خالد جهاد - النوم في أحضان العذاب

يقتلنا قبل أن يقتل غيرنا حكمنا على الآخرين، أولئك الذين لم نعرفهم لكننا نسجنا في خيالنا وخلقنا في عقولنا حكاياتٍ عنهم.. لمجرد انطباعٍ عابر كمن يكون رأياً حول روايةٍ طويلة متشابكة الأحداث من خلال قراءة الصفحات الأخيرة منها، متناسياً تاريخ الشخصيات والأحداث التي عاشتها والظروف التي واجهتها ورسمت مسار حياتها وغيرت فيها الكثير، فلم يعد أغلبنا يفكر في غيره أو يشعر به أو يفهم اختلافه عنه، فلا يسافر في وجعه وما اختبره وحده وكان كفيلا ً بتدميره من الداخل وطمس إنسانيته وتحوله من النقيض إلى النقيض بحيث لا يعرف نفسه ولا يعرفه حتى من عايشه..

فالحياة كرهينةٍ للماضي والذكريات المؤلمة والأشخاص الذين قد نظل رغماً عنا نحبهم ونشتاق إليهم ونتمناهم رغم طعناتهم التي شوهتنا وجعلتنا نتمنى الرحيل هي موتٌ مصغر، لا نملك معه سوى أن نختار العيش بلا قلب كي لا يكسرنا بشرٌ من جديد، كجثةٍ تنزف من الداخل دون أن يراها أحد، تبتسم هنا وتمشي هناك بينما هي لا تشعر بذاتها، بوجودها، بجسدها، حيث أصبحت أكثر خفةً وخواءاً فلا يراها الناس ولا يشعرون بها وتمر بينهم وكأنها لم تمر، وتختار مالم تعتد على اختياره أو القبول به، حائرةً لا تعرف إن كانت لا تريد تجاوز صدمتها ونسيانها أو أنها غير قادرةٍ على ذلك، مثل زورقٍ صغير تاه في عرض البحر ولا يعرف كيف يعود إلى الشاطىء..

ففقدان عزيزٍ أو رحيل حبيبٍ أو خيانة صديقٍ أو طعنة قريبٍ كفيلة بتغيير كل شيء في أعيننا ومن حولنا وجعله متناهي الصغر بلا معنى، لتقتصر دنيانا على مساحةٍ ضيقة نتحرك فيها وكأننا أحجار على رقعة الشطرنج، فنبكي بصمت.. كأطفالٍ تائهين مثل أي تمثالٍ ينتصب في الميادين العامة، عنواناً لكثيرٍ من الناس لكنه في الحقيقة لا عنوان له ولا بيت، فقد تاريخه عندما تحطم فؤاده واحترقت روحه في أتون الصدمة، لا ينتظر سوى الليل باحثاً عن السكينة في أحضانه والكلمات في صمته، عن بقايا من مشاعر متناثرة، عن ابتساماتٍ مبتورة وعناقٍ جاف كأوراق الشجر المتساقط تحت أقدام الخريف، عن لحظة حبٍ سقطت من أحدهم وهو يعبر الطريق مسرعاً، عن زمنٍ ولى كان يخاف فيه الوحدة والظلام بدلاً من خشيته اليوم للبشر والنور، وعن دربٍ تتسكع فيه الأمنيات والأحلام بين ضحكات الأطفال قبل الغروب، قبل أن يجهضها الأرق الغافي على كتف الخوف من كذبةٍ أخرى تعيدنا إلى مربع الألم الأول، فنعيش دون أن نعيش أو ننسى بين إشارات المرور وعلامات الإستفهام والأضواء الخافتة، وصدى خطواتنا التي لا يسمعها سوى الأشباح وعازفوا الليل والغارقون في وحدتهم بعد أن غرقوا في الحب ثم غرقوا في الصدمة ليعيشوا في رحاب الحقيقة التي لم يتمنوا أن يعرفوها ذات يوم، حيث تصبح الخيبات أمراً عادياً يتحول إلى لعنةٍ عليهم كلعنة حكم الناس، يحملونها مع كل فجر ٍ أملاً في مغيبٍ لا يأتي، وكأن(سيزيف) ليس بأسطورة، وكأن المنفى هو وطن كل محبٍ راحته في عناق الغياب، ينام في فراشٍ من الشوك ملتحفاً بالخيانة.. ويغمض عينيه في أحضان العذاب..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى