سعيد رفيع - البت معزوزة

.. ودلفت إلى دكان الخضراوات ، فتبعتها ، ودنوت منها ، ثم همست :
- صباح الخير يا معزوزة. حرکت شفتيها دون أن تنبس ، ثم أشاحت بوجهها ، فعدت أهمس :
- صباح الخير يا معزوزة. قلتها هذه المرة بعد أن أمسكت براحتها ، وضغطت عليها برفق ، ولكنها انتزعتها ، ودارت بعينيها في أرجاء الدكان ، الذي كان يعج بالنسوة ، ثم صاحت وهي تعقد وجهها :
- صباح الزفت .. عاوز ايه ؟
تنبه البائع الى ما جرى ، ورمقني بنظرة مرتابة ، فلم ألق اليه بالا ، وقلت لمعزوزة ، وأنا ارمق البائع من طرف عيني :
- بحبك يا معزوزة .
- ......................
- قلت بحبك .. سمعت یا معزوزة ؟.
- حبك برص .
- ربنا يسامحك .. برضه بحبك.
مطت شفتيها وقالت بنبرة متحدية :
- اتفضل امشي قبل ما ألم عليك الناس .
-اسمعيني .. أنا فعلا عاوز اتجوزك .
- تتجوزني ؟
- أيوه أتجوزك .
- نجوم السما أقرب لك .
ولتني ظهرها ، وسارت الى الركن المقابل ، وأنا في أثرها ، ثم وقفت أرقبها ، وهی تعبث بأصابعها في حبات الطماطم ، فقلت محاولا وصل الحديث :
- الطماطم دي مش طازة .. خدي من دي أحسن . هزت منكبيها ، ثم قالت باستهانة :
- ماحدش طلب رأيك .
البائع الضخم ذو الملامح الريفية والشارب الكث ، لا يزال يرهبني بنظرات حادة کالنصال ، ولكني واصلت تجاهله ، حتى بعد أن صارت نظراته أكثر حدة .
- قلتي ايه ؟
- قلت العب غيرها .
- أنا عارفك زعلانة .. لكن ورحمة أبويا مفيش أي حاجة بيني وبين سميحة.
- الكلام ده تضحك بيه على سميحة .. انت لسه فاكرني هبلة ؟.
- صدقيني .. أنا بحبك وعاوز اتجوزك .
- تتجوزني ؟
- أيوه أتجوزك .
- في المشمش .. يا مشمش .
قالتها وانتقلت الى الركن الآخر من الدكان ، بينما هرع الينا البائع ، وقال بصوت كالخوار ينطوي على غيظ مکتوم :
- أي خدمة يا أستاذ ؟.
شعرت بالارتباك لحظة ، ثم تماسكت ، وأجبت وأنا أتطلع الى سلال الخضراوات :
- عندك فاصوليا ؟.
أجاب البائع بنبرة منتصرة :
- مفيش فاصوليا .
فقلت ، وأنا أعاود التطلع إلى السلال :
- طيب .. عندك سبانخ ؟.
وهنا تفجر الشك على وجهه ، وقال بنبرة ساخرة:
- سبانخ في الصيف يا أستاذ !؟
قالها ثم انصرف إلى بقية الزبائن ، وهو يغمغم بكلمات لم أتبينها ، فتقدمت نحو معزوزة ، التي تشاغلت هذه المرة بانتقاء حبات من البطاطس ، وهمست لها باصرار :
- النهاردة حقابل والدك عشان أخطبك .
شملها الصمت لحظة ، فتمنيت أن يكون صمتها علامة على الرضا والصفح ، ثم أخذت أتمعن فيها، وكأني أراها لأول مرة : قد مشدود يميل قليلا للامتلاء .. خصلات الشعر الرقيقة تنسدل فوق الجبهة العريضة .. عينان فرعونیتان تتسعان للعالم بأسره .. أنف دقيق يشمخ في زهو واعتداد .. شفتان مخمليتان تتطلعان للارتواء ، ثم تمادت نظراتي في جرأتها ، فانزلقت فوق الرقبة ، في طريقها نحو الصدر الذي يضج بالوفرة والسخاء ، ولكن معزوزة أعترضت طريقها بقولها :
- حتى عنيك قليلة أدب زيك .
قالتها بصوت مرتفع هذه المرة ، فتصاعدت همهمات النسوة ، وشرعت عيون في استراق النظر الينا ، فما كان من البائع الا أن اندفع الينا ، وقال مخاطبا معزوزة ، وهو يتفحصني بامعان وحذر :
- الافندي ده معاك ؟.
هزت رأسها ، ثم قالت بنبرة متصنعة :
- أبدا .. أبدا .
قال البائع بنبرة متشككة :
- مش معاكي ازاي .. دا انتو واقفين ترغوا أكتر من نص ساعة؟.
هزت منكبيها ، وقالت بغير اكتراث :
- هو قليل أدب .. ماشي ورايا يعاكسني .
وهنا رجمني البائع بنظراته ، وقال بنبرة متوعدة :
- اتفضل أخرج بره .
سقط قلبي بين قدمي ، وتملكني شعور جارف بالمهانة ، اذ لم يخطر ببالي قط أن تصل رغبة معزوزة في الثأر لكرامتها إلى درجة تضعني في هذا المأزق الحرج ، بل وتعرضني للخطر ، فراودتني نفسي بالانصراف خوفا من العواقب ، ولكن نظرات معزوزة الشامتة أرغمتني على التظاهر بالثبات ، فقلت للبائع بصوت مختنق من شدة الانفعال :
- أنا زبون .. ومن حقي أشتري زي بقية الزبائن . رماني البائع بنظرة غاضبة متحفزة ، ثم صاح ، وقد أحتقن وجهه ، ونفرت عروق رقبته :
- اخزي الشيطان واتفضل أخرج بره .
نظرت الى معزوزة معاتبا ، ثم مستنجدا ، ولكنها خذلتني ، بل وأخرجت طرف لسانها في محاولة صبيانية لاستثارتي ، فكتمت غيظي ، وصحت في وجه البائع ، وأنا أتظاهر بالتماسك :
- هو ده مش دكان ؟ أنا مش خارج قبل ما أشتري .
- وأنا مش حبيع لك.
- حتبيع غصب عنك .
- أنت فعلا قليل الأدب .
- وأنت قليل الذوق .
- اخزي الشيطان قبل ما امسح بيك الأرض .
- لو راجل وريني همتك.
( قلتها وأنا أرجو ألا يفعل ) .
تضرج وجه البائع بالحمرة ، ثم انتقلت الحمرة من وجهه الى عينيه ، و بسرعة مذهلة قبض على كفة الميزان ، ولكن قبل أن يقذف بها في وجهي بكل قوة ، كانت معزوزة قد ألقت بنفسها ، لتعترض الكفة بوجهها الجميل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى