن وربما لا نختلف عنه في شيء، مسكين، شمسنا تذله، مسكين ،لا تعني شمسنا له غير هبوطه بالهواء وصعوده بالماء وأرازق أمعائنا ، الشمس لا تعني شيئا له غير رباط على أرجلهِ لكي يتسنى لنا وضع الجبل فوقه ودون رفسٍ وزكيط،و بالطبع لم يكتب أي خربشة، ولا أحد يقرأ أو يترجم نهيقه.
في اليوم الثالث حاولت أن أقرأ ماتبقى من الجنون المنقوش على لوحة خشب المرصد الأول، بين سطور الموت الأزرق المغبر وأصوات تعالت من جنودنا، يخرج الضابط مسرعاً من مهجعه، ثمة ريب ما من الجهة المقابلة لحقل الألغام، أثمةهجوم مباغت؟ لكن لماذا حيواننا ينهق، لماذا عزف موسيقاها الصاخبة، أهو أستقبال ما؟ هل شعر بالمباغتة؟ تركتُ تنقيبي في الغبار وأسرعت لأرى غبارا آخر.
لا أحد،... صاحب العزف هو مَن يباغتنا،هو مَن يجتاز حقل الالغام، هل كانت رغبة في التخلص منا؟!هل كان حقل الألغام حقلاً أخضرا؟!
هل حقا كان شعوره هكذا؟الحرية أحيانا جميلة إلى الحد الذي لا يُرْى ما بعدها،
بينماكانت خيوط الشمس عند المغيب تهطل بلون أحمر مصفر تلّونُ أشلاءه،كنت قد وجدت حروفا أخرى في المرصد الرابع ،ليس ثمة من أسم..فقط: في عام 1990 يحدث أنْ.....!!!
هذه المرة لا استطيع،أو لارغبة عندي، لترتيب طرفي المعادلة.
إنتهت
* القصة فائزة في المركز الأول في رابطة السرد في العراق والعالم العربي أغسطس 2022
* قشمر/ كلمة أهانة للجندي البسيط دُرج على استخدامها سابقا.
السوالف/ الحكايا..
* جليكان الماء/ برميل خاص لنقل الماء

حميد محمد الهاشم/العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى